يوم وقفت ممثلا على ركح مسرح مدينة (وهران)
العقيد بن دحو
ما أشقى فنانا كان أم أديبا أم
مثقفا أوحتى مجرد موظفا ساميا او عاديا لم يغني يوما ، لم يعزف موسيقى ما ، بل لم
يرقص حتى ، و لم يمثل يوما قط في مجرى حياته اي دور من أدوار لعبة الحياة ، حتى ان
كانت تلك اللعبة العميقة الجذور ، لعبة سذاجة بداية الطفولة البريئة ، يوم كان
الطفل أبا الرجل ، و من حيث الرجل ابا الإنسان . لعبة عروس و عروسة او لعبة الشرطي
و اللصوص.
نقول لقد تعلمت و علمت شيئا و غابت عنك أشياء.
كل تلك الأشياء المخملية التي كنا (نلعبها) بوعي منا أو بغير وعي و نحن
صغار ، و نحن يافعين ، و نحن صغار مراهقين ، و نحن شبابا قد أستفدنا ايما استفادة حين احترفنا الفن و الادب و
الثقافة ، او حينما استلمنا وظائفنا أو
حين تقلدنا مهام اخرى..... ذاك أن الفن و العمل يقوم على ما يسمى تراسل الحواس كما
تتداعى الافكار من فن الى فن آخر ، و من جنس ادبي الى جنس أدبي آخر ، و من وظيفة
الى وظيفة أخرى.
يضيق كل ادب و كل فن بذات نفسه ، ان لم تلحقه نفائس اداب و فنون اجناس اخرى
؛ تهز الخلق من ديباجته /(هوراس).
في ثمانينيات القرن الماضي كنت طالبا شابا بمعهد تكوين الأساتذة للعلوم
الفيزيائية بمدينة وهران الباهية. هذه المدينة الساحلية ، المتوسطية ، تلقي غبيك
غلى حين غرة بظلالها و ظليلها الساحر الآسر و تحولك مجبرا لا مخير الى أحد العناصر
المكونة لها الرشيقة الخفيفة المرحة ، تهب ا
عليك نسائم عيق الأندلس.
كنا ندرس داخل هذا المعهد مختلف العلوم التجريبية و التجريدية ، بالمقابل
كنا ندرس الموسيقى و فن المسرح.
ولكم ان تتخيلوا كم كنا محظوظين حين كان يدرسنا الأدب التمثيلي ، الفن
الدرامي أستاذ و ممثل من جمهورية مصر العربية.
كان أستاذ مقربا الينا ، كان يشبهنا كثيرا في حبه ووده ، لم نشعر البتة
بذاك الطابو الحاجز الحائل بين الطالب و أستاذه.
الأستاذ : نادر حسام الدين اراد أن يؤسس فرقة مسرحية تليق بإسم المعهد ، و
تشرفه و ترفع اسمه عاليا في المحافل المحلية و الوطنية.
لست أدري حينها كيف وقع اختياره على اسمي في دور (هيمون) بطولي ، من روائع
ينابيع الفكر الكلاسيكي (أونتجون) للشاعر الدرامي التراجيدي الاغريقي (صوفوكل) ؛ و
باللغة العربية القُحة.
لست ادري كيف رأى إلي هذا الدور البطولي و أنا لا أملك من زاد و عتاد
(وهراني) إلا سُمرتي التي تعلو محياي كل ما تحركت ببنت خطوة ، و كل ما نبشت ببنت
شفة !
ربما رأى مني أن اقوم بهذا الدور اليوناني طبعا و تطبعا أكثر من مجرد
محاكاة.
فجأة صرنا أغارقة أكثر منا عرب شمال أفارقة ، اندمجنا في أدوارنا ، و صرنا
جمعا وفرادى نتدرب على أدوارنا صبحا و مساءا.
حان وقت العرض النهائي ، و حان أن نعرض أمام الجمهور العام مخرجات قدراتنا الإبداعية
الخلاقة ، و ما جادت به مدخلات و متفاعلات تدريباتنا عليه من مختلف التعابير
المسرحية طيلة أشهر متواصلة ليلا نهارا.
جاء يوم العرض الختامي بالمسرح الجهوي لمدينة وهران ، دخلنا فريقا متكاملا
متجانسا أنجما تحفنا الجماهير من جوانب
عدة . شبابا يريد أن يقول شيئا جديدا مختلفا ، ليس لساكنة المدينة و انما العالم
بأسره.
حان الوقت أن نضبط ساعاتنا و ساعاتتا البيولوجية السيكولوجية ، انفاسنا ،
أن نركز أكثر على أدوارنا المسندة الينا ؛ انفصلنا كليا على العالم ، تجردنا من كل
ماهو مادي عائق ، يينما بدا أستاذنا المخرج كمدرب فريق كرة القدم مقبل فريقه على
لعب بطولة كأس مصيرية ضد فريق آخر مجهول... !
ببهو قاعة المسرح جمهورا مختلف الاعمار ؛ من الجنسين ، و من مختلف الشرائح
الإجتماعية ، مسؤولين محليبن ، اطارات ، موظفين و طلبة أيضا.
فترة هدوء.. ينتابنا بعض القلق
الحميد الإيجابي ، كل واحد منا نسي اسمه و تقمص اسم دوره.
ما هي الا دقائق معدودات سمعنا النقرات الثلاث للمسرح التقليدي ، رفعت
الستارة ، دخلت أونتجون يقودانها حارسين وسط تصفيقات الجمهور هزت الكواليس ، قدمت
أونتجون دورها كما يجب ، و توالينا تباعا مل حسب زمانه و موضعه المحددين له
سلفا. كان الركح كان يعرفنا مما قبل
الميلاد.
أنتهت المسرحية في وقتها بالحكم النهائي على اونتجون في وسط التصفيقات
الحارة ، ووسط دموع الجميع جمهورا و ممثلين ، حزنا على تضحية أونتجون الأبية و
فرحا على نجاح العمل الدرامي.
كانت وقفتي هذه مهيبة و رهيبة يوم وقفت على ركح مسرح مدينة وهران و أنا
الشاب الأسمر القادم اليها من أقصى الصحراء. كان يلزمني الكثير حتى يتسنى لي
التأقلم مع الجو هناك.
لكن حبنا للفن اختزل كافة المسافات و ضرب بكل الوحداث ، وجعلنا وجها لوجه
امام مدينة لا تعترف بالمسلمات و لا بالجمود.
صحيح بعد الإنبهار المذهل المدهش الهائل ، و بعد أن اعدتا الى واقعنا
الملموس ، مثلنا عدة مسرحيات اخرى كالإسباتي المغامر للكاتب (ميشيل
سيرفانتيس) ، أو كمرحية في (سييل التاج)
لمصطفى لطفي المنفلوطي.....
غير أن تمثل دور في مسرحية أونتجون عمل رائع ، و أن تقف ممثلا على ركح مسرح
ما عمل و لا اروع !.
اكتب تعليقاً