نوستالجيا
العقيد بن دحو
لست ادري الى هذا المكون الذي يشدنا اليه. المكون البشري ، بكامل قواه الذهنية النفسية ، و مركباته
الأجتماعية الأخلاقية وروحه الوجدانية ، ورويته السيكولوجية ، لا يشعر بما حوله
الابعد فوات الأوان و تقدم السن. بعد أن يفقدهم بالدارين ، سواء في دار البقاء أو
دار الآخرة.
كان طبيعيا على الدارس او الباحث او حتى الملاحظ أن باحظ هذه الظاهرة و هذه
الحالة علاقة البشر بعضهم بعضا الا بعد أمد طويل على فراق الأحبة و الإخوان و
الخلان و الأصدقاء.
ذاك أن التنافس ، انما تؤخذ الدنيا غلابا . حب الذات ، و النرجسية الأنانية الضيقة ، تكون
في أوجها عند سن المراهقة و يمتد بها الحال الى سن الكهولة عند سن (40 - 50) سنة
أين يصل المَعْلَم (المحور) التصاعدي في النزاع و التوتر ، الصراع و القلق الى
درجة التشبع ثم يبدأ المَعْلم في النكوص عودا على بدء ، الى ان تصل عند مؤشر
احداثي نقطة فاصة من النوستالجيا. يبدأ
المرء في الحنين ليس الى اصدقائه المقربين فحسب ؛ بل حتى الى فرقائه ، أولئك الذبن
كانوا يخالفونه في الرأي و في الفكرة.
تبدو الظاهرة أكثر عند مختلف الفنانين و الأدباء و المثقفين ، كون تحكمهم
آلية (المجايلة) كل فربق من هؤلاء عند مرحلة معينة من الزمن أو عامل السن الأدبي ؛
يتكتل و يتشكل في شكل عُصبة أو قُربى ثقافية. لا تسمح بأي موهبة أخرى من التقدم أو
أن تلج هذه الدائرة الصماء المحصنة
الكأداء. التي يصعب تحطيمها الا بعد مدة طويلة.
كان طبيعيا جدا ان نشهد هذه الحالة المستعصية على الفهم. الحالة (المرضية)
، لكن يمكن التعايش مع المرض الطارئ و
التأقلم معه و ندفع بالتي هي أحسن. أو خضوعه لمعالجة ثقافية و يحاصر بقوانين ردعية
خشية أن يستفحل الداء و يصر وباء. الى غاية أن تبلغ هذه الفئة الجدار Le mur كما هو في
شأن رياضة كرة القدم ، اين يلجأ لاعبي الدفاع و كذا المدرب الى تسكل خط دفاعي بشري
متين و قوي من اللاعبين يمنع مهاجمي الخصم من التقدم و تسديد الاهداف نحو حارس
المرمى.
لكن عندما تبلغ هذه المجايلة سقف أكثر من خمسين سنة ، تقل قواها و تصمحل
سلطتها و سطوتها و تقل غيرتها و حيلتها الأدبية و الفنية و الثقافية ، مما يستغل
الجيل الصاعد هذه الثغرة ، و يتسلل الى الكراسي و المراتب و الى الأضواء و الشهرة
و المجد ، و لكن هذا أيضا هذا (الصاعد) سوف يُصاب بنفس الطُعم الذي أذاقه ممن
سبقه.
و هكذا تبدو الحالة كالحوت في البحر حوت يأكل حوتا... '!
و لأن الظاهرة الأدبية لا يمكن فصلها عن الظاهرة الإجتماعية. ما يحدث عند
قبيلة و عشيرة الأدباء و الفنانين و المثقفين يحدث هذا في الوسط الإجتماعي. فئة
تُهمش فئة اخرى ، جماعة تُبعد جماعة أخرى ، لكن بعد مدة من الزمن ، و بعد أن تقل
قوى أحدهما و تصل الى حد مُعين من سُلم الأعمار ، تعود عودا على بدء ، تسأل عن
مآلها و أحوالها.
طبعا عودة مثل هذه عودة (سيزيفية) ، شبيهة بذاك البطل اليوناني الخرافي
الأسطوري العجائبي الذي عوقب أن يرفع صخرة الى قمة جبل ؛ و كلما أوشك أن يصل تعود
عودا الى أسفل و هكذا.....!
عمل مثل هذا عمل عبثي - بذل الوقت الضائع- سيزيف او يسمى (سيزيفون) يعلم
بأنه عمل عبثي لا طائل من ورائه ، غير أنه أضمن له بأن يثبت بالحياة حتى إن
كانت الحياة بهذا الشكل....!
و حتى أن كانت هذه العودة البدء مرفوقة بتأنيب الضمير ، أن بقي شيئ ثمة
يسمى للضمير . فلن يكون هذا الا ضمير ذاك
البوليس السري وهو يسلم عشيقته حبيبته الى كرسي الأعدام الكهربائي بدم بارد. بطل
رواية "القلعة" للروائي (هاميل شاميث).
مزاج قلق لا يدوم على حال و لا يستقر على وضع ، ذاك الذي يحكم الناس بعضهم
بعضا ، لا يشعرون بقيمة بعضهم بعضهم ، بقيمة ما يملكون الا عندما يخسرون أنفسهم.
ساعتئذ الوقت يكون قد فات ، دون رجعة و لم يبق الا قضم الاظافر نكدا ، ندما و حسرة و ألم.
يمكن اسقاط هذا المشهد على حياة الفرد كما يمكن اسقاطه على حياة الجماعة...
في لحطة يغيب فيها الكماء الفرداني و العصف الذهني. احظة اقتراب الأديب المثقف الفنان
من للسياسي الميكيافلي أو الماكلوهاني ، كل شييء ممكنا.
جبلت الخلائق أن تتألم على الموتى أمثر من الأحياء، كونهم يدركون أنهم
مسافرون الى أفول لا يؤوب منه مسافر. أين تركوا فراغا رهيبا الى من ينافسهم.... و
بالتالي هم على وشك التوقف نهائيا عن البذل و العطاء و الابداع.
و كم من بيت يألفه الفتي ***
فحنينه دوما الى أول منزل.
نوستالجيا اكنها معقودة على سادية قميئة غير اخلاقية ، كانت من المفروض ألا
تكون في مذهب شعاره لا أدب من لا اخلاق له ، مذهب القيود و الجريمة لا تفيد.