الفوضى و النظام في الأدب التمثيلي اليوناني
العقيد بن دحو
يقول الفيلسوف افلاطون -في البدء كان شاعرا محبا للشعر و الشعراء - الفوضى
هي نظام غير مرئي . و من خلال هذه الرؤية يمكن القول ان النظام هو فوضى مرئية و
غير مرئية ، معقول و غير معقول أي أسطورة أو خرافة !.
و بين تثنية الفعل الدرامي و نقيضه ، ببن الفوضى و النظام ، بين المرئي و
اللا مرئي ، بين المحسوس و اللامحسوس ، فضاء ثالث رحيب لا يمكن التعبير عنه الا بالمعادلات
الرياضية أي وفق نهج التجريد.
هذا اذا كان الشعر عموما هو الإتصال بين ما يمكن ادراكه و ما لا يمكن
ادراكه . محاولة ايجاد العلاقة بين سمكة القرش و الشاعر و (مالبورور) ، بين البناء
و الهدم (رامبو) أو بين الشاعر و الجندي المحارب ؛ أي بين فعلين ، فعل الإبداع او
الخلق ؛ و بين فعل القتل حسب أسطورة فنان عند (بريتون).
تقول الأسطورة اليونانية حاضرة الاغريق : حينما نظرت الأغارقة الى السماء ،
تطلعت الى حركية الكواكب و النجوم كانت هذه الظاهرة قد أذهلتهم ، أدهشتهم ، أرهبتهم و اخافتهم في نفس الوقت. و لما ولّت
نظرها ثانية وجدت توالي الليل و النهار ، اي الزمن . كانت قد ألهته و جلّته و سمته
(كرونوس) ؛ إله يتصف بالظلم و الجور و القسوة ، يولد له ابنا بالنهار يسمى نهارا و
ابنا بالليل يسمى ليلا لا يدوم احد منهما. و في يوم من الأيام ازداد للزمن مولودا
بهي الطلعة (زيوس) خشيت أمه أن يبتلعه أباه الزمن فما كانت إلا أن لفت حجرا في
لفائف المولود و ألقت بالحجر بفم الزمن حتى يتوهم بأنه ألتهم زيوس الفتى الجميل.
في حين أسلمته أمه الى يد امرأة بعيدا عن أي مكروه حتى يبلغ أشده.
عاد زيوس فتى قويا فارسا و أشتدت معركة بين والده الزمن و بينه انتهت
بهزيمة الزمن كرونوس.
اخضع زيوس الجميع الى سلطته. هذه الفكرة ، فكرة انتصار زيوس على كرونوس ،
أي الجبر جاءت منها "الجبرية".
و ما كاد يعم الهدوء الأرض Ghea حتى قامت معركة اخرى بين زيوس و بين
العمالقة (التيتانوس) Titanus أوشكت بإنهزام زيوس لولا المدد و المساعدة
الذي تلقاه من لدن ابن عمه (بروثيموس) محب البشر ، فانتصر من جديد. و لما أنتصر
أراد أن يخضع الجميع الى سيداته ، غير أن من المستحيل أن يخضع لسلطته سجين الحرية
بروميثوس ، أن يُدعَن الى زيوس.
بروميثوس هنا يمثل (الحرية) و منها جاء شعار : "لا حرية لأعداء
الحرية".
عندما انتصر زيوس بمساعدة ابن عمه واهب النار للبشر من مملكة السماء Oranus ، تراه يمسك
بتلابيب إله الشر (ثيفون) و يقذف به بركانا (اثنا) بإيطاليا ، كما تراه يمسك
بالأطلس و يرمي به سلسلة جبلية الأطلس شمال افريقيا تشد السماء حتى لا تقع على الأرض !
وما كاد يستتب الوضع حتى كادت ان تندلع معركة جانبية بين زيوس و بروميثوس ،
لكنها انتهت بالتفاهم و التراضي على ان يترك بروميثوس سبيل حريته، على ان يحتفظ
زيوس على سيادة العالم.
هذه الفكرة ، فكرة الوئام ، هي
الوئام بين مبدأين مهمين و ارادتين ، مبدأ الجبرية و ارادة الحرية.
كما تعود فكرة الفوضى الى الزمن و فكرة النظام الى زيوس ، حتى سُمي بإله
النظام.
و مع الأيام استطاع زيوس ان يتقاسم و يشارك حكمه مع اخوته و بعض من أفراد
عشيرته ، كما صار محبا للهو و الزينة و النساء ، مقربا و محبا للبشر.
لذا عندما تقرا اشعار هوميروس الملحمية ستكتشف أن زيوس سيد النظام ، إله
النظام ، و ديانته بشرية. كون امتاز زيوس بما يمتاز به البشر ، متبعا الحكمة
المستقرة في رأسه : صحيح الدولة لمن يحكم ، لكن في نفس الوقت لم تخلق لرجل واحد ،
و بالنهاية على من يحكم المرء اذا كان البلد خاليا !؟
مع الأيام شعر زيوس بثقل حجم المسؤولية المستقرة في رأسه فطلب من الإله
الأعرج (هيفياستوس) الذي كانت تسخر و تضحك عليه الآلهة أن يشق رأسه ببلطة ، فتخرج
من رأسه الإلهة (منيرفا) ، الهة الحكمة بيدها الرمح و على رأسها الخوذة ؛ في اشارة
الى قوة الحكمة. كما استطاع زيوس أن يتخذ من الإلهة ( تميس) زوجة انجب منها
(يونوميا) إلهة الحكم الصالح التي حملت الى البشرية و العالم الحرية و العدل و
السلام و النظام ، كما أستطاعت أن تنجب الأقدار الثلاث (لاكسيس - أثروبوس - كلوثو)
يتحكمون في مصائر البشر.
كانت هذه الفكرة من المخيال الجمعي للأغريق. لا ينطق عن فراغ. هي الحقيقة
الاولى للفوضى و النظام كما يراها باحث واع وازن.
كما أن الحرية و العدالة و المساواة التي ينشدها نظاما ما هي فكرتان
سياسيتان في المقام الأول ؛ تتأثران بتحولات المجتمع و قدراته التفكيرية التغييرة.
فعلاقة الفرد بسائر أفراد المجموعة هي في أساسها حرية ، و علاقة المجموعة بالأفراد
هي في أساسها مساواة.
و بين الحرية ضرب المساواة نتجت الحضارة الديمقراطية.
ولو أنهما فكرتان مستحدثتان ، إلا أن الفكر الكلاسيكي الأرسطي يشير الى أن
عقدة (اونتجون) عند الشاعر الدرامي التراجيدي صوفوكل هي فوضى ، و أونتجون عند
كافكا نظام.
أيضا (أوديب ملكا) عند صوفوكل فوضى
، و عند نفس الشاعر الدرامي (أوديب في كولونا) نظام.
لكم ان تروا ايضا مأساة (إلِكترا) عند نفس الشاعر صوفوكل فوضى ، و عند
اسخيلوس في ثلاثيته الشهيرة (اوريست - اجاممنون - حاملة القرابين) نظام ، هي نفسها
الثلاثية عند الكاتب الوجودي جون بول سارتر بإسم (الذباب) أو (الندم) نظام،
هي (بروميثوس مقيدا أو سجينا) عند الشاعر ارستوفانز فوضى و عند نفس الشاعر
في (بروميثوس طليقا أو حرا) نظاما !
غير انها فوضى من فوضى ؟ فوضى خلاقة ابداعية بناءة و ليست هدامة عدمية ،
انما أباحتها الضرورة من اجل البناء الدرامي.
لهذا السبب اعاب النقاد عندما دار الدولاب و اظهر الشعراء أوديب ملكا و
الدم يتقاطر من عيناه.
اعابوا الشاعر ، كما هي أونتجون و هي تقتاد الى مثواها الأخير ، الى مملكة
الأموات ، حيث (هديز) لا يؤوب منه مسافر !
كما اعابوه على إلكترا و هي تقضي على نفسها وسط الطلام الدامس ووسط القتامة المقيتة.
اذن رأينا كيف تؤثر القوة العسكرية العالمية على السياسة فتصير الفوضى و
الفوضى المدمرة و الفوضى الخلاقة احد أهم أسس النظام العالمي الجديد ، حسب منطق
ابليس أي وقق قوته التدميرية ووفق ما صار يطلق عليه "جنون التاريخ" و
أين الجنون هو الذي يحكم العالم ، و أن المجانين سادته.
هم أنفسهم ذاك الفارس البطل الأغريقي (أياس) التي ذهبت الآلهة بعقله و انزل
بسيفه البتار في ماشية البريئة و ما يوجد في حظائر اليونان تقتيلا ، و لما بان
الصبح اعادت الآلهة اليه عقله و صوابه
لينظر بأم عيناه ما أقترفته يداه
!. استخزى الفعل ، .... يدور الدولاب مجددا و مع نفس السيف الآثم يتخلل صدره.
هي فوضى بكل المقاييس ، لكنها فوضى تكفيرية تطهيرية من ادران انفعالات
النفس.
فهل الفوضى التي نراها اليوم على مستوى هذه البربرية الحربية في مختلف بؤر
توثر العالم - خبط عشواء- فوضى خلاقة ؟
الخشية ان تضع الحرب اوزارها يدور الدولاب عن نظام عالمي جديد اكثر قسوة و
اكثر جرما ، أقل حرية ، أقل مساواة و أقل عدالة. وليدة نظام مخرجاته (فوضى) ،
عندما تفرز الإنتخابات الديمقراطية رجلا مجنونا يقود العالم.
و عندما تفرز المخابر فيروسا يفتك بالصحة العامة العالمية ، و عندما تصنع
الورشات ماكينات نووية تدمر البشرية على وجه هذه البسيطة !.
اكتب تعليقاً