الصمت الإجتماعي
العقيد بن دحو
في رواية "القلعة" Château للأديب كافكا Kafka تروي قصة
شخصية (K) موظف بلدية ماسح أرضية يحاول عبثأ أن يحاور عليّة القلعة.
الإنسان الذي أصبح (حالة) لا يحتك
إلا بالصغار من ممثلي النظام ، أما ممثلوه الكبار فبعيدون يحيط بهم الغموض ،
فالمرأ لا يكاد يرى موظفا كبيرا مثل السيد (كلام) : كلام كلام كلام في رواية
(القلعة). و بربابا مرءوسه لا يعرف بالذات على وجه اليقين ما اذا كان الشخص الذي
يحدثه السيد (كلام) : كلام كلام كلام أو هو السيد (صمت) : صمت صمت صمت !
لكن هل هو كلام حقا ؟ أليس بالأحرى شخصا فيه بعض الشبه بكلام ؟
ان برنابا يخشى أن يسأل خوفا من أن يكون في ذلك خرقا لقاعدة مجهولة -
القانون لا يحمي المغفلون - فيفقد بذلك
عقله !.
الملاحظ و المتتبع لحالات المجتمع سواء كان الجو العام مدعاة للكلام او
مدعاة للصمت ، بأن ليس كل الصمت صمتا و ليس كل الكلام كلام.
يبدو المجتمع يريد ان يقول كل شيء من خلال لا شيء ، و يريد أن يصمت و لا
يصمت. و بين الحالتين تطرح الإشكال و التاويل ؟
لماذا هذا الصمت الجمعي ؟
يلجأ المجتمع ابى الصمت رغم الأحداث المتوالية محليا و عالميا ، و كأنه وصل
الى درجة التشبع أين لم تعد الأقاويل و كذا الكلام ينحل في اناء الواقع. فكل شيء
بالنسبة اليه صار يغلفه الضباب ، يحيط به الغموض و يكتنفه الشواش.
من أصعب انواع التحرر و التحجج و الإضراب ، عندما يلجأ المجتمع الى الصمت ،
و تعيش المدينة بدورها في دياجير من الصمت الممل ، حيث يخرس الجميع : الحجر و
الشجر و البشر ، و تتوقف الحواس عن تراسل الحواس ، و تتوقف الافكار عن تداعي
الأفكار... عندما لا يجد هذا المجتمع سواء بصفته الفردانية او بصفته الجمعية السيد
(k) من يخاطبه من اهل القلعة. عندما يبعد عن سبق اصرار و ترصد عما
يدور بالقلعة ، عندما يعامل معاملة القاصر ، و تملى عليه من القمة الى القاعدة
سقطات و حماقات الكبار. هناك فقط يسقط على المجتمع سقط المتاع. يغترب ، يهرب من
الواقع ، يلجأ الى الأساطير ، كونه بدأ يشعر بحجم ضخامة (التفريغ) تفرغ الألباب
اكثر مما تفرغ الألسن. لأن لم يعد احد يمثله ، و كل ما هو أمامه نسخ متكررة لشخص
واحد ، تعود نشأته الأولى منذ اللبنة الاولى التي شيدت جدر هذه القلعة العملاقة
المحصنة و المدرعة من أمثال السيد (k) !
كما تبدو جميع وسائل الإعلام الخفيفة و الثقيلة ، الكلاسيكية و الحديثة
عاجزة أن تجعل هذا المجتمع يتكلم أو في حالة كلام. حتى ان كان كلام يشبه كلام !
ذاك أن الشاشة و المذياع و الجريدة عاجزة كل العجز على صناعة الوجه و الصوت
و الكلمة التي يرى من خلالها المجتمع وجهه.
المجتمع يقول اعطونا الكرة و نحن نلعب ، اعطونا الحصان و نحن نكر و نفر ،
اعطونا الأثر و نحن نتكلم التنمية ملك ااجميع القرية و القلعة ، السيد كلام و
السيد صمت ، السيد (k) السفلية و العيئة الأخرى العلية !.
صحيح تاريخيا قبل التدوين و بعد التدوين ، سجل و خلد سقراط أثره الحكيم في
معبد دلفي أو دلف : " تكلم كي أراك" !
غير أن الصمت حكمة !
لذاك تعمد الدول المتقدمة عندما تلمس الصمت الأعم / الشامل / و اللامبالاة
يعم المجتمع الى مساءلته في شكل برامج و مناهج و سبل اخرى تثير النقاش و الجدال ،
و تقتلع من المجتمع الكلام الغائر في اللاوعي و تجعله وعيا يسري في ادمغة الساكنة
من جديد حلما ، كلمة ، فكرة ، و فعلا.
المجتمع يعرف ابنائه بالسليقة ، بالفطرة ، بالفراسة ، و المجتمع حنكته
التجارب و عودة التاريخ ، فصار يطبق المقولة اذا كان الكلام من فضة فالسكوت من ذهب
!
لكن ليس كل ما يلمع ذهبا ، و ليس كل الصمت سمت ، انما كلام مؤجل الى اجل
غير مسمى. و ربما الواحد يقضي عمره صامتا و لن تنبش شفتاه بإبنة شفة.
عندما يصمت المجتمع ويتوقف لسانه عن أي تعبير ، يصعب على الحكومات و
المختصين السبر و الرصد عن أية وحدات أولية معيارية يتم وفقها دراسة و استشراف
اللائق من البرامج و المشاربع المحتملة.
كان لابد من المعالجة للسوسيولوجية الأونثربولوجية للظاهرة و ان الصمت في
زمن الكلام يستحق الكعالجة و المعالجة و التقييم و التقويم و اتخاذ قرارات
شجاعة....يتم من خلالها استرداد واعادة المجتمع صوته المفقود من خلال البروبجندتين
الشعب السيد و السيادة للشعب.
و "البقية صمت" كما ورد على لسان (هاملت) بطل الروائي الدرامي
وليام تشكسبير.