الولادة البشرية و الولادة الإبداعية
العقيد بن دحو
تقول الأسطورة الأغريقية أو كما ورد في "الثيوغونيا" Théogonie / تاريخ أنساب الآلهة أو / أصل الآلهة ، سواء عند الشاعر الملحمي
الأورستوقراطي هوميروس أو عند الشاعر الملحمي الديمقراطي هزيود ، أن لحظة انتصار
زيوس ابن كرونوس إله الزمن على آلهة الشر ، العمالقة ، المردة التيتانوس Titanus بمساعدة ابن
عمه جد البشرية بروميثوس صار يشعر بثقل حجم المسؤولية و الحكمة المستقرة في رأسه
فطلب من (هيفياستوس) الإله الأعرج الذي كانت تسخر ، و تهزأ به الآلهة أن يشج رأسه
ببلطة ، فخرجت الإلهة (منيرفا) ، إلهة الحكمة بيدها الرمح و على رأسها خوذة في
اشارة الى قوة الحكمة.
يوعز الباحثون الى أن هذه (الحالة) كانت أول (ولادة) عرفها التاريخ قبل و
بعد التدوين خارج اقواعد وظائف الأعضاء الفيزيولوجية.
ولو انها أسطورية ؛ ' الأسطورة ميراث الفنون (نيكولاس فريده) - من حيث
الأسطورة الحلم الجمعي لأي مجتمع من المجتمعات ، و من حيث حلم الفرد ابان النوم او
اليقظة أسطورة الفرد ، و من حيث صوت الشعب من صوت الإله / Veix populei ex veix dei
او كما تقول الاغريق.
كانت هذه اول ولادة ميثولوجية كما يقول (سبينسر) ليس من رحم البطون و انما
من رحم الأدمغة. كون مع مرور الوقت صار زيوس الإله مقربا للبشر ، و لذا يقال كانت
ديانته ديانة بشرية ، و بالتالي صار ما يسقط على البشر يسقظ على الإله. يلد ويولد
، يتزوج ، يفرح و يلهو بالملذات و التفاحر بالانساب و النساء.
حتى ان كانت الفكرة محض مخيال جمعي يحسبه الجاهل لا غناء فيه ، الا انها
شييهة بالتاربخ كما يقول (مالرو) : اذ لبناء حضارة يلزمنا تاربخ و الشبيه للتاريخ.
ومع مرور الوقت ، و التقدم الحضاري و الثقافي التي شهدته الأمم و الشعوب
كفّت عن مجاراة التاربخ ، و منذ ظهور الطباعة و النشر حتى القرن الثامن عشر كانت
تعني كلمة "طبع" باللاتينية رفع تمثال الى مرتفع عال. أو الإعلان عن
زواج ، أي اعلام أي شخص معلوم أو مجهول عن عمل ، بطبيعته ، خاص و فردي. بل كانت
الكلمة تعني بيع المواد و الاثاث الفاخرة في المزاد العلني.
يوعز الباحثون أن في كلمة "بيع" الهتك الفظ لسر الخلق و الإبداع
(الولادة) على ضوء مجهول في ساحة عامة. ثمة عملية عنف و اعتداء بالتراضي و هرطقة
غير شريفة شرعية ، وصدمة لرهافة العامة ، مهيمن عليها جميعها اعتيازات مادية.
فعملية النشر التجاري للأثر الأدبي الفني الفكري مسلوخ من عمق الذات ، هي عملية
فيها الكثير من التعهر أو "بيع الجسد" كما يقول (بلوث).
طبع الأثر الأدبي الفني الفكري متمم و مكمل له ، متمم و مكمل لعملية
الولادة البيولوجية و للولادة الإبداعية معا ، ضروري - شر لابد منه - وضعه في يد
الغير (القارئ)(....). و لكي يوجد الأثر، فعليا، ظاهرة حرة و مستقلة، و مخلوقا
(ابنا) حيّا ، يجب ان ينفصل عن خالقه (والديه) الأم و الأب. و يعرف طريقه بين الناس.
عملية مثل هذه لا يمكن فصلها عن العملية الجينيكولوجية البشرية ، هناك لقاء
زوجين شرعيين ، صحة جيدة ، ظروف طبيعية مادية معنوية سيكولوجية ملائمة ، لقاء
امشاج كافية سليمة ، رعاية اجتماعية ، رعاية طبية و متابعة....
ثمة اذن عملية ولادة ، ولادة ابداعية لا تقل في عنفها عن الولادة البشرية ،
عن عملية التوليد الطبيعية ، من الوحم ؛ اعراض الضغط ، المغص ، تغيرات جسدية
نفسية.....
الى الإنفصال المؤلم.
ان ايجاد مولود جديد يتطلب لقاء تلاقح امشاج ذكورية و بويضات انثوية ، هي
نفسها تلاقح افكار عند المبدعين. بمعنى هناك تشابه كبير بين دور (الناشر) ناشر
الكتب و المصنفات الادبية العلمية الفكرية الفنية ، و بين (الطبيب) المُولّد
. صحيح انه ليس واهب الحياة و لا المُخصّب
و الواهب من صلبه ، فلذته ، انما بدونه لا يمكن توليد الأثر(....) المحبول به
والواصل الى آخر حدود المخاض.
هذا هو بالذات الطابع الأساسي لعملية ابداع و طبع و نشر مؤلف ما أو مصنف
ما.و لكي تكنمل الصورة في أعلى متكإ لها يمكن قوله : هذا هو المعيار البارومتري
الترمومتري الأقرب لقياس حرارة وضغط معنى التوليد. ان هذا (المولد) هو المستشار
اثناء "الحبل" و كيما لا يجهض المولود أو يولد ولادة مبكرة ولادة "
بريماتيرية" ولادة مبتسرة أو / خُدج Naissance prématurée.
كان هذا المعنى الأقرب لمعنى الإبداع و الخلق الأدبي الفني الفكري القريب
الى الولادة البشرية ، و محاولة معظم المفكرين و النقاد الى محاولة ايجاد مقاربة
اخلاقية بعيدا عن متابعات نفسية لكلمة بيع أثر أي بيع مولود!
و كذا هي محاولة الإنسلاخ عن الأثر بمثابة فصل حبل المشيمة عن الأم الولود
أو الأب. كون العملية الإبداعية برمتها ليست ذكرا و لا أنثى انما هو كائن عجائبي ،
التفكير في خلقه يعيدنا الى سذاجة البداية ، الى النظرة الأولى من تلك اللمحة
الاولى ، لغة الكلمات الأولى ، الى الأسطورة مبدأ نشأة الخليقة ، الأسطورة ميراث
الفنون و من حيث الخلق خلق الله و الإبداع لعبة الله.
اكتب تعليقاً