الكتابة و السيرك
العقيد بن دحو
اذا كان أخطر انواع الفرجة و المتعة هي السيرك ، أو كما يبدو للمتفرج
المتلقي على الأقل.
ذاك أن قدر البهلوان أن يتدرب كل التدريب و أن يتمرس كل المراس في مجرى
حياته بلا هوادة ، حتى لا يفقد اتزانه ؛ يقع و يُذٌق عنقه !
ليس هذا فحسب فمروض وحش الحيوانات الضارية الكاسرة غير مضمونة الجانب ، فهي
في أية لحظة من اللحظات تسترجع ذاكرتها
الحيوانية ، تلك اللحظة الفارقة يوم أستقل الطرفان الانسان اللعوب Homo Ludens و الحيوان Animale
Sauvage بحباتهما
الخاصة (الغريزة و العقل) ، و المنعكس الشرطي البافلوفية و التجربة و المراس و
الملاحظة و النتيجة ، ثلاثية الابداع و التفكير و المحاكمة.
ذاك أيضا شأن الكتابة حين يواجه الكاتب وحش بياض الورقة الرهيب المخيف أو
بياض الشاشة الديجيتالية الرقمية التي تحول كل شيئ الر رقم اغتراب (الخراتيت)
يونسكو . شأنه شأن من أرتمى من مسافات شاهقة بلا أية احتياطات أمنية مسبقة. لم يبق
له إلا أن يُسلم الروح الى بارئها ، و ينتظر متى يستمع الى ذوي ارتطام أم رأسه بالأرض !.
طبيعة الكتابة و طقس الكتابة ، تدل على الخسارة أكثر من الكسب. ما فتئ
الكاتب يخسر من عرقه و دمه و ربما روحه كلية ؛ كيما يُضيء على الآخرين ان بقي فيه
من فتيل يستضاء به.
شأنه شأن ذاك البطل الأغريقي "بروميثوس مُحِب البشر" ، سارق أو
واهب النار للبشر من مملكة السماء أورانوس. أُلقي عليه القبض ، و قُيًِد و صُفِد
على صخرة عظيمة ، تنهش وحش الطير كبده ليلا ليتجدد نهارا. ظل بروميثوس على هذه
الوضعية الى ان أنقذه هرقل.
هذه الحالة (بروميثوسية) التي يمر بالضبط من خلالها البطل ، من بروميثوس
مقيدا الى بروميثوس طليقا هي نفسها التي يمر خلالها الكاتب وهو يجابه آلهة الشر
الجبابرة (التيتانوس) Titanus و آلهة القضاء و القدر في كل مكان و في كل
زمان و في اية احظة في دولة دكتاتورية معادية للحريات تخشى من لهيب الكلمة و من
وهج الصورة.
كم يبدو الكاتب و هو يجابه مصيره أقل حظا من الأسطورة اليونانية فهي قيدت و
غك قيدها و أنقذت بالنهاية. قد يبدو غير ذلك مع الكاتب فهو أن يهمش ينسى الى أبد الأبدين ، أو يُهجر و يُنفى و
ينتهي به الأمر خارج الدبار نسيا منسيا ، أو يغتال و يقتل بنيران صديقة أو عدوة
لتسجل الجريمة ضمد مجهول. و تعددت الأسباب و الموت واحد.
كل ابن أنثى وان طال سلامته
***يوما على آلة حدباء محمول.
ذاك أن الكاتب مجبول و مجبر أن يغذي و حش طيره من دمه ، قبل أن تُدعن له
الكتابة تفتح له أبوابها أن يخط بسواد حبر همومه و انشغالاته عليها. و مع ذلك يسهل
على أوديب ملكا أن يجيب على لغز أبي الهول ، لكن بصعوبة بمكان و لا بزمان أن يجيب
على هول/ السفانكس/ الهولة/ المونيتور الورقة ! . فهو لا يدري في أي لحظة بأي
منقلب سينقلب الحال ، و يصير سافلها اعلاها؛ رأسا على عقب !
صحيح الكتابة حرفة كالخبز ، و لكن ليس كأي خبز (الطير تأكل من رأسه) قصة
يوسف عليه السلام و تأويله للرؤى.
أوديسا الكتابة ليست بتلك المتعة و الموهبة الفذة ؛ بطلها ذاك الكاتب الذي
يشار اليه بالبنان ، بل هو ذاك القابض على الجمر ، الماسك الناسك بعصا الإتزان على
حبل رفيع ، يوميا كُتِبَ عليه أن يتدرب الخطى و الخطأ فيها صفر خطأ أو يصير هو
ذاته الخطيئة.
طُوبى للقارئ في عصر سُمي بإسمه ، عصر القارئ ، وُلِدَ و ملعقة ذهب بفمه.
لقد اِمٌحا الكاتب تدريجيا و صار القارئ شريكا بالعملية الإبداعية برمتها ؛ بل صار
و كأنه هو الكاتب.
فأين البهلواني ، أين المروض ، أين سارق النار للبشر ، بالنهاية فأين
الكاتب !؟