يدي اليٌمنى و يد(الآخر) اليُسرى
العقيد بن دحو
لا زلت و أنا
اتوسط بين سن الطفولة و سن المراهقة ؛
أذكر متمردا على يدي اليٌمنى، أُحاول عبثا عكس قواعد قوالب الثابت و المألوف ،
المسطر عادات و التقاليد أسبح ضد تيار العائلة و العشيرة و القبيلة. ان أٌخالف ،
حتى أن كان هذا الاختلاف من أجل الاختلاف !.
ما الذي كان
يضير لو أني أكلت بيدي اليسرى و شربت ، گ طفولتي أعسريا. مارست حياتي اللعب ؛ بكل ما يملكه يساري من
تداعيات و تأويلات أخرى..... الذي لا اشعر بأي انتماء من شدة المحظورات و التحذيرات نحوه.
غير أن يوما
وفي صباح باكر ، تأخرت فيه الشمس عنوة عن البزوغ الى ساعات متأخرة عن النهار و في
أحدى شتاءات البرد القارص ، سمعت جدتي على موقد ساخن تسخن اطرافها ، توصي أُمي أن
تضع حدا ليدي اليُسرى ، و الحل سهلا في نظرها ، أن تكوي يدي اليُسرى بعود ثقاب
مشتعلا حتى لا أستعملها ثانية أثناء واجباتي اليومية الإجتماعية.
كانت جدتي
توصينا بأن اليد اليُسرى للكفار و النصارى و للشياطين.
و على الرغم
من صغر سني كانت دائما تنتابني و تراودني أسئلة و تختلجني حيرة و ذهول هول أمري :
مادام وضع دوام حال كذلك عند جدتي و عند سائر الساكنة. لماذا خلق الله فينا زوجين
من الحواس و الأطراف و الأعضاء !؟
ماعاد الله
ان يخلق مثلا اطرافنا اليُسرى و سائر أعضاءنا المزدوجة مشاعا و شططا دون هدف او
سعي او غاية نبيلة أو رساله لهذه الخليقة خليفة الله في ارضه !؟
ثم في نظر
جدتي (حنا) لماذا الله حلل اليد اليُسرى على الكفار و النصارى و الشياطين و حرمها
علينا ، و هي عضوا من سائر اعضائنا حتى اذا أشتكى منه عضوا تداعى سائر الجسد بالسهر و الحمى !؟ المكمل لحياتنا
الفيزيولوجية... !؟
مع الايام ،
و لما أشتد ساعدي و تجاوزت مرحلة الحلم الى مرحلة الصور الى مرحلة الفكر ، و جدت
نصائح جدتي الأُمية التي لم تتلق أية مرحلة تعلمية تعليمية في مجرى حياتها ، لم
تُسجل اية سيرة ذاتية مهنية ما ، عبر سائر مراحل عمرها. و جدتها عند مختلف مظاهر
الحياة التي نعيشها اليوم و نحن متعلمين مثقفين أو انصاف متعلمين أو انصاف
مثقفين.حياتنا السياسية الإجتماعية الثقافية الإقتصادية الجميع يستخدم الجانب
الايمن من وظائف أعضائه الحيوية عبر مختلف
وظائف الحياة ، في حين الجانب الأيسر معطل كليا لأسباب دينية أو دخيلة عن الدين أو
شبيهة بالدين. و كذا عادات و تقاليد توارثها الاجداد للاحفاد ؛ أبا عن جد ، ما أنزل الله بها من سلطان....!
معنى هذا أن
جدتي التي لم تتلق اي صنف و نصيب وأي نوع من أنواع التعليم متقدمة على انصار
(اليمين) و لو بآخر العلاج (الكي) !.
كم كانت هذه
الفكرة تشبه تلك المقولة التي كانت رائجة ابان السبعينيات و حتى تمانينيات القرن
الماضي عن اولئك الوفود السُياح الأجانب - (الروامة، القور ، النصارى ، الكفار ،
المبشرين بالنار) - القادمين من أوروبا الغربية بمظاهر سياراتهم الفارهة رباعية
الدفع ، خيمهم المخملية الدافئة المكيفة أوتوماتبكيا و زادهم و عتادهم و متاعهم
يسًر الناظرين و يشد انتباه ساكنة المناطق السياحية. كان حين يتساءل ابن فقير أباه
: لماذا هم هكذا يا أبي...أغنياء سعداء و نحن فقراء بؤساء أشقياء تعساء !؟
أظن هذه
جنتهم فليتمتعوا قليلا اما نحن هناك.... جنتنا..!؟
بعد صمت وسمت
و حنحنة وسعال ؛ تحرك الأب العجوز قليلا عن متكئه الأيمن (...) قائلا بصوت خافت
ترابي ، يشبه صدى الكلمات المتقاطعة اامعتلة ، المثقلة بحجم وقع السنين تخرج من
فيه متحشرجة ، ما يشبه سقط متاع الحسرة و الألم : ما أخشاه يا ولدي لا هذه..... و
لا تلك !
بمعنى لا
الحياة الدنيا و عشنا فيها احرارا أخيارا و لا الجنة الموعودة !.
فالذي يريدنا
أن نستعمل طرفا او شقا واحدا من حياتنا لهو أمر دُبر بليل !
و كأننا
خُلقنا لطرف واحد نصف حياة ، أما الشق الآخر يؤدي وظيفة تجميلية فقط !..
اهي تلك
الكلمة التي تقول أننا خُلقنا من ضلع أعوج، لذا كل ما قينا اعوجا معوجا مكنونا لا
داعي لإصلاحه !
او تلك
الكلمة الصفراء التي تقول أن البشرية ساعة ما تقوم القيامة تبعث من أصغر عظمة في
أسفل الظهر ، عظمة العُصعص !
شوية مستوى... !
لا غرو اذن
ان وجدت الرصيف ممر الراجلين على اليسار و كأن رصيف اليمين ليس برصيف! أفهمها كما
شئت !؟
و كأن
السيارة ليست بسيارة تلك التي مقودها على اليسار !
و كأن مفاتيح
حروف جهاز الكومبيوتر الى اليسار ليست كذلك.
أو ازرار
قميص بذلة الرجال عن اليمين ، و قميص أزرار معطف النساء على اليسار ، على أي مقياس
ووعي وازن تم التفريق بين لباس الجنسين يسار يمين !؟
و عندما تجد
السياسة بدورها تفرق بين الموالاة و المعارضة باليمين و اليسار و المحايدين بالوسط
نعلم بأن ما كانت ترويه جدتي من أساطير عن الايدي الميمنة و الميسرة عين الحقيقة.
ساعتئذ سارعت
البحث عن أية اسطورة تكون تصب في اتجاه معتقد مخيلة جدتي التي لن تعد فردانية انما أصبحت جماعية ، فوجدت فعلا أن أسطورة (ميداس) اليونانية ، بطل عاقبته الألهة ، كل من يلمسه
يتحول الى ذهب. الى ان نسي و لمس أطرافه مما صار يتضرع الى سائر أعضائه التي تحولت
كليا الى ذهب.
اذن الذي
يريد أن يحلل المحرم و يحرم المحلل الينا هو يريد ان يعطل شقا مهما في حياتنا أكثر
مما نحن فيه معطلين.
و لنا في
شباب الخدمة الوطنية ابان السبعينيات وهم يعودون الى حياتهم المدنية و قد تغيرت
خُطى ممشاهم ، يسبَقون القدم اليسرى عن
اليمنى مما يصعب عليهم التأقلم مع حياتهم الجديدة المدنية الا بعد زمن طويل !
بل ورد
بالأعراف و تقاليد المجتمعات البدائية أن كبيرات النساء العجائز يعرفن بسذاجة
البداية ؛ المرأة المقبلة عن الزواج أهي بكرا أم ثيبا من خلال خطوات أقدامها الاولى ، إن قدمت أحدهما
عن الأخرى !؟
كم كانت جدتي
متقدمة عن هؤلاء الذين جعلونا يمينا و يسارا في عقر ديارنا حتى سُمي بالاشول أو
الاعسر ، و لا عجب ان وجدت الامم المتحدة تخصص لاصحاب ضحايا اليد اليسرى الأعسريين
الأشوليين يوما عالميا خاصا بهم و كأنهم من ذوي الحاجات الخاصة أو مرضى في حاجة
الى اعادة تصحيح او اعادة تأهبل اكلينيكي.
صحيح توجد
وسائل بسيطة ضُبطت ايقاعاتها الوظيفية عن اليد اليمنى كالمقص مثلا كأوثار آلة
القيتار.....الخ لكن العيب ليس في هذه المعدات و الآلات و الوسائل ؛ لكن العيب من
جعلنا نُفكر بنصف (بصيلتنا السيسائية) ، نفكر بنصف (مخيخنا) ، نفكر بنصف ذاكرتنا ،
بنصف ذكائنا ، بنصف أحكامنا على رائزنا المعرفي العلمي الفكري الثقافي حتى اذا ما
جاء الفأس بالرأس حملنا (القضاء و القدر) ؛ قميص عثمان ، وزر كبارنا الذي جعلوا
حواسنا تسمع ، تنظر ، تشم ، تتذوق ، وتلمس ، تتنفس بنصف الحقيقة فقط !.
ثم لا داعي
نفكر وفق مستوى فكرة تداعي و تراسل الافكار و الخواطر ، كأن نجعل من المسموعات
مرئيات ، و من المشمومات أذواقا ، و من الملموسات مرئيات بما يغني اللغة الشعرية.
أي لا داعي
نرجو أن يتحدث اليمينيون و لا اليساريون و لا الوسط منهم عن (الإيكولاليا) و لا عن
(السونستاسية) - Echolallia أو Senstassia
خشية أن يكونوا قد تلقوا بدورهم بإكتواء ما من لدن جداتهم حتى يظلون بعيدين عن
الكفار و النصارى و الشياطين... !.