الحرب المجنونة و جنون التاريخ
العقيد بن دحو
سنة 1940 بينما كانت المدفعية الألمانية النازية تدُكُّ ثخوم و قلاع وخنادق
العاصمة الفرنسية باريس ، عاصمة الجن و الملائكة - على طرفي تقيض - لم يتأخر
الأدباء و الفنانون و المثقفون من الجهتين و من الثقلين ؛ أن يتخندقوا مع
الجنود ، سواء من جانب المهاجمبن أو من جانب المدافعين. حيث كل فئة أو قربى أو
مصلى ترى الحرب حسب أحلامها ، فلسفتها ، أفعالها و تصوراتها الذهنية السيكولوجية
السوسيولوجية ، و كذا معداتها اللوحستيكية و أبعادها الأخلاقية ان كان للحرب من
أخلاق !.
يوم ذاك سميت تلك الحرب بالمجنونة.
حيث الشاعر ؛ الكاهن ، الجندي المحارب جنون سماوي ، و من حيث الجنون هو
الملح الذي يحمي العقل من الفساد.
يوم ذاك أطلق هؤلاء الأدباء الفنانين المفكرين المثقفين أسم "
أللاشيئية" عن حالة الحرب هذه. إذ (كل شيئ لا شيئ) !
كل شيء حولته المدفعية و المدفعية المضادة الى ركام ، الى حطام ، تحفه
الزراية و الخسة ، الدناءة و أبشع أنواع الإنحطاط الإنساني. الموت و جثة الموتى
المتعفنة في كل حدب و صوب ، تملأ الشوارع و تزكم الأنفس . خلو الأزقة من كل شيئ
عدا أنين الجرحى و الانفاس النتصاعدة المتقطعة الأخيرة المحتضرة . مواء القطط و
نباح رجع صدى الكلاب الضالة و الأليفة ،
ووطأة أصوات الأحذية العسكرية الحذرة المترقبة المشرئبة.
هنا باريس عاصمة الموت. الموت ايضا يبحث عن موقع قدم آمن عن طوق نجاة. الموت الذي لم يعد رجلا ، يتموه ،
يتخندق يخشى بدوره من الموت فمن ينقذ من !؟ و من يقتل من !؟
كان ذلك اليأس ، الإحباط ، الملل ، الكلل ، الفشل الذي أستبد بالقلوب خلال
تلك التي وصفت بالمجنونة. الحرب القاسية.... و من ثمة راح يتحاملون على أنفسهم و
يدللون بأعمالهم على منطق " اللاشيئية" أو وفق منطق (كل شيء لا شيء)!
كانت الحرب قد جُنّ جُنونها - خبط عشواء- مسعورة تلتهم البشر و الشجر و
الحجر ، و تدك بمعاولها الوحشية كل ما تصادفه في طريقها ، و كل ما كانوا يعتزون به
من قيّم حضارية مادية و اللامادية سامية ،
و كل ما كانوا شيدوه بالعرق و الدم و النفس و النفيس و الروح ، بكدهم وجهودهم من
صروح شامخة سامقة. فكان رد أولئك الفنانين وهم يستفيقون من دوخة فقد الوعي الحربي أن اطلقوا على المرحلة التي
وجدوا أنفسهم عندها مكرهين لا ابطالا " الصفر التاريخي" !
عمدوا الى خلق فن يناقض الفن ، يناقض هذا الخراب و الدمار لفظا ولحظا
واشارة ، و فق رؤية الرسام بالالوان ، ورؤية الشاعر بالكلمات ، و رؤية الروائي
بالإنطباعات المعاشة أو وفق وقائع الشعور. أين تتلاقى رؤوس مثلث أسطورة فنان :
الشاعر ، الكاهن و الجندي المقاتل المحارب ، اين ترافق هذه الرؤوس الثلاث أو
الزوايا الثلاث أو الحالات الثلاث أفعال ثلاث :
يكون للشاعر فعل الإبداع أو الخلق ، الكاهن فعل المعرفة ، و الجندي المحارب
المقاتل فعل القتل. تتألف صوره من خِرَق
بالية و شظايا أخشاب و أزرار مهشمة ،بقايا أحذية ، فسائل خيوط ، تذاكر ممزقة ترام
و قطارات و حافلات ، و غير ذلك من صنوف النفايات ....كانوا يلصقون هذا الحطام على
لوحة فنية أو يصبونها على قاعدة تماثيل ، ثم يقدمونها للملأ في وقار مفتعل على
اساس كونها آية من الجمال و الفن و الفكر و الثقافة.
ما أشبه البارحة باليوم و الحرب الإسرائلية على قطاع غزة فلسطين تعيد لنا
التاريخ بوجهيه المأسوي و الساخر ، و التدمير و القتل في كل مكان أين يتساوى السكن
على ساكنيه بالأرض و تحت الارض ، و الجرافة و الدبابة و الطائرات و المسيرات و
مختلف القتابل و بقايا أغضاء بشرية و بقايا ألعاب
، و مطاهر قتل عوائل بأكملها هي مظهر لا يقل بشاعة و جنونا عن مظهر ذاك
التمثال الذي قذمته نهاية الحربين
العالميتين التي صُبّ فيه دمار و مأساة الشعب الفلسطيني عار و وبال على الإنسانية
قاطبة في عصر الجميع يدعي فيه حقوق الإنسان و في عصر أثقله منطقه ،يحاول الجميع
الحارس و الحريص غض الطرف ، بينما على طرف نقيض يبزغ تمثال (الهلوكوست) ممن كانوا
يحسب لهم حقوقا تاربخية على العالم كله ، سواء من شارك في الحرب العالمية الثانية
أو من جنح الى السلم.
كما أدى انفصال الأدب عما يحدث بالمجتمع الى ظهور ما يسمى بالهروب من
المجتمع. اذ لم يعد الأديب الفنان أو
المثقف ناطقا رسميا بأي أسم أحد. مما عجل من جديد بالتفكك...التفتت. العدمية.. و اللجوء الى الخرافات و التعاويذ و
السحر و الدجل و الى الكتب الصفراء أكذوبة الطب البذيل :
الرقية...الحجامة....التمائم....الأضرحة...و القبور....
التركيز على شيئي واحد يتحول بقدرة قادر الى شيئ ذاته. عندما يعجز عمن قام بالحرب عن ايجاد تفسيرا لها أو
كأن يوقفها ، تماما كما عجزت جولدن شتاين عن ايجاد تفسيرا مقنعا لوردتها : الوردة هي وردة هي وردة
، على وزن هربت منك اليك و اليك منك '!
بمعنى أن الحوادث المؤسفة التي تقع في هذا العصر : القتل ، الحرب ، التعذيب
، الدم ، القسوة ، الخوف ، الترجسية ، السادية ، الارهاب ، الفوبيا كل تلك الأشياء
اللا أشياء تندرج تحت مسمى تراجيدي كوني واحد يسمونه لغة و اصطلاحا و فيلولوجيا
"جنون التاربخ" !.
غير أن معظم الذين يحكمون العالم مجانين من نابليون بونابرت الذي أزدرد
الجيوش و تواجد في قارة اوربا الى ناتنياهو الذي لا تكفيه صورة قتيل واحد.... و
شعارهم : و لنكن عقلاء و نطلب المحال..هذا و اذا كان بعض الجنون فنون ، و خذوا الحكمة من افواه المجانين ، فإن البعض
الآخر دمار و حروب و مآسي. و كما يُجن العقل البشري فإن القيّم ايضا تمرض وتجن
أيضا. يمرض التاريخ و يمرض الحاضر و المستقبل و تجن . كما تجن الفلسفة و الشعر و
التاربخ ايضا....
عندما تبدأ في فكرة عمل أشياء سلما أم حربا و لا تعرف كيف تنهيها فثمة عين
الجنون ذاته.