النميمة الأدبية و الغيرة الإبداعية
العقيد بن دحو
اذا أردنا أن نؤرخ للنميمة الأدبية لن نجد الفترة الممتدة بين (1919 - 1939) التاريخ الذي ازدهرت فيه المدرسة "الدادائية السيريالية" ، سواء في (المذهب) عند الشاعر السيريالي (رامبو) أو في (البيانات) عند الشاعر السيريالي الآخر (بريتون).
كون الأدب عموما يمتاز بالظاهرة الإجتماعية كما يخبرنا بها الناقد العالم
الباحث في علم سوسيولوجية الأدب (اسكاربيب).
صحيح الأدب و الفنون اجمالا لا يكون معبرا عنها إلا اذا كانت من أجل أحد ؛
و في ذاك (الأحد) تكمن " النميمة الأدبية" بكل تجلياتها تلقي بظلالها على المنتوج الأدبي برمته.
أليس الأديب بين دفتي كتابه يسجن مجتمعا بأكمله - أما أنا بإستطاعتي أن
أحمل مجتمعا بأكمله في ذهني (بلزاك) الملقب بالإله - يجري حوارا داخليا بين شخوص نتاجه
الأدبي ، و يعمد الى وسوسة مهدهدة Berceuse فنية ، مشاء هماز بنميم بين هذه الشخصية و
بين تلك كالنار في الهشيم !؟
و مَن ثمة أليس هو ذاك الأديب الذي
ينتقل بحواره الداخلي الى الحوار الخارجي ،
ينتقل به كالبروبجندا تتغذى بالإضافات و التراكم من الفئات الإنتلجنسيا فئة
المثقفين الى الدوائر الشعبية و تعددت الأسباب و الحوار النميمة واحد !؟
ان لم تكن هذه النميمة ذاتها فمن تكن النميمة الأدبية وقتئذ !؟
يعمد الأديب الى هذه الحالة او العادة من اجل تغذية الصراع بين مكونات
شخوصه من أجل انماء عقدة النص باكمله.
و عندما يتدخل في عملية (الفعل الرابع) في المقروئية ، تبزغ شخصية اخرى غير
مرغوب فيها ، لا يحبها الناشرين و يخافها المؤلفين ، تكفي اشارة بسيطة من لدنه أو
مجرد كتابة أسطر معدودات بعدد أصابع اليد الواحدة في جريدة من الجرائد محلية كانت
أو وطنية حول مؤلف ما أو حول نتاج ادبي ما حتى يُرفع الى منزلة التكريم أو يحط من
علِّ !
في هذه الحالة أليس الناقد نمام يفشي الاقوال بين الناس ، ثم أليس النقد
الأدبي نميمة ادبية كما يقول (إليوار) في مذهب الحب!؟
الا أنها نميمة خلاقة لا تترك تبعات اخلاقية أو اختلاقية.
و بين هذا و ذاك هل عرفت الحركة الأدبية الاغريقية في مجرى التاريخ سواء
قبل التدوين أو بعد التدوين حالة مثل هذه الحالات المرضية السيكولوجية
السوسيولوجية ؛ النميمة مرض الأدب و من حيث الأدب هو المرض والجنون التاريخي أيضا
!؟
النميمة الادبية Logotechniká بالاغريقية الفصحى كما يقول افلاطون ، أو هي
Médiance et potins بلغة فولتير ، أو Gossiping بلغة تشكسبير لم يعرفها احد قبل أن يجسدها الشعب الاغريقي في
مآسيه و ملاهيه متمم ومكمل للبناء الفني لا يسمح فيها بهجو أو سفور أو اسفاف . يشير
معظم النقاد الألمان و على رأسهم (جوته) Gothe على أن
ملهاة أو / كوميديا الشاعر الدرامي (ارستوفانز) ملهاة "الضفادع" Frogs النموذج
الأكمل و الأمثولة الأشمل التعبير عن جوهر النميمة الأدبية ، حين ينم ارستوفانز
الكوميدي عن شعراء التراجيديا ، يشي بهم هامزا لامزا غامزا العالم أجمعين ، متشفيا
عن المآل التي آلت اليه التراجيديا و شعرائها بقوله : "حين ذهب الإله
ديونيسيوس الى العالم الآخر ، مملكة الأموات (هيديز) ليسترد واحدا من الشعراء
الثلاث (اسخيلوس - صوفوكليس - يوريوبيدز) لإنقاذ المأساة اليونانية ، لم يكن قد
بقي منهم أحدا ، ذاك يعني أن المأساة التراجيديا اليونانية أنتهت بموت شعرائها
الثلاث" !.
كل ما في الأمر ان هناك نميمة أدبية مبطنة ، مستترة ، يواريها النقد
الدرامي الذي وجهه ارستوفانز لشعراء التراجيديا عامة و للتراجيديا ذاتها خاصة.
هي نميمة لا غبار عليها أو وشاية يوجهها لمن يهمه الأمر و للأغارقة جمعاء
الذين كانوا يرون في التراجيديا التكفير و التطهير الأرسطي من ادران انفعالات
النفس ، و خلاصهم السيكولوجي ، و تقربهم قربانا من ذا الإله او ذاك الإله.
انها نميمة على كل حال ، غير أنها نميمة رحيمة - لا تفقد الود قضية- بناءة ليست هدامة و لا تترك ما ينغز على الذهنية
الأغريقية عندما يدور الدولاب و يكشف الناس كل شيء ؛ لابد منها من اجل تطور
الحضارة الأدبية بالزمكان. غير انها بالمقابل تجر على الأديب حالة اخرى هو في غنى
عنها ، لكنه مضطر أن يأخذ غمار تلافيف دهاليزها و يعيش أوجاعها و أناتها و هي
"الغيرة الإبداعية" بكل ثقلها وأثر حجمها المادي و المعنوي الفردانية و
الجمعي أيضا Jalousie او / Jealousy
بالإنجليزية. لم تعالجها أية مدرسة لا من قبل و لا من بعد بالقدر (كيف..متى..أين...لماذا) التي عالجتها
السيريابية في احلام و غموض شاعرها السيريالي (ملارميه) Malarmé في قصيدته
(الهيروديادية) بالغة الصيت و الإثارة "هيردياد" Hérodiade . القصيدة العصماء المرجع للذات الانانية العليا ، الى حد
النرجسية ، بل الى حد السادية المطلقة.
لم يثعب و لم يقلق الشاعر ملارميه في جل قصائده التي كتبها بقدر ما أرقته و
اعاقته هيرودياد. لم يستطيع التخلص من حبل مشيمتها فيزيولوجيا و بيولوجيا و
انطولوجيا و ابستمولوجيا. تعامل معها معاملة الخبيب لحبيبته ، ملتصقا معها جنبا
الى جنب عضويا غرامشيا و سيكوباتيا .
ثلاثون سنة بشهورها و ايامها ، لياليها و نهاراتها وكوابيسها قضاها مترددا
عليها ، تردد العاشق المتيم الولهان . أستسلم نهائيا لغيرته عليها تماما كما يغار
الرجل على امرأته الجميلة أو حبيبته.
ظلت هيرودياد حبيسة مكتبه محتفظا بها لنفسه . ثلاثون سنة و هو يكتبها يوما
عن يوم لا يريد لها أن تنتهي كما ينتهي أي كتاب أو تنتهي كما تنتهي و تطوى بها أية
قصيدة في مخرجات حضن رجل آخر أو بين يدي ناشر أو قارئ ما محتمل!.
قصيدة هيرودياد ليست مكانها رفوف المكتبات لتباع أو تشترى أو لتزين واجهات
المتاحف ، انما خلقت للتحب و تعشق مكانها القلوب ووطن الحلول !
انها مجنونته الأرضية و السماوية ، لم تكن بالنسبة اليه مجرد قصيدة من حبر
وورق و خواطر مراهق طائشة من هنا و هناك و لغة أضناها التفريغ من نفس وروح !
ثلاثون سنة بمعدل جيل أدبي بأكمله ، ثلاثون شتاءا من عمر الشاعر وهي مخطوطة
أسيرة مكتبه يتعاهدها صبحا و مساءا حتى سُميت "شتاءات ملارميه" !
كانت هذه الغيرة الأدبية الصرفة حين يتملك الأديب ادبه.
كم هي ضرورية اليوم الغيرة الادبية لأي اديب شهم ذو كبرياء و رجولة ، يحترم
فيها نقسه و ملكته الإبداعية اا يكون فيها متاحا للجميع (أمعي) ، أن يغار على نتاجه الأدبي الفكري الفني (بنات
افكاره) لا يسلمه هكذا بسهولة الى المطبعة او الى النشر أو يهديه الى رجل آخر بأية
صفة كانت و بقلب بارد دون أن يرف له جفن.
كيف يطيب لأديب استعجالي التخلص شيء من جسده من. صلب لحمه ودمه بسهولة
فتراه في العام الواحد ينشر عشرة كتب ، حتى اذا كانت ثلاثون سنة من الإبداع كانت
عدد مواليده من الكتب 300 كتابا.
لكم أن تتخيلوا حجم المأساة في هذا النمو الديمغرافي الأدبي . و كيف لا وهو
كان يدعي التنويرية مرجعا ساخرا من اولئك الفقراء الذين ينجبون بالعشرات الأبناء
!. لطالما كسروا رؤوس الناس بفكرة تحديد النسل ؛ اذا ما قورنت العملية الإبداعية
بعملية الولادة البشرية الجينيكولوجية الإكلينيكية السوسيولوجية قبل و أثناء و بعد
الولادتين الييولوجية و الإبداعية.
كيف لوالد ان يسلم ولده فلذة كبده بسهولة الى راع حاضن آخر بهذا اليُسر !؟
كيف لمبدع أن يسلم ما أبدعته يمناه و ما خطه يراعه بسهولة و بعجالة الى رجل
آخر !؟
و كأنه عاجز عن كفالة أسرته أو ان يكون رب أسرة ناجحا !
بل كيف لمحب عاشق أن يسلم حبيبته الى يد اخرى أو الى كتف آخر !؟
أين الغيرة الأبداعية يا رجال أو كما يقول (بلوت) !؟
ان هذه الغيرة الإبداعية ضرورية للتقدم الإبداعي تفكيرا و محاكمة ، و لكنها
ليست بالغيرة المرضية ، تلك التي تكون قي
مقدور الاديب المبدع أن يرفع رأسه مجددا ، لا سيما بعد أن صار الأدب سلطة منذ 1755
، ورسالة الكاتب (صمويل جونسون) Samuel
Johnson الى اللورد
تشيسترفلد) Tshesterfeild . يلتمس فيها طلب مقابلة لنشر كتابه Dictionnaire وطُرد شر طردة من عتبة باب قصر اللورد.
حينها كتب اليه صمويل العبارة المقتضبة التالية : " سيدي لقد مضت سبع
سنوات انتظار مقابلتك من اجل نشر كتابي و طردت من على بابك ؛ وها أنا اليوم على وشك نشر كتابي دون مواساة و
لا ابتسامة محاباة".
هذه الرسالة كانت أول من أرخت للأدب كسلطة تعادل السلطة التشريعية
التنفيذية القضائية ، كما صار الأديب برجل الأدب على غرار رجل الدولة ؛ رجل المال
؛ رجل الاعمال ، و رجل الميدان ، و الرجل المناسب في المكان المناسب في الوقت
المناسب.
كل هذا و ان لم يرفع الأديب المبدع رأسه فيها و يغار فمتى يرفع رأسه عندئذ
!؟
غير أن (بوهور) Bohor اللغوي
الفرنسي كان أكثر تطرفا في غيرته على لغته و أضاق متسعا بقوله " حين ننطق نحن
الفرنسيين هو النطق الصحيح فلغة الإنجليز نقيق ، و لغة الإسبانيين موقع ، و لغة
الإيطاليين خرير ، و لغة الألمانيين زفير ، و لغة الأسيويين صفير...وحدهم الفرنسيون
الذين يتكلمون...يتكلمون...يتكلمون " !
Sauf les
francais qui parlent....qui parlent.....qui parlent....!.
اكتب تعليقاً