ماجدة بوكلوة
التفكيكية و العدمية : انشطار الكينونة في مقابل اندثار المعنى .
لقد آمن الفيلسوف الألماني
"نيتشه" بمنطق "موت الإله" تلك الفلسفة التي دعت
الإنسان الغربي على وجه الخصوص إلى" التحرر " يقيناً منها بأن الإنسان
كائن حر لا حدود تحكمه و لا تشريعات تُقوض استقلاليته ، لتكون بذلك التربة
الملائمة التي احتضنت طفولة الفلسفة الوجودية مع "جون بول سارتر "، ذلك
أنها أغوت الإنسان للحد الذي جعله يعتقد أنه محور الوجود ، فكانت الدعاوي كلها تُفند طرح أن الإنسان
رهين قدره و أن حتمية هذا الأخير تفرض عليه
نوعاً من السلطة ، فالإنسان
الوجودي إذاً يسبق قدره و هو من يصنعه لا أن يخضع له .
و لما كانت مألات و تحولات الحداثة الغربية تُغذي وحش الرأسمالية الذي ما
انفك هو الآخر ينهش جسد الحضارة و يقضم
أنسنة البشر شيئاً فشئيا ، حدث و أن اتسعت
دائرة الجشع الرأسمالي الذي قوض مركزية
الإنسان و نقل بؤرة الاهتمام منه إلى الشيء و المادة ، فتبنت الفلسفة بِعدها
مبحثاً انسانياً طرحاً آخر يُبرر على سذاجته جُرم الرأسمالية و يُهذب حدة الصراع و
التناقض الذي تخلقه تحولاتها بين أنسنة
الإنسان الذي تُشيئه المادة فيخلق الاغتراب و لعل هذا ما وضحه عالم الاجتماع الماركسي لوسيان غولدمان في
كتابه الإله الخفي ، والذي أقر فيه بأن الإله الميت حسب الفكر النيتشوي ما هو
إلى حجة يبرر بها( الله / السيد) غيابه و أن عجز الانسان الوجودي على تحقيق
مركزيته في الكون هو تجلٍ صريح لسلطة( الإله/ الظل) ، و هذا ما يفسر تحول الوجودية
من احتفاء بالإنسان و بمركزتيه إلى عدمية و عبث .
و بحديثنا عن الفلسفة بِعدها روح الدرس النقدي نجد
أن الحركة النقدية الحديثة و المعاصرة قد
نحت منحى هذه الفلسفات ، بل و تبنت
مقولاتها
فنظرية موت المؤلف التي أدلى بها
رولان بارت ماهي إلى انعكاس و ظل لفلسفة موت الإله النيتشوية ذلك أن (موت الإله/ موت المؤلف ) مقولة تقوض الحضور
القصري (لأنا الإله / المؤلف ) بل و تقصيه من الممارسة الديكتاتورية التي يفرضها
على المعنى و على نسق الخطاب فيضيق بذلك نفق التأويل و يستسلم لإرادة ( الإله/
المؤلف ) و على هذا الأساس تتقيد حرية (المتلقي
/ الناقد )و تنحصر ضمن حدود يرسمها المؤلف .
و على الرغم من أن طروحات رولان بارت النسقية قد غيّبت أنا المؤلف و قوضت
حضوره إلا أن لوسيان غولدمان قد أدلى بطرح آخر ضمن ما أسماه ب ( الإله الخفي) و
الذي يفي بأن( سلطة المؤلف/ الإله) على النص لم تندثر بل هي منتشرة في أنساقه و أن حضورها هو حضور
مضمر ، ضبابي و أن هامشية سلطته على النص هي في حقيقة الأمر منظومة من الآثار التي
تُلون ظله و تُعري على مركزيته و هذا ما يؤذي بالضرورة إلى انزلاق التأويل من متن
الخطاب في البنيوية التكوينية إلى الأنساق الثقافية و الاجتماعية ، تلك التي تتصل بأنظمة غارقة في الغنوصية تارة أو
بأنظمة مادية صِرفة ما يجعل المعنى هو الآخر ينشطر ، يتفكك و يندثر حاله كحال
الذات البشرية ، ذلك أن حياة ( المعنى /
الانسان) تتمزق بالضرورة نتيجةللممارسة العنيفة التي يفرضها ( المؤلف / الإله )
عليها ، كونها عاجزة على الانحصار ضمن
حدود زاوية محددة إما لإرادة ( الإله/ المؤلف ) التي تحبسه ضمن عالم غنوصي مُرصع بسلسلة من التشريعات و
الضوابط و إما لإرادة التمرد على حدود (
النسق / النظام ) بالانفتاح على التأويل و التي تصطدم في نهاية المطاف بظل ( الإله
/ المؤلف )
و على هذا الأساس فإن المتتبع منا لصيرورة التفكيكية الدريدية يُدرك يقيناً
معنى أن جاك دريدا قد أفاد من هذه المقولات و الرؤى الفلسفية التي تؤكد بطريقة أو
بأخرى استراتيجيته في تفكيك النص ، تفكيك
المعنى ، و تعريته من الدلالة ثم صبغ النص
بصبغة العدمية و العبثية ، فالنص عبث و الخطاب كذلك عبث و القراءة النقدية التي
تبحث عن المعنى في نسق الخطاب هي الأخرى عبث
.
و لعل من المغالطات التي تناقلناها عن ماهية استراتيجية التفكيك الدريدية
هي الهدم و اعادة البناء ، ذلك أن التفكيك الدريدي يهدم لكن لا يبني لأن بناء المعنى على مقولة (
الاختلاف ) يُقوض التواضع على تأويل محدد
و بالتالي يضيع المعنى ضمن سلسلة من التناقضات التي يخلقها الاختلاف بين الدال و
بين مدلوله ، ضِف إلى ذلك أن مهمة الناقد التفكيكي في مقاربة الخطابات لا تتقصى
المعنى و لا آليات انتاجه و إن كانت استراتيجية التفكيك تروم بتعرية هذه المفاهيم ، ذلك أن مقولة التأجيل أو المعنى المرجأ يجعل
الناقد التفكيكي يفقد بوصلته ببحثه المستمر و المتواصل على شيء عبثي لا يدرك هو
نفسه ماهيته فلو أخدنا على سبيل المثال إحدى المخطوطات الذكورية و قمنا
بتفكيكها فإن أول فكرة سنكونها عن هذه المخطوطة
هي أن النسق الذكوري هو المهيمن على متن
الخطاب وحتى على عتباته و أن حضور النسق الأنثوي
هو حضور مضمر يترامى خلف سادية و خشونة الذكر فتتشكل لنا ثنائية (الحضور /
الغياب ( غير أن هذه المقاربة المنطقية لمقتضيات الخطاب تفقد
صحتها و أحقيتها سرعان ما يؤجل الناقد التفكيكي هذا المعنى إلى معنى أخر ، فإذا
كان حضور النسق الذكوري في الخطاب يدعم غياب النسق الأنثوي سيدفع وفق مقولات
التفكيك الناقد إلى بحث أثار الأنظمة
المتعالية التي خلقت هذه المفاهيم و هو ما يجعلنا نقف امام النظام الأبوي (
البطريركي ) الذي يستحضر هو الآخر النظام ( الأمومي ) و هنا فقط نتأكد من أن أفق
تلك الفكرة النمطية التي بنيناها في اول التحليل حول ( ذكر مهيمن / أنثى مهمشة )
ستصبح ضرباً من ضروب العبث ذلك أن النظام الأمومي يسبق في وجوده التاريخي النظام
الأبوي ما يفسر أن الذكر هو المهمش و أن الأنثى هي المسيطرة و هذا ما نجده تماماً
في أساطير ما قبل الخلق ( في البدء كانت ...) و مما يؤكد سلامة طرحي هو افادة جاك
دريدا من فلاسفة الاختلاف و على رأسهم هايدغر الذي يرى أن الأصل في النوع (
الجندر ) هو انشطار الذات الإلهية إلى (
ذكر / أنثى )
و مما تجذر الاشارة إليه هو أن
مشروع التفكيك الدريدي - و إن كان كلامي يبتعد عن موضوعية النقد – هو مشروع خبيث ،
ملغم و خطير ، يمتد في جذوره إلى خصوصية المعتقد العِبري اليهودي الذي يُقدس مفهوم
العبث و ينادي بعدمية الحياة نتيجة الشتات و الضياع الذي تعلق بالجنس العبري
اليهودي منذ ألاف السنين ، و قد أثبت الدراسات الحديثة التي تروم بنقد جاك دريدا و
طروحاته أن مرد هذه الرؤية الدريدية للإنسان و للنص الأدبي هو بحثه و تقصيه عن
هويته و أصوله العرقية و الاثنية التي عرّت عن انتماءه العبري و بذلك اقتناعه
بانفصام هويته و هو تماماً ما حاول اسقاطه على العالم من خلال تفكيكه لكل الأنظمة
بدءاً بنظام النص .
و هنا سأختتم هذا المقال المتواضع بتساؤل قد يدفعنا إلى التسليم بأن عجلة
النقد الأدبي قد وقعت في شِراك الفكر التفكيكي الدريدي و لحد الساعة لازالت عالقة
في وحله و إن بدا لنا أن هناك من النظريات و الاستراتيجيات النقدية ما ردم التفكيكية
الدريدية .
" المثلية " و هدم " الجندرية " إلى أي مدى احتوى
التفكيك الدريدي انشطار الكينونة ؟
بقلمي :
ماجدة بوكلوة
يوم الخميس 15 فيفري 2024