عبد القادر الغريبل
ضريح
عبدالقادر محمد الغريبل
سار بخطوات متثاقلة يجر قدميه
بإصرار وحزم، يروم اللحاق برتل على طريق معشوشب بنبات الفليو والزعتر البري،
والميرمية تضوع أريجها الندي، بين أشجار الصنوبر الفلين والسرو التي رطبت حرارة
الجو بظلال أغصانها المورقة، حتى أدركه عند سفح جبل أشم الذي تفرع منه مسالك وعرة،
غصت بجموع غفيرة في حركة دؤوبة كمسارات
قرى النمل، جيئة وذهابا، صعودا ونزولا، انغمر بين حشد يحدوه شوق كبير للمزار،
فطالما راودته تلك الرغبة الذاتية أن يحج إلى مرتع البركة، التي افتقدت في زخم حياة لغمها طغيان الماديات، وبمشقة
وعناد بلغ ذروة الجبل الذي عج ببني آدم، رجالا ونساء، شيوخا وشبانا الذين وفدوا من
كافة الأنحاء للتبرك والدعاء الصالح
لشرفائه، وتشنيف الأسماع بترتيل الذكر الحكيم،
أحس كأسير انزاح عنه ضيق جدران حبسه، لحظات قصار.. انساحت فيها نفسه، كأنما
على سجيتها، متناغمة مع ما حولها، فينعم بأحاسيس ارتياح واطمئنان ..لحظات قصار ليس
إلا ..ثم يداهمه شعور بانقباض ..وبعض توتر
يركن إلى انكسار وحزن، قعد يستجمع قواه
وبعدها استوى واقفا واندفع بهمة وحماس بين الجموع لداخل الضريح الذي اكتنفه هدوء مقيم ..الناس من حوله
قد حفهم خشوع كبير، قعودا أم مضجعين، وقوفا أم متحركين في تؤدة ورزانة وقد استكانت
قلوبهم إلى طمأنينة، متشوقة مشاعرهم في لهفة إلى الكرامات التي سوف تفيض
...بمثابرتهم على التضرع والإبتهال، هذا يرتل بخشوع،
،وتلك تهمس بخفوت، وآخر قد أرسى الكتاب الكريم على مسند خشبي، يلاحق الآيات
بعين خاشعة، وبين بين جلست شابة القرفصاء
محملقة في وجوه الوافدين، مسنة أخذتها نوبة نحيب فأخذت من حقيبتها اليدوية
منديلين، أحدهما مسحت به دموعها والآخر مسحت به نظارتها الطبية ثم تبثتها فوق
أرنبة أنفها، ورجل اتكأ على مرفقه وطفق
يمرر حبات السبحة بين يده، شاب تكور على نفسه فغاص في رقاد عميق، وامرأة تمشي
متمسحة بقدسية المكان تهوى تقبيلا على كل ماهو بارز وناتيء، أو تباين شكلا أو موضوعا
مع ما حوله، مقابض نحاسية كانت أم نقوشا زخرفية، من معدن أو خشب، غلفت الجدران
والشبابيك.
ويشعر ...بإرتياح كبير، بانفراج بعد انقباض، انحسر عنه ذلك الضيق الذي كان
ممسكا بخناقه، انسابت بداخله فيوض الاطمئنان،
امتدت يده تنزلق على السياج البراق الذي يتحوط المدفن، أحس برهبة تسري في
أوصاله، هنيهة لفه هدوء عجيب.. بل ثقة وشعور بالذات "يارب..." دعاء
يتصاعد من أعماقه، زفر به داخله الذي تغلغل فيه نور الإيمان والهداية، ليخرج من
المقصورة وقد انقشعت همومه وانفرجت أساريره كما في الأيام الخوالي.
بقلم عبد القادر محمد الغريبل