المسرح الاستعجالي
العقيد بن دحو
تعود فكرة " الاستعجالية" Urgence في الادب و
الفن و الثقافة الى تسعينيات القرن الماضي ، زمن الماساة الوطنية ، العشرية
السوداء ، يوم ارادوا بشكل متسرع نخبة من الادباء الجزائريين و المثقفين ان يوثقوا
و يثبتوا مصير وضع ما الت اليه الجزائر انذاك بشكل مريب ، يبعث عن القلق حول مصير
وطن وامة باكملهما.
قد نتفهم هذه المرحلة (...) ببؤسها و بتعاستها. و بشقائها و باناتها
التراجيدية الماسوية ، و قد نتحامل على اتفسنا ، و نتخذ الف عذر لهذا الاديب او
الفنان او ذاك... ، كونه كان المستهدف الاول. يحمل كفنه معه ، مشروع (قتل) اين ما
حل و ارتحل ، خفية او علنية!.
لكن مما زاد الوضع تعقيدا و سخرية قدر ، تلك الايام الثقافية و الاسابيع ،
و الشهور ، و حتى السنة باسم الثقافة. و على راسها سنة الجزائر بفرنسا ، اين نشر
ووزع وطبع لمن هب ودب ، وان يزور بلد العم
سام ، عاصمة الجن و الملائكة باريس ، يوم ذاك كان الاستعجال سيد الموقف ، بل رسخت
فعلا الاستعجالية كمشروع شرخ ثقافي وفني لم يسبق له مثيل في تاربخ الجزائر الثقافي
المكنون.
الواقع و الملموس لدينا ان فكرة الاستعجالية ، ليست وليدة اليوم ، بل ولدت
مع الطارئ القلق ، مع الدادائية ، فئة الدادائيين التي اصبحت فيما بعد تاخذ اسم
السيريالية. يوم كانت المدفعية الالمانية تدك العاصمة الفرنسية باريس. يوم ذاك
اطلق مجموعة نخبة المثقفين و المفكرين شعار : " كل شيئ لا شيئ" 1934.
قد نتفهم المثقفين و الادباء و الفنانين الجزائريين ابان الماساة الوطنية
وهم يستعجلون لغرس شجرة ، و لي شجرة ، حتى ان كانت ازهار الشر للشاعر بودلير Fleurs du mals.... كما قد نتفهم النخب المفكرة الفرنسية ، اولئك الذين كانوا
يحملون القلم في يد و السلاح في اليد اخرى ، يوم كان الجندي المقاتل و الشاعر و
الكاهن يشكلون اسطورة فنان.
اما اليوم والجزائر دولة وحكومة وشعبا ، تاريخا و جغرافية و سياسة و
اقتصادا. و حركية دينامية اجتماعية تعيش في كنف السلم و الامن في حدود انتشار
سياسة و ثقافة التسامح وحوار الحضارة الديمقراطية حرية و مساواة وعدالة. للاسف
لزلنا نرى بعض ملامح ومخلفات تلك الحقبة الثقافية الفنية الادبية الماساة ، تلك
التي تمخضت عن ولادة مسرح و مسرحيات استعجالية The'a^tre d'urgence .
دون تان او مراعاة لقيم المسرح من عهد ارسطو الى برتولد بريخت ، دون مرجعية
او خلفية ثقافية مسرحية ، يحسب صاحبها " كل حشيشة خضرة" كما يقول المثل
الشعبي الجزائري ، او يتعلموا " الحفافة في روس اليتامى" !.
لقد ولى العصر الاستعجالي الخشبي ، يوم كان التسيب و الفساد و العصابة
الثقافية تؤلف و تنشر و تطبع و تخرج ، و تبعث بغسيل ملاءاتها الى السنة الثقافية
بفرنسا !
ماساة حقا في مسارحنا ونحن نشاهد هذا النوع من العبث و الحماقة ما بعدها
عبث و ما بعدها حماقة ؛ اعيت من يداويها . كنوع من التاليف الجماعي ، الاخراج
الجماعي حيلة للتهرب من المساءلة او النقد.
اخوة يوسف ليخلو لهم وجه ابيهم...!
رحم الله زمنا كانت المسرحية (حولية) ، سنة للتاليف ، سنة للمراجعة
والقراءة الايطالية و للتدريبات. و سنة ثالثة للعرض المسرحي امام الجمهور.
لذا لاغرو ان جاءت ثلاثية المرحوم الممثل المخرج عبد القادر علوله ( اللثام
- الخبزة - الاجواد) في قمة الابداع تليق بصمعة تاريخ الجزائر الثقافي. شبيهة
بثلاثية (اسخيلوس) الاغريقية (اوريست - اجاممنون - حاملة القرابين).
لا غرو ايضا ان جاءت مسرحية (الماء....) عن مسرح مستغانم لفارسها المرحوم
غبد الرحمان ولد كاكي في قمة الخلق المسرحي الحديث .
ولا غرو ان جاءت مسرحية (القافلة تسير) لصاحبها المرحوم عز الدين مجوبي عن
المسرح الوطني في قمة العطاء الفني.
لقد ضرب (الذباب) او (الندم) عند جول بول ساتر الوجودي مدينة باريس ، كما
ضربت ماساة اليكترا مدينة اثينا عند الاغريق.
كما ضرب (الارهاب) الاعمي الجزائر و المدن الجزائرية دون اسثناء ، كما ضرب
خيرة ابنائها في جميع الحقول المعرفية العلمية الثقافية الفكرية الفنية ، وجعلنا
نتخبط في دياجير التيه و قتامة اللاادري و من يقتل من ؟ لولا لطف الله و الخيرين
الوطنيين القوميين في هذا الوطن.
ما صدقنا كان كابوسا علينا وانزاح ، و جاءت الجزائر التسامح ، جزائر السلم
لياتي هذا الاستعجال الجديد ، يريد ان يجهض الافكار قبل نضجها ، قبل ان يصير الحلم
شعرا و الشعر فكرة و الفكرة فعلا ! يريد ولادة مبكرة Un nuisance Premature.
ولادة مواليد اطفال (خدج) ، حينها لا يهم ان كانوا عند السابعة اشهر عند
عمرهم او ما دون او فوق ، لا يهم الرعاية الصحية ، و لا يهم الام الحاضنة من الام
الطبيعية ، و لا يهم ان ولد المولود مشوها او سليما ، مادام العرض مضمونا حتى ان
كان الجمهور معنيا او غير معني ، اكتمل النصاب او ظلت الكراسي بهو المسرح شبه
فارغة ، لا يهم الفكرة المسرحية او الفلسفة المسرحية ، و لا المذهب او المدرسة
الفنية ، مادامت تمتاز بالحصانة الشللية ، لا من يسائلها او من يوجه لها سؤال واحد!
كونها خلقت لاناس غير هؤلاء الناس ، ولزمن غير هذا الزمن ، و لمكان غير هذا
المكان ، و للغة غير هذه اللغة!.
خلقت من اجل مسرح استعجالي ، سابق لعصره ،
عصي عن المتابعة ، عن التقيبم و التقويم ، عن الثقاف ، و من يعطيه درسا في
علم الدراما المتانية ، التي تمنح وقتا ، كل الوقت لنضج فاكهة ايكة الفن ابو
الفنون.
نعم هذه الوضعية تليق باولئك الذين كانوا السبب في ماساتنا الثقافية
الحضارية التي لزلنا نعاني من تبعاتها و
ارتداداتها حتى اليوم ، ان لم يستفيق المسرح ورجالاته من هذه الغفلة و الغفوة ،
كتاب لم يدور عليه الحول ، يتحول بقدرة قادر الى مسرحية ، و يدخل تحت باب التنفيذ
المسرحي.
ان المسرح لم يعد لهوا و لا ترفا ، و لا مروحة في ايدي الكسالى ، يبدو انه
بدا حياته هكذا....لكن التقدم الثقافي و الحضاري جعله ثقافة و حضارة ؛ اما اليوم
فهو توعية...تعبئة...وسلاح.
وان ظل الحال بهذا (الاستعجال) سنصل حتما الى نهاية المسرح ، كما وصلت اليه
الاغريق قبل (435 - ق.م) يوم ان جسد هذه
النهاية الماسوية الكوميدية الشاعر الدرامي لرستوفانز في ملهاته الشهيرة "
الضفادع" ، بصريح العبارة : " حين ذهب الاله ديونسيوس الى العالم الاخر
، مملكة الاموات (هيديز) ليسترد واحدا من
الشعراء الثلاث : اسخيلوس ، سوفوكليس ، يوريوبيدز لم يكن قد بقي منهم احدا ، ذاك
ان الماساة اليونانية انتهت بموت السعراء الثلاث ، ذاك ان النسرح اليوناني
انتهى".
لا نريد هذه النهاية التراجيدية لمسرحنا و لا لفنوننا ، و لادابنا ، و لا
لثقافتنا ،
نطلب السلامة لمسرحنا الجزائري ، ويجعل الجسد و النفس الثقافية تتعاقى كليا
مما اصابها من زراية وعقد سيكولوجية سواء ابان العشرية السوداء ، الماساة الوطنية
، او تلك الحقبة و الهرطقة غير الاخلاقية التي اكلت الاخضر و اليابس ابان ايام ،
اسابيع ، شهور ، سنة الجزائر الثقافية بفرنسا او في غير فرنسا ، و كانت مخرجاتها
هذا المسرح الاستعجالي الذي نعيشه اليوم ، مسرح بلا جمهور وجمهور بلا مسرح !.