تحولات الرواية السياسية
بقلم الأديب والناقد: الأستاذ / سيد الوكيل (مصر)
تحولات الرواية السياسية
بقلم الأديب والناقد: الأستاذ / سيد الوكيل (مصر)
____[•] المؤتمر الثاني لمُلتقى النقد الأدبي [•]____
من
(١٠_١٥ديسمبر٢٠٢٣م)
{ اليوم
الرابع }
-----------------
"تحولات الرواية السياسية"
بقلم الأديب والناقد: الأستاذ / سيد الوكيل (مصر)
______________________________
"الثُّوارُ زحفوا طويلاً،
زحفوا من الواقع ، مثلما
زحفوا من
قلبِ الروايات ،
ومن كُتبِ التاريخ والفلسفة،ومن النكات والمُلح، وكتب
الفكر والكتب المقدّسة، ومثلما زحفوا أيضاً
من المقابر والغُرَز والعشوائيّات"(1).
شهلا العجيلي (أكاديمية سورية)
........................................
دقة المصطلح ورحابة التطبيق يُفهم الأدب السياسي في الغرب ، على أنه ذلك الأدب
الذي يتخذ من جدلية العلاقة بين الحاكم والمحكوم موضوعا
له، مع التأكيد على أن هذه العلاقة تتجلى في موضوعات شتى، تشتبك بالواقع السياسي
مثل: القضايا التي تتعلق بالفساد والممارسات الحزبية، وحقوق المواطنة والحق في
العمل ، وغير ذلك من الموضوعات التي تدخل
في صميم العلاقة بين الإدارة السياسية للدولة والمواطن، وهى في الغرب، قد قطعت
شوطا كبيرا في نظمها الديمقراطية، وتعبر عن نفسها خلال قنوات قانونية مثل صناديق
الانتخابات أومن خلال برامج الأحزاب ومنظمات المجتمع المدني، لذلك، فإن الحاجة
للأدب السياسي، ليست ملحة بوصفها فنا أدبيا، بقدر ما هي قناة مضافة للتعبير عن
الرأي في نمط العلاقة بين الحاكم والمحكوم.
كما يمكن تحديده في أطر فنية بسيطة على نحو ما يذهب الناقد الأمريكي (
جوزيف بلونتر)"*"، حيث يرى أن الأدب السياسي لابد أن يتخلص من تقنيات
الأقنعة مثل: الرمز والإسقاط، ليكون أقرب إلى المباشرة. وتعتبر السخرية والكشف عن
المفارقات اللاذعة ضرورات فنية تستهدف القارئ وتحريضه. بهذا المعنى ، فإن الأدب
السياسي ـ في الغرب ـ يحدد ملامحه ويعرف نفسه على نحو مستقل، ومختلف عما هو في
بلدان لم تحظ بنصيب مناسب من الديمقراطية، كما يحدد وظيفته على نحو واضح: إنها
استهداف الجمهور وتحريكه، بمعني أنه يتجاوز التحفيز واستنهاض الوعي إلى التحريك
لحيز الفعل.. إنه أدب تحريضي بكل مواصفات الدعاية والتحريض.
غير أن حال الواقع السياسي ـ العربي ـ
يختلف اختلافا جذريا، نظرا لوطأة طرائق المراقبة وأساليب القمع فضلاً عن
غياب الشفافية، ونتيجة لهذا الوضع بدا الحراك السياسي ـ نفسه ـ أكثر التباساً
واشتباكاً مع واقع الحياة اليومية ومن ثم أكثر تعقيداً في رؤية الكاتب الروائي له،
سواء من حيث العلاقة بين الحاكم والمحكوم، أو من حيث تأثير هذه العلاقة على الحراك
المجتمعي في أبسط صورة الإنسانية، حتى أن العلاقات العاطفية تبدو شديدة الاشتباك
بالواقع السياسي على نحو ما نجده في مجمل كتابات بهاء طاهر فالأنثى تحضر بوصفها
رمزاً لوطن مستحيل محبط ومنفي في روايتيه( قالت ضحى ـ الحب في المنفى.. ). وفشل
العلاقات العاطفية والإخفاقات الجنسية يتحولان ـ في كثير من الأعمال الأدبية ـ إلى
رمز يعكس أزمة المثقف العربي واغترابه، وقد جسدت أعمال إبراهيم صموئيل هذا المعني
كما نجد في قصة (المقبرة) من مجموعة (رائحة الخطو الثقيل )"2"، فالمناضل
السياسي مؤرق بملاحقات أمنية طوال الوقت، ولكنه
ـ في نهاية الأمر ـ إنسان له احتياجاته الطبيعية، أما أزمة بطل هذه القصة
فهي البحث عن مكان آمن، يلتقي فيه حبيبته بعيداً عن عيون الرقباء، لحظة يخلع فيها
ثوب المناضل ليكون إنسانا فحسب، فالعسس في كل مكان والخوف يملأ الشوارع والبيوت،
يفكر في الاختباء داخل مقبرة مع حبيبته، لكن المقبرة مكان لا يصلح إلا للموت. هكذا
تصبح الحياة .. مجرد الحياة الطبيعية أمراً مستحيلاً في وطن تستبد به طرائق القمع
السياسي. وهذا المعنى يتكرر في صور شتى، حينما يصبح جسد المرأة مرادفا للوطن، إنه
الوطن المستحيل أحياناً، وفي أحيان أخرى، هو الوطن المغتصب.
يمكننا، في سياق المقارنة بين الأدب السياسي في مفهومه الغربي، والممارسة
العربية له، أن نتفهم وجه نظر ( آلان روجرز) "3" عن شحوب الأدب السياسي في الثقافة العربية،
مفسراً ذلك بغلبة أشكال النفي والحصار والمطاردة، بل وتقطيع الأرزاق التي تمارس
على الكاتب العربي، حتى أن كاتباً مثل ( حنا مينا ) يضطر للعمل مرة حلاقاً وأخرى
حمالا ليتكسب قوت يومه.
لقد تفهم ( روجرز ) أسباب شحوب الأدب السياسي على نحو ما يفهمه ناقد
أمريكي، لكنه، لم يدرك حجم الحضور المراوغ والملتبس للمعني السياسي في الأدب
العربي. حتى أصبح حاضراً بين السطور وبصفة شبه دائمة في كل نص. وإلى هذا المعني تشير الناقدة ( فريدة النقاش
)"4": إلى نوعين من الهجرة يدفع
الكاتب إليهما قسراً، الهجرة خارج الوطن، والهجرة داخل الذات في آلاف من الأقنعة
ومن الأسماء المستعارة، والمخابئ المجازية والعزلة الإجبارية عن الجماهير، التي هي
بمثابة المنبع الحقيقي لمادة الأدب السياسي.
تجليات الخطاب السياسي
ما نخلص إليه هنا، أن هذه الوضعية المعقدة والمراوغة للموضوع السياسي وضعته
بين موقفين متخالفين:
ـ أنه حاضر بشكل شبه دائم في الأدب العربي.
ـ أنه لا يصل ـ على نحو كاف ـ لجمهور القراء. ومن ثم يفقد هذا الحضور قيمته
في كثير من الأحيان.
لهذا، فإن القطع بوجود رواية سياسية في الأدب العربي على نحو خالص
ومستقل كما يحدده ( جوزيف بلونتر ) يبدو مستحيلا، ومن
الأجدى أن نبحث عن تجليات الخطاب السياسي في الرواية العربية، بدلا من البحث عن
رواية سياسية. فربما تتقاطع هذه التجليات
مع أنماط أخرى للرواية أكثر استقرارا وشيوعا، بل وأكثر رحابة في استضافة التجليات
السياسية وأكثر إمعانا في إخفائها بين ثناياها ودهاليزها الفنية الثرية. ويبدو أن
هذا التصور، يفسر لناـ أيضا ـ قلة استخدام
مصطلح ( الرواية السياسية ) في الدراسات
النقدية العربية، لقد عنى النقاد باصطلاحات أكثر دقة وخصوصية داخل النوع الأدبي
الواحد كقولنا: الرواية الاجتماعية، أو رواية الخيال العلمي أو الرواية
التاريخية... وغير ذلك، و في المقابل استخدموا مصطلح ( الأدب السياسي) للإشارة إلى
شيوع الموضوع السياسي وتسربه في مجمل الأنواع الأدبية. قد يكون المصطلح أقل دقة، ولكنه يعنى: تجليات
الخطاب السياسي في الأدب.
فالباحث الفلسطيني (إبراهيم طه
)"5" يطرح تصوره عن الأدب السياسي باعتبار طبيعة الخطاب أو وجهة النظر
التي يتبناها الكاتب ويدفعنا إلى أن نتبناها معه، لذلك فالأدب السياسي ـ بطبيعته ـ
دعائي ومنحاز، إنه ينطلق من أيديولوجيا واضحة، تسعى إلى إقناع القارئ بعدالة
موقفها، ومن ثم التأثير فيه وتغييره، بغض النظر عن الأساليب المستخدمة، سواء كانت
إخبارية مباشرة، أو مختبئة وراء أقنعة فنية، لكنها في النهاية ، يجب أن تبعث برسائلها للقارئ على نحو مؤثر.
إن المفهوم الذي يطرحه ( إبراهيم طه) يبدو أكثر رحابة واتساعا، بحيث يجعل
الرواية فضاء قادرا على استيعاب الخطاب السياسي في مستوياته المختلفة: المباشرة
والفنية، وبهذا المعني يقبل أساليب أدبية مختلفة، سواء قامت على أدوات رؤيوية
وتحليلية أو انفعالية غنائية أو خطابية تحريضية . وعليه، فإن الباحث، في معرض بحثه
عن الأدب السياسي، لا يستقصي أنماط النوع الأدبي، إنما يستقصي أنماط الخطاب في
العمل الأدبي، بحيث يمكننا التعرف على
المعني السياسي في الرواية حتى لو
لم يكن
متمركزا في بؤرة السرد بوصفه موضوعا. وقد حدد الباحث أنماط الخطاب السياسي
في ثلاث علاقات، تمثل كل علاقة طرفي صراع على النحو التالي:
1ـ نمط العلاقة بين الحاكم والمحكوم (الشّعب والسّلطة).
من حيث اهتمام الكاتب بفضح أنظمة
الحكم، وممارساتها القمعية من اعتقال ونفي وتعذيب، ويكفي الإشارة إلى أن شيوع هذا
النمط، أكسب الأدب السياسي تصنيفات أكثر خصوصية مثل : أدب المنافي وأدب السجون.
والرواية التي تتعرض لنمط العلاقة بين الحاكم والمحكوم تلجأ عادة إلى أساليب
وتقنيات غير مباشرة في تسريب خطابها إلى القارئ، فرواية ( الزيني بركات ) " 6" لجمال ألغيطاني تقدم نفسها
بوصفها رواية تاريخية، مستوحاة من وقائع حقيقة جرت في الفترة قبيل سقوط دولة
المماليك في قبضة الدولة العثمانية، تلك التي تولى فيها ( بركات بن موسى) منصب
والي الحسبة. تتعرض الرواية لأشكال الفساد السياسي في تلك الفترة، حيث تحولت دولة
المماليك إلى صورة مقيتة للدولة البوليسية، يتفشى فيها شراء الذمم والخيانات
والمؤامرات وعمليات المداهمة والسجن والتعذيب في أبشع صوره. وعبر القناع التاريخي
يتمكن الكاتب من الإسقاط على الحاضر، بالإشارة إلى نظام الحكم البوليسي في مصر
إبان فترة كتابة الرواية.
2ـ نمط العلاقة بين الأمّة والاستعمار.
حيث يظهر موضوع العلاقة بين الشرق
والغرب على خلفية إمبريالية تعكس ممارسات العدوان، وتفضح أطماع الغرب وأساليبه
العديدة في الاستحواذ على مقدرات الشعوب، ومن ناحية أخرى تبين درجات الوعي والقدرة
على مقاومة أشكال الهيمنة.
وتمثل ( موسم الهجرة إلى الشمال ) منعطفا هاما في مسار الرواية التي ترصد
نمط العلاقة بين الشرق والغرب الاستعماري، حتى أنها اعتبرت نموذجا عالميا لرواية (
ما بعد الاستعمار ) وأسست لفرع جديد، ليس في مجال الدراسات الأدبية فحسب، بل وفي
مجال الدراسات الثقافية أيضا.
وقد ظهر نمط العلاقة بين الأمة والاستعمار على نحو واسع في الرواية
التاريخية، لكنه لا يستخدم التاريخ بوصفه قناعا يتخفى خلفه ليسقطه على الحاضر، بل
بوصفه نموذجا مضيئا يحظى بسبق الاحترام لدى القارئ، إن كاتب الرواية التاريخية
الذي يعالج نمط العلاقة بين الأمة والاستعمار، يعرف جيدا مزاج النوستالجيا
العربية، وتقديرها للماضي الذي يرقى إلى القداسة، بما يعجل القارئ مؤهلا لاستقبال
رسائل النص، التي تستهدف إيقاظ الوعي القومي، وتستعيد صور البطولات وحكايات
المقاومة الشعبية.
3ـ نمط العلاقة بين الفرد والمجتمع.
وهو النمط الأكثر شيوعا والأكثر
تعددا في زوايا النظر وفقا لأيديولوجيا النص، كأن يعكس صراع طبقات المجتمع وطوائفه
،وهيمنة رأس المال وانتشار الفساد في مؤسسات الدولة، وهذا النمط يتجلى في الرواية
الاجتماعية على نحو بازغ، ويتداخل في مفاصلها كافة، بحيث لا يمكن الفصل بين ما هو
سياسي وما هو اجتماعي. بما يشير إلى تعقد الموضوع السياسي في الواقع العربي
واشتباكه بمفردات الحياة اليومية للإنسان المصري، ولنجيب محفوظ نصيب وافر في هذا
النمط، على نحو ما نجد في أعمال منها:ميرامار، ثرثرة فوق النيل، الحب فوق هضبة
الهرم، أهل القمة.
التحولات
وفي مصر، زادت الحاجة إلى الاختباء وراء أقنعة السرد
بعد ثورة يوليو وهيمنة المؤسسة العسكرية على مقاليد الحكم في البلاد، مما
حدا بالروائيين إلى ابتكار وسائل أسلوبية وتقنيات جديدة، إمعانا في تضليل الرقيب
السياسي، حتى يصعب القطع بوجود مستقل للرواية السياسية في مصر خلال عقدي
الخمسينيات والستينيات. إذ ظلت هذه التسمية، جهداً تأويليا خالصا، ووقفا على
النقاد والمشتغلين بالأدب.
وقد استمرت هذه التقنيات منذ الجيل
المؤسس من الروائيين أمثال: " إحسان عبد القدوس وفتحي غانم ونجيب محفوظ
" تراكم أساليبها المراوغة لتمرير خطابها السياسي بطرائق شتي، لتنتقل إلى
روايات الجيلين الثاني والثالث كما نجد عند: " جمال ألغيطاني ويوسف القعيد
وبهاء طاهر وغيرهم" وفي هذا السياق.
وصلت الرواية السياسية غاية من التركيب الدلالي والتعقيد الفني في نهاية الثمانينيات،
ومن ذلك نذكر رواية ( زهور سامة
لصقر)" للروائي أحمد زغلول الشيطي. التي أمعنت في لغة مجازية مركبة وإحالات
رمزية لمعان إيديولوجية، في وقت، كان ـ فيه ـ الأدباء الجدد يتأهبون لاستقبال
التسعينيات بلغة أكثر شفافية، وبالبعد عن الخوض في الموضوعات الأيديولوجية
والقضايا الكبرى، واستبدال الكليات بالذاتي والشخصي واليومي ورصد تراكمات الواقع
المعيش بكل تفاصيله الهامشية والعابرة، فبدا المشهد الروائي في التسعينيات وكأنه
يرغب في التخلص من مزالق الخطاب السياسي تماما، غير أن ذلك لم يكن سوى الصمت الذي
يسبق العاصفة، فمع بداية الألفية الثالثة ظهرت رواية علاء الأسواني ( عمارة يعقوبيان ـ 2002) لتستعيد المعنى
السياسي إلى الرواية بقوة وربما كان هذا واحداً من أسباب شهرة واتساع
مقروئيتها.
ومن الطريف أن امتدت آثار الأقنعة الفنية في الرواية الاجتماعية إلى (
عمارة يعقوبيان). فالرواية تذكرنا في بنائها وأساليب الإسقاط فيها، برواية
(ميرامار) لنجيب محفوظ. غير أنها نجحت في
تشخيص الواقع السياسي على نحو واضح وشفاف
رغم نزوعها إلى الواقعية الاجتماعية، قد يعود هذا ـ بعكس ما انتهت إليه زهور سامة
لصقر ـ إلى بساطة الأساليب اللغوية التي تقف في كثير من الأحيان عند المستوى
الإشاري، ونزوعها للمباشرة التي ألقت بظلها على لغة الحوار فبدت طويلة وصريحة قدر
الإمكان. قد يكون ذلك، نتيجة للاستخدام السطحي للرمز، ليشير ـ بما لا يدع مجالا
للشك الفني ـ إلى وقائع وشخصيات يعرفها القارئ ويعاصرها. حتى كاد أن يكون الهم
الأول لقراء هذه الرواية ـ ومن واقع متابعة شخصية لمستويات التلقي لها ـ هو التعرف
على المشهد السياسي سواء بوقائعة الشهيرة أو بشخصياته الأكثر شهرة، هكذا بدت
الرواية نفسها مرجعية للواقع وأكثر كشفا ووضوحا له. فبعد أن كان الواقع الاجتماعي
مرجعية للرواية السياسية، صارت الرواية السياسية مرجعية للواقع. وكأن الرواية في
رصدها المباشر للواقع ، ولغتها بالغة الإيحاء، قليلة الالتباس، صارت منافسا قويا
ومعادلا فنيا لبرامج ( التوك شو ) التي تبثها الفضائيات لفضح وتعرية المشهد
السياسي.
على أية حال، حققت ( عمارة
يعقوبيان ) تداولا قرائيا واسعا بين فئات مختلفة من القراء، أكثرهم لم يكن على
علاقة وثيقة بالإبداع الأدبي. بما يعني، أن الواقع السياسي أصبح ضالعا في ثقافة
الحياة اليومية، ولم يعد هما مقصورا على النخبة من المثقفين والسياسين. لقد صار الشارع المصري سياسيا بامتياز، والناس
أصبحت تدرك الموضوع السياسي إينما كان، سواء على صفحة جريدة أو على قناة تلفزيونية
أو على شبكة الإنترنت، أو في رواية، مادام الخطاب متواصلا مع وعى الناس ومعبرا عن
همومهم السياسية التي تمس حياتهم اليومية.
لهذا، لا أجدني مبالغا أن أقول: إن رواية ( عمارة يعقوبيان ) مثلت لحظة
فارقة في تاريخ الرواية السياسية العربية. هذه اللحظة بدت وكأنها تنهي تاريخ
الاكتناز بتقنيات وأساليب الرمز والإسقاط والتعبير المجازي، وتبشر بولادة جديدة
لها من ناحية أخرى، ولادة أو تخارج من رحم الرواية الاجتماعية التي حملتها لما يزيد عن نصف قرن. لهذا لم يكن من قبيل
الصدفة، أن شهد العقد الأول من الألفية
الثالثة ـ وحتى الآن ـ دفقا مثيرا وموجها
نحو رواية سياسية في المقام الأول، أكثر تخففا من الالتباس برواية الواقعية
الاجتماعية، ومن ثم أكثر انغماسا في الواقع السياسي وفضحا له، لتقف على حدود
المباشرة في كثير من مواضعها على نحو ما نجد في رواية ( تماره ) للكاتب رامي
المنشاوي ( دار الناشر ـ 2008) والتي تسببت في اعتقال كاتبها نتيجة لحدة نبرة
الإدانة والتحريض ضد نظام مبارك. وهكذا بدا أن الرواية السياسة تستقل بنفسها عن
رواية الواقعية الاجتماعية، لتدرك هويتها الخاصة، وكان عليها أن تمارس موائمات فنية
عديدة، بين وضوح المعني السياسي، وجماليات المعنى الأدبي، وتكتشف ـ لنفسها ـ طرائق جديدة في التعبير لا
تجهد القارئ بغموضها ولا تحرمه ـ في نفس الوقت ـ من متعة الفن وجماليات التشكيل
السردي. ومن هذه الطرائق، السخرية من الواقع السياسي ورموزه، ولم يكن من قبيل المصادفة،
أن السنوات الأخير قبيل ثورة الخامس والعشرين من يناير، ازدهر فيها الأدب الساخر
وارتبط بالمعنى السياسي على نحو بالغ. ولعل الكثير من روايات ما قبل الثورة، اعتمد
كتابها على خبرات وتجارب عاشوها بأنفسهم، من خلال ارتباطهم بتنظيمات وأحزاب
سياسية، أو انخراطهم في منظمات حقوقية، فامتلكت الرواية روحا شديدة الواقعية مجسدة
لخبرات دقيقة وتفصيلية من واقع أقسام البوليس والتظاهرات والتجمعات السياسية فضلا
عن متابعات إخبارية موثقة من محاضر الشرطة وملفات القضايا والصحف. وقد بدا هذا
واضحا في رواية ( شوق ) لخليل أبو شادي التي صدرت عن دار صفصافة في نهاية ( 2010)
وتواكب تداولها في المكتبات مع ثورة 25 يناير، لهذا اعتبرت أول رواية سياسية تصدر
بعد قيام ثورة 25 يناير. وعلى الرغم من أن الرواية انهمكت في نمط الواقعية
الاجتماعية، إلا أن الخطاب السياسي فيها
لم يتوارى وراء الأقنعة الفنية المعتادة، بل حقق استقلالية تجعله أكثر وضوحا
ونصاعة داخل الموضوع الاجتماعي للرواية.
وثم فضاء آخر أفادت منه الرواية السياسية، وهو الفضاء الافتراضي على شبكة
الإنترنت، سواء على مستوي التقنيات والأساليب المستعارة منه، أو على مستوي الخبرات
القرائية والمعرفية بالموضوع السياسي. وهو فضاء اتسم بمناخ أكثر تحررا لبعده عن
المراقبة والملاحقة الأمنية، كما أنه أكثر انفتاحا على القضايا العربية والعالمية،
بما يخّلص الرواية السياسية من انغلاقها على الشأن المحلي. وفي هذا الصدد، نذكر
رواية ( إيميلات تالي الليل ) "9" وهى رواية مشتركة بين كل من : الروائي
المصري ( إبراهيم جاد ) والكاتبة العراقية ( كلشان البياتي ) فقد استعارت الرواية
أسلوب المحادثات في غرف الدردشة والرسائل الإليكترونية، فالرواية كلها عبارة من
محادثات بريدية متبادلة بين شاب مصري ( حسن ) وفتاة عراقية ( منار ) والقارئ يمكنه
أن يعرف أن هذين الاسمين، مجرد اسمين افتراضيين ( nick name ) للكاتب والكاتبة، وهو عرف شائع على مواقع
الإنترنت أن يقدم الناس أنفسهم بأسماء افتراضية.. والرواية على هذا النحو التفاعلي
تتناقل همومها وقضاياها السياسية في فضاء سياسي عام، وإنْ تمركز حول غزو قوات
التحالف للعراق، بما يعكس اتساع وعي المثقف العربي بتعقد الموضوع السياسي الذي
أصبح يتجاوز حدود العلاقة بين الحاكم والمحكوم، نتيجة لتعقد المصالح السياسية
وتشابكها في ظل سياسات العولمة وأساليب الهيمنة الجديدة التي لم تعد تطال المواطن
العادي في نمط معيشته الاقتصادية فحسب، وإنما أثرت ـ إلى حد كبير ـ في نمط الثقافة
التي يعتبرها المثقف خطا أحمر وأخيرا لمقاومة الهيمنة الاستعمارية. كما أن الرواية
عكست ـ على نحو واسع ـ أزمة المثقف العربي، سواء على مستوى عزلته المفروضة عليه
واغترابه عن واقعة من ناحية، أو على مستوى توتر العلاقة بينه وبين السلطة الحاكمة
من ناحية أخرى، ومن ناحية ثالثة،
استوعبت أنماط التغيير الواسع في المشهد
السياسي العالمي.
و ما نخلص إليه هنا، أن الخطاب السياسي في مصر، راح يتخلص من أقنعته التقليدية ولاسيما مع بداية الألفية الثالثة،
ووجد لنفسه مسارات جديدة تميزه عن رواية الواقعية الاجتماعية، وكأنه يبحث عن استقلاله وهويته الأدبية كجنس مستقل.
ويمكن متابعته وهو يتحرك على مهل من خطاب الواقعية النقدية، إلى خطاب الاحتجاج ثم
التحريض، وهو تحول أعرب عن نفسه بما يقطع مجالا للشك، في السنوات الأخيرة قبيل ثور
ة 25 يناير،، ولم يعد غريبا أن نجد رواية تتوجه بقصديه مباشرة إلى المعني السياسي،
بدون اختباء وراء أقنعة سردية، إنها تفصح
ـ في كل مناسبة ـ عن مقصدها الذي لا يكون بالضرورة الفن ولا التوثيق ولا
حتى التوقيع بشهادة كاتبها على عصره، بل بهدف مركزي لا يمكن تجاهله، وهو التحريض.
من الاحتجاج إلى التحريض
في هذا السياق ينبغي أن نفرق في مباحثنا عن الأدب السياسي ـ الذي عاد بقوة
في السنوات العشر الأخيرة ـ بين خطاب الواقعية النقدية التي تستهدف التغيير عبر
عمليات صغرى من الجدل الاجتماعي باختلاف طبقاته وشرائحه، والخطاب التحريضي الذي
يستهدف التغيير الثوري، الذي رافق السنوات العشر الأخيرة من نظام مبارك..
فالأول: له اتساع الرؤية وديمومة الأثر، بوصفه كاشفا وناقدا للعلاقة
العضوية بين الحراكين: السياسي والاجتماعي. إنه خطاب تنموي، إصلاحي أكثر منه ثوري،
أشبه بوقفات احتجاجية، تستهدف شحذ الوعي، وتنشد التغيير الذاتي، ومن ثم، فهو خطاب
موجه إلى الطبقة الأعمق في الوعي، ويتسلل إليها عبر شروط جمالية وبلاغية.
الثاني : ينطلق ـ بالضرورة ـ من مخطط تعبوي، مستهدفا القاري على نحو مباشر،
وفي سبيل ذلك قد يستعين الكاتب بكل الحيل الممكنة، لهز وعي القاري، وشحذ مشاعر
الغضب، وتحفيز الرغبة في التغيير الثوري. ومن ثم، قد يتغاضي الكاتب ـ قليلا أو
كثيرا ـ عن متواضعات الفن السردي ومواصفات الخطاب الأدبي ولغته، ولكنه يدرك ـ في
نهاية ـ الأمر أنه بصدد عمل روائي، يستلزم الشروط الأساسية لوجوده، بوصفه عملا
فنيا.
وفي رواية ( الحب والزمن ) "10" لا يتردد ـ سعيد سالم ـ في شحن
روايته بكثير من حيل الاستهداف التحريضي، سواء تلك التي ترقى إلى مستوى التشكيل
السردي في صوره الفنية والتعبيرية والرمزية، أو تلك التي تتاخم حدود المباشرة
التعبوية في نماذجها التسجيلية والتوثيقية، فضلا عمّا يفيد به من لغة اليوميات
والتقارير والرسائل والمقالات الصحافية سواء تلك التي ترد بنصها وبأسماء كُتّابها،
لتضفي سمتا توثيقاً صريحا، أو تلك التي يشير إليها أو يقتبس منها على سبيل
الاستشهاد.
وفي هذا الصدد، سنجد نصوصا كاملة
ومنقولة عن: تقارير لمنظمات حقوقية وأحكام قضائية وتصريحات لسياسيين وتعقيبات
إخبارية وعبارات مختارة وردت في كتب أو مقالات أو برامج تلفزيونية. لقد بدت
الرواية، في جانب كبير منها، بحثا موثقا عن الوضع السياسي لمرحلة كتابتها، لهذا ،
لا نندهش، حينما نعرف أن الرواية التي كتبت (2006 ) ـ ونشرت على حلقات بجريدة
الدستور (2007)، قبل صدورها عن روايات الهلال ( 2011) تتجاوز التحريض إلى استشراف
حتمية قيام الثورة كنتيجة لمقدمات الشحن التحريضي. ففي نهاية الرواية سنقرأ
مقتبساً من نجيب محفوظ، يأتي على لسان إحدى شخصياته (عبد ربه التائه ):
"ـ متى ينصلح حال البلد؟
ـ عندما يؤمن أهلها أن عاقبة الجبن أسوأ من عاقبة السلامة؟
ـ وكيف تنتهي المحنة؟
ـ إن خرجنا سالمين فهي الرحمة، وإن خرجنا هالكين فهو
العدل.""11"
هذا الحوار القصير عند محفوظ، ملهم إلى درجة أنه قد يكون دافعا لكتابة
رواية على هذا القدر من الشحن التحريضي والنقد المباشر، خلافا لأقنعة الرمز
والإسقاط التي اعتادها جيل الأساتذة ـ أمثال محفوظ ـ في أدبهم السياسي. لكن .. لا
ننسى، أن كلمات عبد ربه التائه، امتلكت من الفاعلية وديمومة الأثر، ما ألهم سعيد
سالم لكتابة رواية على هذا القدر من الجرأة والعنف التحريضي.
تنتهي رواية (الحب والزمن) بنبوءة عبد ربه التائه، لتفتح أفقا استشرافياً
لحتمية الخروج، مع إقرار بطبيعة المغامرة، وقبول احتمالاتها من سلامة أو هلاك. هذه
اللحظة الاحتمالية، بين مسارين متناقضين هي ـ بالضبط ـ نهاية الرواية، أما
بدايتها، فتختار لحظة أخرى، لكنها مغامرة ـ أيضا ـ عندما يجد المهندس مراد عامر
نفسه على المعاش بعد حياة وظيفية بلا حصاد، فيقرر أن يخلع البذلة ويرتدي الجلباب،
ثم يتحول إلى صاحب مقهى، يطلق عليه مقهى الشعب، كأنما يخون طبقته المسترخية،
وينحاز للطبقة الشعبية التي راهن عليها لإحداث التغيير، إنه إنصات دقيق لمقولة عبد
ربه التائه: " عاقبة الجبن أسوأ من عاقبة السلامة " فهل ثمة مصادفة أم
هو التصميم الكلي المسبق لبناء الرواية ؟
ألذي يضع حياة مراد عامر على المحك منذ البداية، إنها لحظة، فاصلة بين مسارين
متناقضين في حياة بطلها.. هل ثمة مصادفة ـ مرة أخرى ـ أم هو التصميم الكلي المسبق
الذي يجعل الرمز في تسمية المقهى ( مقهى الشعب ) على هذا القدر من الشفافية التي
تقف على تخوم المباشرة، إن القارئ العادي، حاضر في ذهن الكاتب، وعليه أن يمرر
مقولاته التحريضية بأكبر قدر من الشفافية، وعلينا ـ نحن القراء ـ مراقبة الكثير من الإشارات التي ترد في الرواية
لتؤكد التصميم المسبق الذي يطلبه العمل الفني. حتى لا تتحول الرواية التحريضية إلى
بيان سياسي أو وثيقة تنظيمية من تلك التي تكتب بالروح والدم.
يقول الراوي مع أول سطر في الرواية:
" أثار قراري المفاجئ بشراء المقهى في أرجاء حياتي العائلية
والاجتماعية زوابع عاصفة بين الاستنكار والدهشة والإعجاب والرفض والغضب والقبول
المتحفظ"ص"5 ".
كان المهندس ( مراد عامر ) قد أحيل إلى المعاش بعد حياة وظيفية متواضعة،
ولكنها مستقرة إلى حد ما، لهذا، يبدو شراء المقهى وارتداء الجلباب بدلا من البذلة،
وسعادته بلقب ( المعلم ) بدلا من المهندس
وصحبته للحرافيش من أبناء السوق. كل هذا يبدو بمثابة ثورة على حياته التي عاشها
قبل هذه اللحظة، بكل ما فيها من استقرار وظيفي يرقى إلى مستوى الجمود، وفتور يرقى
إلى مستوى الإحباط، رافق حياة أسرية مجدبة.
هكذا جعل ( سعيد سالم ) من حياة بطله (مراد عامر ) وتحولاتها معادلا
موضوعيا للواقع السياسي الذي تعيشه مصر ، ومعبرا عن الرؤية السياسية التي يطرحها،
فضمن للرواية المستوى الفني الذي تمضي عليه في مسار الحياة الشخصية لبطله، سواء من
حيث اللغة أو التشكيل السردي، وهذه الضمانة الفنية أعطت الكاتب الحق في خروجات محسوبة ومقدرة لتفخيخ
الرواية بكثير من أساليب الفضح والتحريض المباشرين، وكأنما يعد الرواية كلها
للانفجار في لحظة ما.
لم يكن من قبيل المصادفة ـ أيضا ـ أن يستهل المهندس مراد عامر تلك الحياة
بهزيمة وطنية ونفسية هي هزيمة يونيو حزيران 67. في نفس عام الهزيمة تخرج وعين
مهندسا وتقدم لخطبة زميلته وحبيبته سميرة، ثم عاش ـ بعد ذلك ـ سلسلة من الهزائم
والإخفاقات الصغرى في حياته الوظيفية والأسرية، بلغت ذروتها عندما اضطرت سميرة
للعمل في الخليج، بينما بقى ـ هوـ في
الإسكندرية يجتر إحباطاته ماضياً في رحلة اغترابه، يحاول أن يتغلب عليها، مرة
بصحبة ندماء البار وأخرى بالحج والتردد على المسجد. كان خط الانهيار يمضى، حتى
يقترب من حواف الخيانة مع نرجس، زوجة صديقة مدحت العيسوي. فيما هو يغالب مخاوفه عن
( سميرة ) في رحلة اغترابها في الخليج وما يمكن أن تتعرض له من إغراءات وضعف قد
يفضي إلى خيانتها له.
كان شراء مقهى الشعب بعد الإحالة إلى المعاش، بمثابة لحظة فاصلة، بين ماضي
الهزيمة، ومستقبل يعد بتغيير لا يعرف كنهه، لكنه يبدأ بحياة جديدة للمعلم مراد
عامر، وصحبة جديدة لأدباء اعتادوا التردد على المقهى، وحب جديد لامرأة شابة ( غصون
). ولدينا الكثير من الشواهد على الانقسام الذي حدث في شخصيته، مودعا ما مضي،
مستشرفا ما هو آت بكثير من الحذر والترقب، إنها مغامرة، لا تقل خطورة عن مغامرة
عبد ربه التائه، باحتماليها: السلامة
والهلاك. هكذا ، يمكن ملاحظة التماثل الدلالي، بين بداية الرواية ونهايتها، لندرك
أهمية التصميم المسبق لرواية جيدة الصنع. فكل منهما لحظة ثورية بامتياز، دفعته
للعودة إلى كتابة يومياته التي كان قد بدأها مع هزيمة 67، ثم توقف مع الوقت، لكنه
يكتبها هذه المرة بوعي جديد، وبروح ثورية ترصد مظاهر التحلل والفساد وتفضح ممارسات
نظام مستبد.
جاءت لحظة شراء المقهى، بمثابة ثورة على ماضي الهزيمة، وبداية مرحلة من
يقظة الوعي والمتابعة لكل حدث أو خبر، ومن ثم، تنقسم اليوميات إلى حركتين مختلفتين
تماما يظهران في مسار السرد وتسير كل منهما في خط
زمني مختلف:
الحركة الأولى: هي مراجعة الخط الشخصي وتأمله والوقوف على مبررات الفشل.
حيث الزمن هنا استرجاعي، والعالم شخصي حميم معجون بالخبرات الشخصية، والعلاقات
إنسانية عاطفية، لهذا ، تنزع ـ هذه الحركةـ إلى هيمنة الراوي العليم وشغل مساحات
السرد عبر لغة أدبية تنزع إلى تعدد مستويات التشكيل الجمالي.
الحركة الثانية، ترصد مظاهر الانحطاط السياسي، حيث ينزع خط الزمن إلى
ملاحقة الحاضر وربما استباقه، وفيه تتوسع مساحات التعبير لتتجاوز اليوميات الشخصية
إلى التسجيل والتوثيق والتحليل السياسي، والاستشهاد والاقتباس، ومن ثم تنزع اللغة
إلى التقريرية والمباشرة، كما يميل الكاتب إلى الإفادة من تقنيات التحريض ، التي تنمح المؤلف حضورا ـ
بذاته ـ في النص، يصل إلى مستوى توجيه الخطاب إلى القارئ لكسر الإيهام على طريقة
بريخت، أو الإفادة بنصوص مكتملة لسياسيين وصحافيين مثل: وائل الإبراشي، إبراهيم
عيسى، جورج إسحاق، يحي الجمل ... الخ.
وهذا من شأنه أن يعمق الطابع
التسجيلي، ويزيد من كسر الإيهام أو التخييل الروائي الذي وجدناه في الحركة الأولى.
إن خطا الزمن يمضيان إلى أقصى حد، غير أن كلا منهما يتضمن لحظة مفصلية، هي
بمثابة نقطة الانقلاب الدرامي في حياة مراد عامر، الأولى تأتي في بداية حياته،
وتتجسد في يوم استقباله لخبر هزيمة 67 فى عنفوان طموحه لحياة واعدة بعد أن حصل على
بكالوريوس في الكيمياء بدرجة متميزة، والثانية في يوم انتهت رسميا تلك الحياة بقرار الإحالة إلى
المعاش.
لكن ، من المهم جدا، أن نشير إلى أن هذا الفصل بين الخطين، هو إجراء نقدي
بالأساس، فيما الرواية تعمل على تحريك الخطين في مسار سردي وفني متجانس من غير أن
يذوب أحدهما في الآخر تماما. سنشعر ـ طوال الوقت ـ بهذا الفصل نتيجة لتنوع
العناوين الداخلية وارتباكها، بين ملفات مرقمة كما نجد في الملفات رقم (2)، فيما
لا نجد الملف رقم (1) ونجد بدلا منه ملفا معنونا بـ ( الملف الصهيوني)، وثمة أجزاء
كثيرة نجدها معنونة بأسماء شخصيات من الرواية نفسها، وأخرى معنونة بأسماء شخصيات
عامة وشهيرة في الواقع. وكثيرا، تزيح هذه الشخصيات الراوي تماما، وتتوجه بنفسها
إلى القارئ مباشرة. يحدث هذا في حين أن الرواية تبدأ فصلها الأول( أكبر فصول
الرواية ) بدون عنوان، وتدخلنا مباشرة في فضاء السرد الروائي بضمير المتكلم، حتى
يطمئن القارئ إلى أننا أمام نمط من السرد التقليدي.
نعزو هذا الارتباك في بناء الرواية، إلى انشغال الكاتب بتوظيف أكبر عدد من
الحيل الفنية التي أشرنا إليها سالفا، لكن هذه الحيل، هي المسئولة عن انتشال
الخطاب الروائي من مستنقع الإيهام، والمحاكاة المفضية إلى التطهير، ومن ثم نجحت
الرواية في نقل خطابها التحريضي إلى القارئ، عبر كثير من النقلات والصدمات التي
مارستها عليه بقسوة، كانت مطلوبة لزوم الاستهداف التعبوي. لم يكن ثمة شيء ناعم
ومغوٍ ومستلب في رواية تستهدف هز الوعي يعنف.
وعلى الرغم من مستويات المباشرة والكشف الفاضح لنظام الاستبداد السلطوي،
وفساده الممنهج على الأصعدة كافة، فإن الكاتب، لم يتردد في استخدام تقنيات سردية
قديمة شاعت في الرواية السياسية، ولعل أبرز هذه التقنيات شيوعا: الرمز والإسقاط.
وهنا تجدر الإشارة إلى أن هذه التقنيات القديمة رغم شيوعها، مازالت قادرة إضافة
لمسات جمالية للعمل الأدبي، على نحو ما نجد في
" في صدارة المقهى نظرت إلى صورة حسني مبارك المعلقة، أسود إطارها،
وغام زجاجها بفعل الزمن، ودخان المعسّل وأبخرة الشاي والقهوة وأنفاس المستسلمين،
معالم وجهه كادت تختفي..." "13"
الشاهد السابق، يحضر في النص بقوة الرمز، بوصفه معادلا بصريا للزمن
وتأثيراته على مقهى الشعب الذي اشتراه مراد عامر ليبدأ معه حياة جديدة، لكن
المفارقة تكمن في أن المقهى بدا قديما ومتهالكا ومستسلما لمصيره بصورة مزرية. ومن
ثم، ينعكس هذا على مستقبل مراد عامر نفسه، ويمثل تحديا له في وقت يبحث فيه عن
تغيير جذري في حياته.
وعلى مستوى آخر فصورة رئيس
الجمهورية ترمز لشيخوخة النظام وفساده وتحلله، لقد غام زجاج الصورة حتى كاد وجه
صاحبها أن يختفي، كأنما هي نبوءة باختفاء النظام كله من المشهد، ضمن عملية تغيير
كبرى تحدث في الواقع، وهكذا، يمتد أثر الرمز ليسقط على كل من: الحياة الشخصية
لمراد عامر، والواقع السياسي لمصر في لحظة واحدة. وهما الخطان الأساسيان لحركة
السرد في الرواية على نحو ما أشرنا سابقا.
إن اللغة، والوصف، على ما فيهما من طاقة رمزية وبصرية، يحققان إنتاجا فنيا
للدلالة في تراث الرواية السياسية، ولطالما كانت الرواية السياسية في مصر، وعبر
تاريخها الحديث، قادرة على إرسال خطابها الفكري والأيديولوجي، ومعبرة عن وجهة نظر
كاتبها عبر هكذا تقنيات أعتمد عليها المبدع في خطاب التغيير. لكنها، أمام وضعية
مركبة من أشكال التداعي السياسي، وانسداد الأفق، والجمود، الذي عاشه الواقع
السياسي إبان السنوات العشر الأخيرة من حكم مبارك، لم تكن كافية، كما لم يكن
التغيير نفسه كافيا، بقدر ما كان الاستهداف التعبوي للثورة هو المنشود، ومن ثم ،
لامناص من الإفادة من الحيل والتقنيات الأكثر مباشرة ووضوحا من قبيل: التقارير
والمقالات والإحصائيات والوثائق، وهو الاتجاه الذي سارت إليه الرواية في الأغلب
والأعم من مفاصلها، ربما يقلل هذا من رصيدها الفني والجمالي، ولكنه، بالتأكيد، يحقق
الهدف التحريضي، الذي نظن أن الرواية كتبت له. ولا مناص ـ أيضا ـ من رصد واستقصاء
دقيق لكل خطايا النظام، فلا يكاد الكاتب يفلت واقعة دون الإشارة إلهيا، كواقعتي
الاعتداء على القضاة، أو تصدير الغاز لإسرائيل، أو غير ذلك من خطايا النظام، ربما
يبدو أن كثيرا منها يقتحم السرد ويهبط عليه من خارجه، ولكنه في سياق التحريض
والاستشراف الثوري، يجد ما يبرره.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
The political novel _ Folcroft Library Editions (1976) Joseph Leo Blotner : *
1ـ شهلا العجيلي: أطباق
طائرة ـ مقال عن ثورة 25ينايرـ
بجريدة الثورة السورية ـ عدد 15/2/2011
2ـ إبراهيم صموئيل: رائحة الخطو الثقيل ـ دار الجندي للنشر ـ القدس ـ 1988
3ـ ألان روجرز ـ الرواية العربية ـ ترجمة حصة إبراهيم المنيف ـ المجلس
الأعلى للثقافة ـ القاهرة ـ 1998.
4ـ السابق.
5ـ إبراهيم طه ـ الأدب والسياسة ـ مادّة محاضرات ـ جامعة حيفاـ كليّة
الآداب والعلوم الإنسانيّةـ قسم اللغة
العربيّة ـ العام الدّراسيّ: 2010
6ـ جمال الغيطاتي ـ الزيني بركات ـ دار الشروق ـ القاهرة ـ 2005
7ـ صنع الله إبراهيمـ تلك الرائحة ـ طبعة خاصة ـ 1966
8ـ وجدي الأهدل ـ حمار بين الأغاني
ـ سلسلة آفاق عربية ، الهية العامة لقصور الثقافة ـ القاهرة ـ 2010
9ـ إبراهيم جاد الله وكلشان البياتي:
إيميلات تالي الليل ـ دار إيزيس للإبداع والثقافة ـ المحلة ـ 2011
10ـ سعيد سالم ـ الحب والزمن ـ روايات الهلال ـ القاهرة ـ عدد يوليو
2011
11ـ السابق ص 224
12 ـ السابق ص 5
13ـ السابق ص23