الثلاثية في الأدب و الفن و الثقافة
العقيد بن دحو
في مجرى التاريخ ؛ بل ما قبل التاريخ لجأ الأدباء في كتاباتهم الروائية
الأدبية "الثلاثية" لأسباب سيكولوجية سوسيولوجية أونثربولوجية و حتى
أقتصادية صرفة . عندما تدفع الكاتب عدة أسباب و اغراض داخلية و خارجية ، منها لعبة
"المجايلة" مجايلة ابطال رواياته المتسلسلة أبا عن جد و عن حفيد ، او
حتى نتيجة ضغط من لدن جماعة الضغط ؛ الفئة الثقافية الإنتلجنسيا : الناشر ، الناقد
، فئة القراء ودوائر اخرى كالمسابقات الأدبية ، التحفيزات ، النكريمات ، الجوائز
أو التحولات السياسية و الإجتماعية التي يرى فيها الأديب كتغذية راجعة (أثر رجعي)
- تصحيح معلومة أو تأكيدها - ضرورة الحاق
متنه أو سرده الروائي مثلا ، أملته الحتمية التاريخية أو ملموس التغيير الواقعي
الطبيعي ، الذي فرض على الاديب تغيير ما يمكن تغييره أو يمكن الحاقه كأن يصل
متأخرا خير من أن لا يصل أبدا ؛ اذ لا يمكن فصل الظاهرة الإجتماعية عن الظاهرة
الأدبية.
غير أن أحيانا يجب مراعاة مزاج الكاتب السيكولوجي المتقلب، كأن يعمد مثلا
الى وضع نهاية سعيدة لبطله ؛ و اذ به يجدها مأساة فتراه تأخذه العزة بالإثم يحاول عبثا ان ينقذ ما يمكن انقاذه للحالة بعد
أن سبق السيف العدل !. سواء كانت فردانية او جماعية مما تضطره الى كتابة الرواية
الثانية و الرواية الثالثة و هلم جرا....
الصعوبة تكمن اذا كانت مجايلتية فالجيل الواحد ثلاثون سنة فمابالك ان كان
جيلا ثانيا و جيلا ثالثا. أي ان معدل عمر الأبطال في حدود تسعون سنة أو نا يقلرب
قرن من الزمن !. فاللعب الادبي في هذه الحالة مقيدا و إلا يكون متضاربا أو متنافيا
مع سنن طبيعة النسق الادبي المنتهج.
لقد شهدت الحركة الأدبية اليونانية نوعا من الثلاثية الادبية الذي يشهده
عالمنا المعاصر هذا.
لقد عرف الاغارقة "الأورستية" و هي ثلاثية الشاعر الدرامي
اليوناني التراجيدي "اسخيلوس" المتمثلة في : (أوريست - أجاممنون - حاملة
القرابين).
بل أيضا شهدت هذا النوع من الثلاثية عند الشاعر الدرامي صوفوكل في ثلاثيته
الشهيرة :(أوديب ملكا - أوديب في كولونا - اوديب و ثيسيوس في سفر واحد).
كما نجدها مترسخة أكثر شعرا وفلسفة و تاريخا ؛ من حيث يمكن (مؤارخة)
الأسطورة و احالة الأسطورة الى تاربخ عند الشاعر أسخيلوس في ثلاثية المجرد و
المحسوس ، الجبريه و الحرية و الحلولية في ثلاثية أرستوفانز : (بروميثوس جد
البشرية او أبا البشر أو محب البشر - بروميثوس مقيدا - بروميثوس طليقا).
و العديد العديد من الثلاثيات الفكرية قبل أن تكون أدبية. تخاطب الألباب و
العقول قبل مخاطبة القلوب و العواطف و الميول و الرغبات. تخاطب التفكير و التغيير
و الخلق الإبداعي و المحاكمة قبل ان تخاطب التطهير و التكفير.
ومع التقدم الثقافي و الحضاري و كذا الثورات التي شهدتها المذاهب و المدارس
الأدبية و الفنية. و لما كفّت للرواية عن مجاراة التاريخ و صارت فنا من الفنون و
ثري رجل القرن التاسع عشر ؛ اذ أصبح لها رصيدا و أسهما في مصرف التاريخ مع الإله
الروائي (بلزاك) و اقطاعات و اراضي و املاك عدة ، كما أصبح الناس يراجعونها فيما
يخص مشاكل الطلاق و الزواج و المنازعات.... الخ وقتئذ صار للثلاثية معان أخرى غير
تلك البافلوفية الغريزية أو الميكيافلية الغاية فيها تبرر الوسيلة.....!
مع ثلاثية بلزاك : (أوهام ضائعة أو
أوهام مفقودة)
كما شهد في هذا القرن ثلاثية الأديب الروائي العالمي تولستوي.
و لم يحتكر الغرب هذه الثلاثيات اذ انتقلت بحكم التثاقف العالمي الى العالم
العربي كما هي عند ثلاثية الكاتب الروائي الجزائري محمد ديب في ثلاثيته : (الدار
الكبيرة - الحريق - النول/ المنسج).
او كما هي عند ثلاثية الروائي
العربي صاحب جائزة نوبل نجيب محفوظ في : ( القصرين - قصر الشوق - السكرية) و هي
كرونولوجية احداث ادبية متوالية : 1956 - 1957 مكرر.
الثلاثية ليست نتاج أدبي أو تمرين
أدبي يكتبه الكاتب الأديب الروائي على مدى ازمنة و امكنة مختلفة متباينة يضرب بهما
الكاتب الاديب الحديث أو ما بعد الحداثة أهم وحدتي الزمكان ليعبر عن شيئ آخر في
غير زمانه و في غير مكانه. يكتب من ذاكرة المستقبل من جيل يعرفه الى جيل لا يعرفه
بالضرورة.
الثلاثية افكار قبل ان نكون كلمات حوار ، بين جمهور سجين دفتي كتاب يتلاعب
به الأديب و الناشر و الناقد دون محاكمة و جمهور خارجي (قارئ) محتمل شريكا بكيفية
أو بأخرى باللعبة الإبداعية ، لعبة عنيقة الجذور و من حيث الإبداع لعبة الله ، و
الكلمة التي يقولها الجمهور عي نفسها التي يقولها الإله : صوت الشعب من صوت الإله
أو كما قالت الأغريق القديمة.
بل في الغالب ما اثارت فينا الثلاثية سواء في جنس الرواية أو في جنس الشعر
او جنس فني أدبي آخر أسطورة فنان في القصيدة الواحدة أو في الرواية الواحدة،
مقرونة بأفعال ثلاثة : الشاعر ، الكاهن ، و الجندي المقاتل..فاذا كانت من افعال
الشعر الخلق و الإبداع ، و من مهام الكاهن المعرفة فإن من مهام الجندي المحارب فعل
القتل.
بل قد نجد الثلاثية في أرقى و أوج سموها حينما نجدها تتجلى في رؤوس ثلاث :
الكهنوتية - النرجسية - الملائكية.
فيها يحافظ الروائي على اسرار طبائع الشعر ، بل هي النوستالجيا العودة الى
أصول الشعر ، أصول الكلمات الأولى ، الى الأسطورة من حيث الرواية الحديثة أكبر
مجمعا للأساطير ، حين يكتشف ذاته الهائلة المذهلة المدهشة هناك..... مدى خسارته
الاولى و الثانية و الثالثة على مدى أجيال متعاقبة. لم يخسر نفسه فقط يوم ان كان
شاعرا حالما مصورا أو خسر صديقا واحدا ؛ بل ساعتئذ خسر وطنا بأكمله ، يوم ان صار روائيا ثلاثيا.
لم يكن يكتفي بتعذيب جمهوره من الناس ، بل حولهم الى ضمن اشياء من أشيائه أو متاع
من متاعه. يخضعهم الى غرف تعذيبه و يقوم بعذاباتهم و اخضاعهم الى منطق سرير
(بروكست) ، ان زادت قدماه على حجم السرير
قص منهما ، و ان قصرتا شدهما بحبال
حتى يصبحا بطول السرير.. و هكذا الثلاثية الأدبية أنتقلت من الحلم الى الشعر ، ثم
الى الفكر ، ثم الى الفعل .
يبدأ الروائي الأديب شاعرا حتى اذا ماكتب الثانية صار مفكرا و اذا ما كتب
الثالثة صار نابغة او فيلسوفا أو ناقدا.
بالغالب ما ينتهي الادباء عند الثالثة و هو اقصى حد يصل عنده الروائي ، كون
تنتهي عندها مختلف أعمار الشخصيات عند الجيل الأدبي الثالث. بعدها سيكون من
السخرية ان فكر في الرابعة ، سيكون مثله كمثل من يحدث اهل القبور الرميم عن جيل
الذكاء الإصطناعي و عن رجل اعلام المحتوى.