متى يصير الفيلسوف فنانا
العقيد بن دحو
صحيح في البدء كانت الكلمة ، الكلمة الحكمة التي دونت على لسان الحكيم
ارسطو على اخاديد احدى واجهات معبد دلفي أو دلف : تكلم كي أراك !. و الفلسفة كانت
و لا تزال (فيلو سوفيا) محبة الحكمة.
و على الرغم ما أصاب الفيلسوف من اشكالات و تأويلات اجتماعية في مجرى
التاربخ ، و على الرغم من انفصال فروع بعض المعارف و العلوم عن أم العلوم ، إلا أن
ظل الفيلسوف محافظا على اسرار بقائه و غيرته الفكرية المعرفية و العلمية ، يطرح
السؤال المصيري تلو السؤال على مر الاجيال و العصور.
صحيح الحياة اجمالا هي التي تقلد الفن ، و ليس العكس ، و ليس ما ورد في
كتاب ارسطو " فن الشعر" ؛ على اعتبار جل الفنون الزمكانية محاكاة لأفعال
نبيلة ، و يستحيل على الفيلسوف الباحث عن الحقيقة السرمدية المثالية ان يكون مقلدا
، أو متفقا ضمنيا على الكذب بينه و بين من يتلقى معارفه.
و على الرغم من شعراء الملاحم الإنسانية الكبرى مثل اشعار هوميروس في
الإليادة و الأوديسا أمثولة او في أشعار هزيود في انساب الآلهة أنموذجا كانت تناشد
الخيال أكثر منها الواقع ، إلا أنها عن طريق الأسطورة التي اصبحث ميثولوجيا بعد
سنين من المزاولة و المراس الدرامي ، صار تتضمن هذه الإبداعات الجماعية و الفردية
ملامح بواكير أولية فلسفية ، حين صار الشاعر و الفيلسوف واحد.
و لكن بعد مرور من الزمن ، و بعد تضحيات جسام أستطاع الفيلسوف ان يستقل
بذاته ، و يصنع لنفسه قربى فكرية و مصلى يعود اليه متى ألمت به ضائقة الأسئلة.
لكن يبقى حنينه لأول منزل ، خين يكتشف لا غنى له عن اللغة ، وعاء ليصب فيه
مجمل أفكاره..و حين وجد في الميثولوجية وسيطا بين الفن و الفلسفة ، يين الفنان في
مجرى التاريخ و الفيلسوف المعاصر مَن اضطرته الحداثة المادية و ما بعد الحداثة
العودة الى الأسطورة و منحها تفسيرات تتماشى و لغة العصر و قوالبه التي يسسير
عليها.
لذا لا غرو ان وجدت افلاطون يتسلل خفية خلف أسوار جمهوريته الفاضلة ، و
يقول قولته الشهيرة : أنا مستعد أسافر ايطاليا لأشاهد مسرحية " مليوس
حبيبتي" تلك المسرحية التي كانت تحاكي انتكاسة و هزيمة الجيوش اليونانية أمام
الفرس ؛ التي كانت تسميهم البرابرة Picisstrasse ,، لما شاهدت الجماهير العرض ضجت بالبكاء و
العويل ، حتى قيل كان يسمع نحيبهم مسافات بعيدة مما اجبر الحكومة الأثينية التدخل
و فرضت على الشعب غرامة مالية قدرها 1000 دراخما كما نوفي شاعرها الجميل اسخيلوس
لإيطاليا.
هنا نجد الفيلسوف افلاطون يتخلى عن كبريائه الفلسفي و عن جمهوريته الفاضلة
و يتخندق مع احاسيس وعواطف الشعب النبيلة حتى ان كان الفعل محاكاة.
بمعنى آخر انتصر الفنان على الفيلسوف ، بل قل في لحظة من لحظات لا نكون
فرادى انما جماعة بتردد فينا صوت الشعب من صوت الإله.. و اذا تعلق الشعب بشيء صار
قانونا ، فنا و تاريخا و شعرا و فلسفة.
قد نجد هذا بصورة متجليه في ملهاة الضفادع للشاعر الدرامي ارستوفانز حين
أشار كبار النقاد الألمان و منهم (جوته) Gothe على انها
أكبر نص مسرحي نقدي فلسفي فكري تكثر منه كوميدي ملهاتي يوجه ضربة قوية للتراجيديا الاغريقية..و هكذا
نجد في معظم المدارس و المذاهب الفنية و الأدبية تصورات المؤلفين و النقاد الذهنية
الفكرية أكثر منها الفنية الصرفة..و لعل المدرسة السيريالية هي أهم مدرسة التي
جعلت من الفلسفة فنا و من الفيلسوف فنانا.. ذاك ان الشاعر عند سن (18سنة) مرحلة
الحلم لا يعتبر شاعرا ، إلا اذا تجاوز مرحلة العمرية (20 - 25) سنة و حولوا احلامهم
الى صور ، بينما ان بلغ سن (40 - 45) سنة عليه أن يتخلى على احلام المراهقين ؛
سواء باليقظة أو النوم ، و يتعاهد الفكر -
يبدأ الشاعر موهبة و ينتهي نابغة - يتعاهد الفكر و يصير ناقدا او مفكرا أو
فيلسوفا.
الفيلسوف شاعر سابق لأوانه ، تعاهد الفكر ليعبر عن هواجس افكاره. الفيلسوف
شاعر سابق لأوانه يكتب من ذاكرة المستقبل.
ذاك الفنان (الفيلسوف) الذي مكنته ملكته الإبداعية القبض على اللحظات
المسحورة لحظا و لفظا و اشارة و يحولها الى فكرة تسر الناطرين ، تتراسل عندها
الحواس و تتداعى عندها الخواطر.
أخيرا : لقد كفّ الفيلسوف عن
مجاراة التاريخ و صار فنانا ، يرى رؤية الرسام بالالوان ، رؤية النحاث بالحجوم ،
رؤية الروائي بالإنطباعات المعاشة ، ورؤية الطبيب السيكولوجي بوقائع علم الشعور.
لقد رفضوا فلاسفة الحياة الألمان : شوبنهور الذي قال الهدف من الحياة ،
ههيجل الذي قال صيرورة الحياة ، و شليجل الذي قال نبل الحياة. هؤلاء جميعا و
برتولد بريخت الطبيب المسرحي رفض أن تظل
فلسفته حبيسة دماغه أو حبيسة فلاسفة جيله ، بل جعلها تسري في كيان الناس اجمعين أن
لا يظلون متاملين اتجاه الأحداث (....) بل يدعوهم الى اتخاذ موقف ما. فكرة ما ،
التفكير و التغيير عوضا عن التكفير و التطهير الارسطي.
لم يعد وحدهم الشعراء مصدر تهكم ، غيرة و حسدا من أولئك الذين هم أقل موهبة
و ابداعا.
الشعر جنونا سماويا كما قال افلاطون ، غير أنه الملح الذي يحمي الخليقة من
الفساد.
ايضا لحق الهمز و الغمز و اللمز بالفيلسوف ، و صار في نظر العوام الرعاع
ذاك الشخص الذي دائما يتكلم حينما لم يكن أحدا يريد أن يستمع اليه.
ان صار الفيلسوف شاعرا فأفلاطون بالبدء كان شاعرا..كل ما في الأمر عاد
الفيلسوف الى متكإه الاول أين كان الشاعر و المؤرخ و الفيلسوف عند قلب رجل واحد.
يوم كانت الخرافة ميراث الفنون (نيكولاس فريده)
الشعر يتغذى بفضل لغته ، بينما تتغذى الأسطورة بالمجاز ، الفلسفة بالأفكار
، و التاريخ بالتوثيق
العالم تغير و مع ذلك الاولياء يطلبون من المدرسة و الثانوية و الجامعة ان
تخرج لهم أبناءهم فلاسفة و فنانين مبدعين و لو
بشكل مستتر لأهمية الإبداع في حياة الامم و الشعوب.
أيها الدرويش الفاني مما تخشى....كن فيلسوفا ترى الدنيا بين يديك ألعوبة و
لا تخف السلطان و لا تهب الشيطان......