الحرب و فجيعة المسرح
العقيد بن دحو
لطالما أرتبط الأدب التمثيلي اليوناني بالحرب أكثر منه بالسلم . فالكاتب
الشاعر الدرامي المعتدل (صوفوكليس) كان في البدء رجل حرب و أباه كان صانع سيوف
ودروع . ورث عنه صناعة هذه الأسلحة البيضاء ، ثم قائدا للجيش الأثيني ، شَهِدَ عدة
معارك و انتصر في مواقع كثيرة.
لذا عندما تدرس جل اعمال صوفوكل ، يوريوبيدس ، و اسخيلوس تجدهم ذات مرجعية
و خلفية حربية. حتى أن ذهب المخيال الجمعي الأغريقي ان جسد الشاعر يوريوبيدز
الدرامي مرهف الحس ، وقيعة سقوط مذينة مليوس ،
على خشبة المسرح ضجّت الجماهير بالبكاء حيث نوفي شاعرها الى ايطاليا. تدخلت
الحكومة انذاك و فرضت على الجمهور الذي شهد العرض 100 دراخما.
جل المدارس و المذاهب الفنية
الأدبية التي جاءت على انقاض الكلاسيكية كانت ذات أُس و أًسس حربية بالمقام الأول.
كما نجدها في المدرسة / الرمزية : ذاك الأدب و الفن الذي يقرأه القارئ
العادي و لا يفهم منه الا ما ظهر ، أما القارئ الخاص الثقف اللقف فلا يقف عند هذا
(الظاهر) انما يغوص في أعماق باطن الفكرة و التفكير.
أنا البحر في احشائه الدُر كامن **** هل سألتم الغواص عن صدفاتي.
ظهرت الرمزية القرن التاسع عشر في باريس فرنسا و الحرب العالمية على أشدها
، جسدها و شخصها الكاتب (هنريك ابسن) في مسرحيته الشهيرة "هيدا جبلر".
هيدا جبلر عند الكاتب الناقد (جيني لي) ليست امرأة سليمة سوية ، بل سلاحا
فتاكا . انها هي نفسها ذاك السلاح الذي يحكم احداث المسرحية برمتها.
قد نجدها في "التعبيرية" و "الوجودية" و
"السيريالية" مع العديد من الكتاب الوجوديين و السيرياليين بين (1919 -
1939) و الحرب العالمية على أشدها و على أوجها ، و المدفعية النازية تدك الحصون و
الثخوم المتقدمة الدفاعات الأمامية الباريسية.
اندرجت الحرب عموما سواء قبل الحرب العالمية أو بعدها تحت جدارية
"جنون التاربخ" ؛ اذ لم يعد الناس تفكر وفق منطق الملائكة و لا حتى وفق
منطق البشر ، انما وفق منطق "ابليس" ؛ أي وفق قوته التدميرية.
تبدو الحرب في ظل السلاح الردعي المنضب و المخصب ، و في ظل الصواريخ
الباليستية العابرة للأمكنة و للأزمنة ، و كذا الطائرات الشبح ، و طائرات دون طيار
، و كذا مختلف الأسلحة و المعدات الحديثة الإلكترونية الرقمية و جيوش إلكترونية و
ذباب إلكتروني جعلت الجميع خاسرا معركة و حربا .
تكفي لحظة من لفظة سذاجة البداية
لما يحدث بين ايران ولسرائيل من كر و فر من حين الى آخر ، من حالة حرب و اللاحرب ،
و الطرفان يعرفان بعضهما أكثر من نفسيهما.
ايران التي كانت تسميهم اليونان القديمة "البيسيستراس" Picisstrasse
اي "البرابرة" و لعل حادثة غزو الفرس مدينة مليوس اليونانية التي
أدمت مقل الأغربق جميعا ، لا يزال الغرب عموما يعاني من هذه العقدة !.
تبدو المعركة بين ايران واسرائيل متفقا عليها سلفا زمانيا و مكانيا بحيث
الرد ورد الرد عبثيا ، ألاعيب مشاعل أطفال ، شانها شأن المسرح " الإتفاق على
الكذب" ، حين يكذب الجميع على العالم على أنها الحرب الضروس ، و في نفس الوقت
كل طرف يعرف حدوده يضرب في مناطق مفتوحة لا غالب و لا مغلوب.
الطرفان يتقمص الدور ، يوهم نفسه على انه يحارب ، و الجمهور من خلف الشاشات
بدوره يقوم بلعبة الوهم الكبرى ! أن ما يتجسد امامه من تعمية و نمش وشواش هو عين
الحقيقة.
أعذب الشعر أكذبه .
الحرب منذ 1919 صارت رؤية ، لا تقل عن رؤية الفنان الرسام يرى بالألوان ، و
النحاث يرى بالحجوم ، و الروائي يرى بالإنطباعات المعاشة او كما هو في علم النفس
علم الشعور.
الحرب صارت فنا زمكانيا من الفنون ، تماما مثل الشعر جنونا سماويا كما يقول
أفلاطون.
الناس فيما تعشق مذاهب و فيما تكره فالحرب و السلم أيضا مذاهب و مدارس و
تيارات و بيانات.
أين صار الشاعر و الكاهن و الجندي المحارب مقرونة الحالات الثلاث هذه بأفعال ثلاث :
الشاعر فعل الخلق او الإبداع ، الكاهن فعل المعرفة ، و الجندي المحارب فعل
القتل.
هذه الأفعال الثلاثة بدورها تجسد أسطورة فنان.
الحرب فجيعة المسرح حين ترفع الستارة و تقرع طبول الحرب بنقرات الثلاث
المتعاهد عليها بالمسرح الكلاسيكي التقليدي الأخلاقي ...هناك على الركح و عندما
يدور الدولاب يبزغ تمثال الفجيعة ؛ مظاهر الدم حتى الركب ، ضحايا اطفال و نساء و
شيوخ لا شأن لهم بالحرب ، قتلى و ما هم بقتلى ، امتزجت اشلاءهم ، بقايا اطرافهم
بلعب اطفالهم التي فككتها أفتك أنواع الأسلحة المحرمة و المحللة دوليا !
لم تكتمل بعد المشاهد و الفصول لتعلن الجهات الممولة و الراعية للحرب عن
اسدال الستارة ، عن ابشع تمثال تنجزه (تبدعه) اطراف الحرب ، تمثال من بقايا أحذية
ممزقة ، نعال قديمة ، ألبسة بالية ، ارواح تتصاعد كل دقيقة ، انفاس مفجوعة تبحث
عما يشبه الحياة ، ثمة فقط سيكون المنجز المأساة " كل شيء لا شيء" ! قد
اكتمل نموه
حرب لا بداية و لا نهاية لها ؛ فجيعة المسرح التقليدي و الحديث و ما بعد
الحداثة مأساة...تعاسة....
شقاء...تراجيديا الإنسان المعاصر...يعيش وهو لا بدري لما يعيش ، و يموت و
لا يدري لما يموت !.
و حتى أن الشجرة رجاء و ان قطعت اغصانها و جفت و سقطت اوراقها فبإمكان من
رطوبة الأرض أن تبعث الحياة في خراعبها.
بينما الإنسان يموت بالحرب بلا امل بلا رجوع فأين الإنسان اذن في هذا
المشهد المسرحي الكبير المفجوع التي لم تسدل ستارته بعد.
ما أشبه الحرب و الحزب و الأدب في زمن لا احد يجيد دوره التاربخي و لا
الراهن و لا الإستشرافي ، في زمن كل شيء لا شيء !.