عبودية الشعر و عبودية الإنسان
العقيد بن دحو
هل شهد الأدب الإغريقي و لا سيما الأدب التمثيلي بشقيه التراجيدي و
الكوميدي نوعا أو لونا من أنواع أو ألوان العبودية ، سواء في المادة نفسها أو في
الإنسان الشاعر الأديب المثقف المفكر ؟
دعنا نقر أولا ان الإنسان و الشعر ، شأنهما واحد و مصيرهما واحد ، شأن
اللغة و الدين طرفان متلازمان في قضية واحدة...صحيح تتأثران بطبع الجماعة و تطبع
السياسة بالمقام الأول.
و على الرغم من ان التراجيديا كانت بالغالب نتاج فكرا سياسيا متمما ومكملا للحزب الأورستقراطي ، يناشد الآلهة
و انصاف الآلهة و طبقة النبلاء و الأثرياء ، عظمة الشخصية في عظمة اللغة ووحدة
الأسلوب و النغم ، لا يسمح فيها بهجو أو سفور أو اسفاف. إلا أن الممثلين كانوا من
الطبقة الدنيا للمجتمع.
قد نلتمس ذلك بسهولة في أشعار الشاعرين الملحمين ، الأورستقراطي هوميروس و
الديمقراطي هزيود ، في حين الاول كان شاعر
الثراء و الغناء ، كان ينتمي الثاني الى الطبقة الإجتماعية ، فئة العمال و
الفلاحين ، الفقراء و المعوزين.
في حين نرى بوضوح عند عقدة أوديب ملكا ، هيمنة الكاهن الأعظم (تريسياس) Trissies على مفاصل الدولة دينيا ، حيث تعود اليه نسبة
كبيرة و اقتطاعات من القرابين التي تقدمها الأهالي قربانا للآلهة ، و كذا حصة
معتبرة من الغنائم و الأسلاب.
إلا أن تاربخ الكوميديا عند الأغريق زاخر
بمظاهر الفقر عند الإنسان و كذا العبودية أو الرق أو القن.
قد نجدها عند الشاعر ارستوفانز الذي جعل من إلكترا ، المرأة التي ترعرعت في
قصر الملوك و النبلاء ، امرأة عادية ، انزلها منزلة سفلية ، تتزوج فلاحا فقيرا ، و
تحمل على رأسها دلوا تسقي الماء !
هذه العبودية اللغوية الشعرية لا يمكن فصلها عن عبودية الإنسان.
أيضا لا يمكن فصلها عن الحياة السياسية للأغارقة ، على الرغم من أن أمتاز
الأدب بما امتاز به الإله.
الفقر دية الكسل و يورث العبودية عند الشاعر هزيود.
اما عند الحكيم ، المشرع صولون و في عز عودة الحاكم بيتراكوس من منفاه ،
جعل الفلاح الأثيني لا يفقد حريته جراء فقده لأرضه أو لا يستطع استرداد ديونه
التي عليه للدولة.
مما تقدم نقول ما الشخصيات التراجيدية و الكوميدية إلا رموزا شاعرية تتأثر
بالحالة الوجدانية السيكولوجية التي يعيشها الشاعر الدرامي و محيطه سواء كان فقيرا
أو غنيا.
مع الأيام أتخذت صفات بشرية .
و مع التقدم الثقافي و الحضاري للأمم و الشعوب ظل الفقر فقرا و الغناء
غناءا متعلقا بتلابيب الإنسان ، كما صارت "العبودية" فكرة تتكيف مع
الطارئ القلق لأسباب سياسية اجتماعية اقتصادية ، و بغض النظر عن مختلف النظريات
المصاحبة للنمو ، و للدعاية لمختلف الصناعات العملاقة ، و لا سيما في زمن
الرأسمالية البورجوازية التي احتكرت الماء و النار و الهواء و التراب ، مما زادت
الهوة بين الفقراء و النبلاء او الآلهة الجدد.
كما صارت هذه الآلات و كأنها القضاء و القدر تتحكم في مصائر البشر ، أين
أصبح البشر يمتاز بما تمتاز به السلع ، بل صار الشيء المُنتَّج يتحكم في الشخص
المُنتِج ؛ اذ العامل و هو يعمل يتفتت ، يتفكك ، و يصير مجرد برغي صغير في دولاب
تروس عملاق هذه الآلات الضخمة.
أخيرا انتصرت الآلة على البشر منذ ظهور الإنطباعية و اخرجته عن طوع الخدمة
؛ بل أحالته الى لون وضوء.
ان النظام البيروقراطي التايلوري في شخصية (k) رواية
القلعة (كافكا) لا يتحدث بإسمه ، فهو مجرد رقم او اشارة من الإشارات. و عندما
يستدعيه البيروقراطي لا يستدعى كشخص له هوية مستقله ، و انما (حالة) ، لا يحق له
التحدث مع أصحاب (الفوق) ، أصحاب الفوق هناك في الصفوة العليّة يحيط بهم الغموض !.
مما تقدم نستطيع ان نقول : أن عبودية الشعر توازي عبودية الإنسان ، و يمكن
أن تؤرخ لها من خلال انتصارات حرية الإنسان - لا حرية لاعداء الحرية - او خذلانها
، و الشعر يحتضن معضلات الإنسان بسخاء حتى يستحيل الفصل بينه و بينها و حتى لا
يستطيع الكلام دون احذ منهما دون الكلام عن الآخر .
يبدو عند الكثير من المذاهب الفنية : التعبيرية ، الوجودية ، و السيريالية
تاريخ الإنسان و كأنه سبات مليء بأطياف و حركات و اشارات و نماذج أوجدتها شخصيات
أسطورية ، و في بدء الزمن طالما شعر الإنسان بانه كائن متميز تكون ضميره ، وصار
خلق الأساطير النشاط الرئيسي لهذا الضمير . و قد كمّل وأتم الإنسان الكون بأساطيره
، و ذلك بعودته اليه و سعيه الى اقرار علاقة به و الشعر بحث غامض جدا وناقص ،
غايته ان يعرف ماهية علاقة الإنسان بالكون.
ان تاريخ الشعر هو يبلغنا بأنه غير تكسبي عديم المنفعة المادية ؛ بينما
تاريخ الإنسان تاربخ الصراع الإقتصادي من اجل البقاء ، بينما تاربخ الشعر هو تاربخ
نجرد الإنسان من المصلحة.
عموما الأدب الذي يعيل صاحبه ماهو الا أدب سوء (اسكاربيب). لهذا جعلت الدول
دواوين و مراكز قومية ووطنية لدعم و رعاية الأدب و الادباء لحفظ ماء وجوههم و من التسول غير المباشر ،
كونها تعلم العملية صعبة تطرح اشكالات و تأويلات اخلاقية . حاول عميد الأدب العربي
د. طه حسين أن يجد لها حلا ، نوعا من التحرر في مؤثمر البندقية بإيطاليا 1953
الموسوم بالدفاع عن الثقافة و مونع السيرياليون منه.
محاولة ايجاد علاقة شريفة بين نصير الأدب و رجل الأدب ، في حين نصير الأدب
يعطي ذهبا وفضة ، يصرفهما رجل الأدب كلما حصل عليهما ، بينما رجل الادب يعطي دمه ،
عصارة فكره و فنه اللتان لا يمكن أن يصرفا بأية حال من الأحوال.
لم تعد العبودية السعرية مرتبطة بتاريخ الإنسان ، و انما بالقيم
بالسوسيولوجية الأدبية ، الثقافية ، الإقتصادية السياسية ، مادامت الميكيافلية و
البافلوفية قائمة .
و مادامت الكلمات لم تعد كلمات شاعر بصفته الفردانية ، انما صارت كلمات
عائلة ، كلمات قبيلة ، كلمات عشيرة ، كلمات الخشية ان تنزلق نحو العنصرية. كذلك العبودية لم تعد
عبودية شعر و لا عبودية انسان بالزمكان ، انما عبودية عائلة ، قبيلة ، عشيرة ، جهة
و الى أن تنزلق نحو العنصرية.
و ما اشد الإرتباط العنصرية بالعبودية كما علمنا التاريخ تجارة الرق ، يوم
كان الرجل الأبيض أو الشر الأبيض على حسب تعبير المستشرق الفرنسي روجيه غارودي.
يوم كانوا الزنوج يحملون سلعا و بضائعا يباعون باثمان بخس في الأسواق الاوروبية
الامريكية ، يوم ذاك لم ينقل هذا الغبد مكبلا بالسلاسل و الحبال ، و انما برأس
كامل الإمتلاء بإرثه الغنائي و رقصاته المعبرة ، و بقناع ابيه أو جده.
انه يمسك بالحياة و يعيد توزيعها حسب قاعدة الغناء و عدالة الرقص (اميه
سيزاري).
لم يكن مجرد طاقة بدنية انما فكرية فنية ساهم بكيفية او بأخرى في صناعة هذا
الإزدهار الغربي الذي نشهده اليوم ؛ يعود ثانية كتغذية راجعة ، يجعلنا أسرى لما
يروج من سلع (....).
لايمكن فصل الشعر عن الإنسان ، و يبدو تاريخ عبودية الشعر من عبودية الإنسان ، لا يزالا يقدما التضحيات الجسام تلو التضحيات ، من اجل أن يظلا احرارا بإتجاه القضاء و القدر (الأرسطي) ، و بإتجاه القضاء و القدر في نظام بيروقراطي ديكتاتوري شَرْطي (شِرَطي) !.
اكتب تعليقاً