حامد حبيب
حملةُ نابليون والتغيُّرات التى طرأت على شعب مصر
لقد اطلق نابليون على معركة امبابة اسم معركة
الأهرام ، حيث استحثَّ جنوده على القتال قُبَيل المعركة قائلاً : "ايها الجنود إنّ اربعين قرناً تُطلُّ
عليكم من قمّةِ هذه الاهرامات ".
كان من الممكن لو ان المماليك لديهم من الاسلحة
الحديثة مايعادل تلك التى جاء بها نابليون ، ولكن
بسبب العزلة التى فرضتها الدولة العثمانية على
مصر ، جعلت المماليك يعتقدون إن لديهم من القوة
العسكرية مايدافعون به عن انفسهم وعن البلاد...
فالمدفعية الفرنسية الحديثة حصدت مئات الألوف..
وفرّ القادة من المماليك ، ابراهيم بك ومراد بك وغيرهم ، وكان طبيعياً وأهلُ القاهرة يرون قادتهم
وزعمائهم يفرّون من القاهرة فزعاً ، وان يكون كل
همّ ابراهيم بك _مثلاً_ أن يحمل امواله ومتاعه ويفرّ بنفسه ناجياً ، أن تسرى إليهم تلك الموجة من الرُّعب ، خاصةّ عندما سرت إليهم إشاعة نيّة نابليون
حرق القاهرة، وعزّز هذه الإشاعة إن مراد بك عندما لم يفلح فى تسيير سفينته الكبيرة فى النيل بسبب
قلة المياه به ، حرقها حتى لاينتفع بها الفرنسيون،
فظنّ اهل القاهرة إن ذلك بدايةُ الحريق ، فخرجوا
من القاهرة يهيمون على وجوههم ،لايدرون إلى أىّ
جهة يسلكون ، وأى مكان فيه يستقرّون ، فخرجوا من كل حدبٍ ينسلون، حتى كان الحمار الاعرج يُباع
بأضعاف ثمنه،وخرج اكثرهم ماشياً، والنساءحاسرات وأطفالهنّ على اكتافهم يبكين فى ظلمة الليل، واخذ كل إنسان مااستطاع حمله من مال ومتاع،فلما
خرجوا وتوسّطوا الصحراء ، تلقّفهم العربان والفلاحون ، فأخذوا متاعهم ولباسهم وأحمالهم ، اى جرّدوهم من كل شئ،بحيث لم يتركوا لهم مايستر
عوراتهم او يسدّ جوعهم، فكان ماأخذه العرب يفوق
الحصر ، ففعلوا بالمصريين مالم يفعله نابليون وجنوده ، واكتشف القاهريون إنّ ماتوجّسوا منه خيفةً لم يقع ، فلم يحرق القاهرة ، بل بالعكس ،قابل
الشيوخ بالسياسة والترحاب ، وطلب منهم إن يومّنوا الشعب.
ولم يدخل من الفرنسيين إلى القاهرة فى يوم الثلاثاء ٢٤ من يوليو ١٧٩٨م،ماكان يتوقعه القاهريون
جيوش معادية بل عساكر تطوف فى الشوارع
لاتحمل سلاحاً ، تتودّد للأهالى، فإذا اشترى احدهم سلعة ، دفع ثمنها مضاعفاً ، فشجّع ذلك التجّار أن يُظهروا ما كانوا قد أخفوه ، وتهافتوا على البيع للفرنسيين بأضعاف الثمن المُقدّر لاى سلعة ، إذ إن
الفرنسيين كانوا قد غنموا الكثير من اموال المماليك الذين فرّوا وخلّفوا وراءهم فى معركة إمبابة مالا
يقدر عليه وصف.
وكان من المدهش والغريب أنّ أوّل المنشآت التى قاموا بها، إنشائهم المطاعم العامة، إذ فتحوا بيوتاً لصنع الاطعمة والأشربة ، فكانت بداية المطاعم والمقاهي فى مصر، وعلى تلك البيوت علامات تُعرَف بها، فمن اراد الاكل دخل هذا المكان ، وكانت الاسعار محدّدة، وبها موائد من خشب عليها الطعام وحولها الكراسى، فيدفعون ثمن مايأكلون ومايشربون دون زيادة أو نقص.
واتّخذ نابليون تدابير صحية ، بوجوبِ نشر المفروشات على اسطح المنازل لتهويتها وتعريضها
لأشعة الشمس ، وجعل هناك مشرفين لمتابعة تنفيذ تلك الأوامر، فاعتبره المصريون تدخُّلاً فى شئونهم
الداخلية، مما أحنق عليه الشعب.
كما عمد نابليون إلى إنشاء شوارع جديدة عريضة
تحفُّها الاشجار من الجانبين ، إذ كانت الشوارع مظلمة فى وضح النهار ، لأن اكثرها كان مسقوفاً، فامر برفع اسقف الشوارع والحارات ليدخل إليها الضوء، وامر بوجوب كنس الشوارع وإضاءتها بالليل،
وإزالة الابواب التى كانت تُغلَق على الحارات كل ليلة
وبما انها اشياء ضد عادات المصريين ونظامهم، هيج
عليه الخواطر ، ظنّاً منهم إنه مافعل ذلك إلا ليذبح
اولادهم ونساءهم اثناء اجتماع الرجال فى المساجد لصلاة الجمعة بحسب إشاعات انتشرت وروّجت لهذا الأمر.
واصطدم الشعب بما يخالفُ عاداته وتقاليده أيضاً..
وخاصة إنه الشعب المتديّن المُحافِظ على دينه،
بحياة اوروبية تُبيح اختلاط الرجال بالنساء فى كل المجالات، وسريان العدوى للنساء المصريات، فعندما
اتت الحملة ، اصطحب البعض منهم نساءهم،فكُنَّ
يمشين فى الشوارع حاسرات الوجوه ، ويلبسون
الفساتين الملونة المزركشة، ويركبن الخيول والحمير
ويداعبن المكارية والحرافيش، مع ضحكٍ وقهقهة،
فمالت إليهم نفوس اهل الاهواء من النساء، فتداخلن
معهن ، فتبرّجن وخرج كثيرٌ منهنّ عن الحشمة والحياء.
#كان للحملة إيجابياتها وسلبياتها ، وكان للإشاعات
كوارثها الخطيرة..الأهم انها ليست حكايات للتسلية
وإنما للعبرة والموعظة واتخاذ الحذر ، ومعرفة الحُسن من القُبح والنافع والضّار ، وانتبه ايضاً، فلعلّ فى العسلِ سُمّاً يقتلك.
______________________________________
مَن وعَى التاريخَ بِصدرِهِ أضافَ أعماراً إلى عُمرِه
______________________________________
حامد حبيب _ مصر