كريم القاسم
غُربَة النقد الأدبيّ
-----------------
عانَتْ ثقافتنا العربية وتَحمّلتْ وزر ثقافات فكرية وادبية دخيلة كثيرة .
وكثيرا ما كانت ثقافتنا تتصدى لمعالجة
الدخيل من النظريات بطرق واساليب متنوعة، لكن بصور واشكال متفاوتة لا ترتقي الى
مستوى المسؤولية .
وبالرغم من تنوع هذه الثقافات والافكار الدخيلة ؛ إلا اننا لم نجد تناحراً
وتنافراً كالذي نجده في قضية (النقد الادبي) والذي نحن بصدده في هذا المقال .
قضية (النقد الادبي) ليست بالهيّنة، إنما كان لها تاثيراً سلبياً وسط
الادباء والمفكرين والكتّاب العرب، حيث قَوَّضَت وأنهَكت وضَعضَعتْ حالة الابداع
والإجادة، وصار النقد الأدبي يبحر دون بوصلة ، وبشراعٍ مُهَلهل رميم ، وبقلم واهنٍ
مُنكسرٍ هزيل،
حتى اصبح بعيداً عن جوهر الابداع الفني والابتكار ، بسبب الإتكاء على ماهو
دخيل من نظريات نقدية .
ولكي لانجعل من هذه القضية سلَّة تجمع أخطائنا وإنحداراتنا الابداعية في
الادب المعاصر ؛ نقول:
ان المعالجات النقدية التي افرزها القلم المعاصر صارت مرضاً مزمناً غير
قابل للشفاء ،ومعادلة غير قابلة للحل، في الوقت الذي يجب ان يكون النقد بوصلة
كاشفة للاتجاهات الصحيحة يسلكها الاديب ليكتشف ويكشف واحات الابداع، وليرتوي من
ينابيع التطور والخلق والابتكار.
لايمكن ان نرمي بكل ركامنا على ماورَدَنا من افكار معاصرة او مُستحدَثة،
فالامر غير ذاك ، لان الفجوة الكبيرة التي أبعدتنا عن تراثنا الاصل لسنين طوال
جعلتنا نشعر بالنقص وبالذنب امام الادب الغربي ، وبدلاً من التعمّق في الدراسة
والبحث في تراثنا الكنز ، راحت قوافلنا البحثية والفكرية تتشبث بما ينشره
المستشرقون عن تراثنا، حتى صاروا هم همزة الوصل والجسر الذي تعبر عليه قوافل
عقولنا.
كان من المفروض على المثقف والاديب العربي ان يستقي من رحيق رواد الفكر
العربي بابداعه وابتكاره كـ (إبن قتيبة والجاحظ والجرجاني والآمدي وابن عساكر وابن
النديم ) والقائمة تطول ،لكنهم -للاسف-رسوا بزوارقهم عند شواطيء المستشرقين الذين
اسندوا هذا الابتكار والابداع الى (ارسطو) وغيره .
وصدَّق مَن صَّدق وتشدَّق مَن
تشدَّق مِن أدبائنا وباحثينا،وللاسف انسحب هذا التأثير على كثير من الادباء والمثقفين العرب
المعاصرين، وبدأ الصياح واصدار الاحكام العرفية من البعض على ضرورة قبر ودفن
تراثنا الادبي الأصيل الى غير رجعة، وأوصوا بضرورة التشبّث بهذا الوافد من الخارج.
وكان للـ (نقد الادبي) حصّته التي لايُحسد عليها مِن التشبّث بهذا القادم
من الغرب .
وشُحِنَت عقول الادباء والنقاد بهذه الشحنات الوافدة، فحفظوا وتعلّقوا
وكتبوا ونشروا وبحثوا في اصول وقواعد ومسلّمات وأركان هذه المدارس النقدية الدخيلة
، بل وأقرّوا بفضلها على ثقافتنا الفكرية والادبية، وكأن تراثنا خواء أجوَف ، حتى
اصبح اسم الناقد الفرنسي( سان بوف) والمؤرخ والناقد الشهير (تين) من ابرز علامات النهضة واليقضة النقدية في ادبنا
المعاصر.
• وكم تداولنا كُتباً ومصادراً نقدية نحفظ قواعدها ونرعى اصولها، لنستشهد
بها في مقالاتنا ومناظراتنا النقدية، حتى اصبحت كالدستور غير خاضع للاعتراض
والتبرم والشجب والرفض.
• وكم إزدَحَمتْ وأُتخِمَتْ رفوف مكتباتنا بـمصادر النقد كـ (مباديء النقد
الادبي) للناقد الانكليزي ( ارمسترونغ ريتشاردز) وكتب اخرى لنقاد آخرين كـ( فنون
الادب) و(قواعد النقد الادبي) وغيرها، حتى
باتت هذه الكتب مادة دسمة تَغذّتْ عليها ثقافتنا النقدية، وأصابتنا بالبِطنة وتخمة
الاغتراب .
ثم ان النظريات النقدية الوافدة من الغرب ايضا والتي أبحرَتْ في ادب القصة
والرواية كنظرية (لوكانس) و(فيشر) و(ستالين) باتت هي الاخرى ميزاناً وحَكَماً على
النَتاج النثري المعاصر .
وهكذا كَرَعنا وشربنا وابتلعنا هذا الخليط القادم من ثقافات دخيلة متنوعة،
والتي وُضِعَتْ أصلاً لثقافة غير ثقافتنا، كون الأدب يمثل ثقافة الشعوب، وعلى
الاقل كان من المفررض ان يتصدى روادنا ومفكرونا لبيان مدى صلاحية هذه النظريات
الوافدة للادب العربي وتعيين حدودها .
وحتى الكبار مثل (طه حسين) و(المندور) و(المازني) و(العقاد) وغيرهم قد
قدّموا الجميل من الافكار النقدية، وبَوَّبوها وشرحوها في مصادر هامة ومهمة، لكنهم
لم يبحروا كثيراً في تراث (النقد العربي) ليحددوا معالمه ومنهجه واركانه كما فعل
الغرب،بل كانت اعمالهم توافقية وتناسقية بين الثقافات ، حتى انهم لم يجدوا لنا
مقومات نقدية عربية خالصة تعيننا على مواكبة التجديد وللتصدي الى هذا المد الجارف
الدخيل.
ورغم ان مناهجهم أسهمت وبشكل فاعل في حركة التجديد لربط الطرق بين تراثنا
والمدارس الاجنبية، لكنهم لم يضعوا لنا صمام أمانٍ لحماية كنز ثقافتنا، أويجدوا
لنا مفتاحاً عربياً بامتياز لايقبل التزوير والتشويه.
- وهذا ماسمعته نصّاً من استاذي (مهدي محمد علي )رحمه الله في (البصرة) حيث
قال:
(أنا اقرأ وأطّلع على كل النظريات النقدية الحديثة الوافدة لكني لا أؤمِن
بها.)
وكان يوصيني بالتبسيط الغير مُستهجَن والابتعاد عن الحشو المُبتذل من
الالفاظ عند الابحار في النقد.
- وكذلك استاذي الشاعر الكبير (محمود البريكان) رحمه الله ، كان هو الاخر
يمجّ ويستهجن كل ما هو غريب على الادب العربي وقال مرة :
(أنا أُدرِسّهُ في المعهد لأنه مفروضٌ علي.)
وقال لي مرة :
(هات لي نقدا عربياً خالصاً لقصيدة من قصائدي فاكون مسروراً أيّما سرورا.)
واوصاني :
(اياك ان تأتي بما لايُفهَم من القول والحديث، وإياك ان تتشدق بهذه المدارس
فهي مُقَولَبة بقوالبهم وتناسب ثقافتهم .)
وللاسف باتت المصادر والمدارس والنظريات النقدية الوافدة من اوربا تُدرَّس
في جامعاتنا واكاديمياتنا وتُفرَض على إنها هي المعيار الصح في النقد العربي.
ويكفيكم مثالا واحداً:
جَرّبوا واحضروا ندوة او محاضرة نقدية لاكاديمي عربي؛ لترى وتسمع العجب
العجاب من الفاظٍ لم تكن سامعاً بها من قبل، ولن تفهمها ان لم تكن من اهل الاختصاص
، وستجد نظرات المحاضر لاتكاد تفارق ورقته المكتوبة؛ بسبب صعوبة تلفّظ هذه
المصطلحات. وما كان من اخواننا الاساتذه الا بزيادة حشوها في مؤلفاتهم لانقاذ
الموقف من التشويه والتيهان ، وحتى الحشو هو الآخر بات يقضّ مضجع المستمع والقاريء
والمتلقي.
وعلى المتابع أن يعرف بأن هذه المدارس النقدية الوافدة باتت متصارعة فيما
بينها مذهبياً وفكرياً وعقائدياً .
لقد انعكستْ هذه الاختلاطات على كثير من السلوكيات النقدية عندنا ،
وتجذَّرت مفاهيم خاطئة أصبحت هي ركائزاً وأركاناً يوجب اتباعها ولا نحيد عنها .
الآن صارت الساحة الادبية مزدحمة بممارسات الكتابة النقدية، واختلط حابلها
بنابلها، حتى غصَّ السوق الادبي بأنصاف النقّاد والمتطفلين والادعياء، والذين
اقتحموا أسوار العملية النقدية الرصينة بشراهة لابتزاز كل معايير النقد الرصين،
مستندين الى مذاهب نقدية قد تعصبوا اليها كلّ حسب انفعاله الشخصي أو رؤيته
السياسية، في الوقت الذي نجد اقلامهم خاوية من كل ثقافة نقدية أو عتاد لغوي أو
منهج نقدي.
- وأتذكر احتجَّاجات الناقد والكاتب السوري (ياسين رفاعية) رحمه الله على
فعل المتطفلين النقدي، وسمّاه بـ (الانفلات العجيب) في تقييم الابداع الفني.
هذا التطفل النقدي قد انسحب الى الصفحات الثقافية في الصحافة الورقية وفي الكثير من المنتديات الادبية أيضا، حيث صار
محرروا هذه الصفحات والمنتديات قَيّمين على الثقافة والابداع الادبي، حتى قال بعض
النقّاد (ان بعض هذه الصفحات الثقافية ملأى بغير المثقفين، وإن مانقرأه انما هو
كتابات مجانية بحتة)
هذا الانفلات النقدي سببه إننا لم نضع منهجاً نقدياً اصيلاً من صميم ثرائنا
وتراثنا الادبي، وأخضَعْنا ثقافتنا الادبية للقوالب النقدية الدخيلة الوافدة
الجاهزة، والتي تختلف اساساً عن لغتنا وثقافتنا، مما ولَّدَ مسخاً ثقافياً وغُربةً
لا انفكاك منها.
وما ان تحضر جلسة نقدية لنص ادبي معين، حتى تجد (سارتر) او (اليوت) او
(مايكوفسكي) او غيرهم من التابعين العرب قد حضروا بنظرياتهم ومعالجاتهم وافكارهم
لتكون سنداً ودليلا دامغاً، وحجة لكل سؤال ولكل كشفٍ وغوص في النص.
بينما رفوف مكتباتنا تحتضن (الجرجاني)الذي يستشف معايير الذوق والحس الشعري
من جوهر الموهبة، ومن صميم ذات الشاعر او الناثر، ويستشف كيفية الحكم على قريحة
وطبع المَلَكة التاليفية، ومعرفة الاختلاف بين شاعر وآخر وعلاقته بأختلاف
المُتلقين .
أين نقّادنا من (ابن قتيبة) الذي عالج وشرح فضاء الإلهام الذاتي لدى
الشعراء وتأثّره بالدوافع النفسية، وكيفية قَدْح الخاطرة لحظة الكشف والتأليف.
هذه المباديء والشروحات وضعها روادنا قبل أن يدخل علم النفس مجال النقد
الادبي، وقبل ان يجد علماء النفس طريقهم الى باحة الادب.
• ألم يكن (الجرجاني) في كتابه (الوساطة) قد قدَّمَ للقاريء محاولة تجريبية
مبكرة توضح فكرة التذوق الادبي للمتلقي؟
حيث اختار مختارات معينة من نصوص ادبية فيقول:
( تأمل كيف تجد نفسك عند انشاده
،وتفقَّد ما يتداخلك من ارتياح ويستخفك من طرب اذا سمعته)
- اليس هذا مانبحث عنه في العمل النقدي ؟
و(الجاحظ) كذلك لم يكن متأخراً عن هذا المجال وكذلك (الآمدي) و(قُدامة)
وغيرهم .
هؤلاء كلهم قدّموا افكاراً ومحاولات واجتهادات مبكّرة سبقتْ علم النفس
التجريبي من اجل ايجاد قواعد محددة واركان لمعرفة القيمة الادبية للنصوص، وفهم
كيفية توضيح وشرح وتفسير العبارة والنص الادبي لوضع تقييم عادل ضمن حكم مقبول .
هذه المحاولات اكتنفها الاستطراد والتداخلات والخلط حالها حال اي تراث اخر
يقتضي الكثير من البحث والمعالجة والاستكشاف الدقيق من خلال الغوص بين جزئياته،
لإقرار المُحددات والثوابت، والذي مازال نحن بحاجة اليه الآن بعد تأخر لعقود، لانه
الثابت الذي يحدد هويتنا اللغوية والادبية والثقافية والحفاظ عليها من التمزق
والنهب والضياع.
وهكذا نجد ان التباعد والتباين بين تراثنا النقدي العربي وحركة النقد
الحديث تزداد اتساعاً ، وكلما ازداد نفوذ التيارات الدخيلة إزدادت الهوّة بينه
وبين ثقافة الاصل، وابتعد حتى التوازي بينهما، لان محاولات التنكّر للاصل مازلت
قائمة، والمؤسسات الاكاديمية مازالت مُغرمة بذاك الدخيل، وتتصور بإنه هو الحق
وماعداه باطلا .
ومازالت عقدة النقص لاتنفك من رقبة الفكر العربي الاصيل ، بل وما زال بعض
النقاد والمثقفين يتندرون ويستهزئون بمقولات نقدية قالها ارباب النقد العربي
كمقولة الجاحظ (اعذب الشعر اكذبه) دون فهم مكنونات هذه العبارة وما تومي اليه او
تتضمنه من دلالات نظمية وتأليفية .
وهذه المقولة التي يقال ان مصدرها الجاحظ قد نبّهتْ مبكرا الى ضرورة
الاهتمام بالبناء الفني في نظم العبارات، وهذا من جوهر وصميم عملية التأليف مهما
اختلفت ثقافته او منبعه أوربياً ام عربيا، لكن للاسف مازال نقّادنا المحدثين
يغلقون الباب بوجه هذه الافكار الرصينة،
منبهرين بذاك البصيص القادم من الغرب، لا لسببٍ ؛ اللهم إلا لطاقة سلبية قد تأججتْ
بين الاضلاع، بسبب الشعور بالنقص أو لعصبيةٍ مذهبيةٍ فكرية او سياسية أعشَتْ
بصيرتهم قبل بصرهم.
• خلاصة القول :
لانريد الاستغناء تماماً عمّا يدخل من نظريات نقدية غربية الى ساحتنا
الادبية والثقافية ، ولا نريد الوقوف على عتبات ابواب فكرنا وتراثنا النقدي الاصيل
وغلق الابواب الاخرى ، بل لابد من التلاقح الفكري بشرط ان لايزيح الدخيل فكر اهل
الدار ونصبح أيتام فكرٍ وثقافة.
- احترامي وتقديري..
( كريم القاسم )