العادات اللُّغوية
العقيد بن دحو
هل أصبحت
اللغة عاجزة عن الإتصال و التواصل ، بغية ايجاد أي نوع من أنواع الحوار (....) !؟
يقول افلاطون
اللغة و سيلة و ليست غاية. و بالتالي لم تعد وعاء الفكر ، و لا هي الأسلوب ، من
خيث الاسلوب هو المجتمع.
لم تكن اللغة
عاجزة في يوم من الايام بقدر ما هي عليه اليوم من شط و عط و مط اصطلاحي فيلولوجي.
العادات
اللغوية ، بوصفها موصلا جيدا من موصلات التفاهم بين الناس. و بالأصح موصلا ردئ
لتحقيق هذا التفاهم، ذلك أن يونسكو أستطاع أن يكشف حقيقة على جانب كبير من الخطورة
و الأهمية. هي أن اللغة التي كنا نظن أننا نتواصل بها كثيرا ما تؤدي بنا الى أن
نتقاطع و لا نتفاهم. قاصرة عن تحقيق أي
نوع من أنواع التواصل حتى يشعر الفرد احيانا و كأنه في عزلة عن مجتمعه بعد أن
انقطعت سبل أواصر وسائل الإتصال بينه و بين الآخرين.
تماما كما
كان العجوزان بطلا مسرحية (الكراسي) يعيشان في قلعة مهجورة في جزيرة نائية لأنهما
لا يعرفان كيف يتصلان بأفراد المجتمع ، فاللغة عقبة في طريقهما كراسي في عرض
الطريق . انهما وحدهما و لا يربط بينهما
سوى الظلام و العزلة و الإغتراب ، و لذلك يكتفي العجوز مخاطبا زوجته لغة يتوهمان
أنهما يتفاهمان بها و الحقيقة انهما يتوهمان و كفى. فحديثهما أكثر من مجرد صيغ
لفظية أعدت من ذي قبل ، و هي تدور حول اسئلة جاهزة عن أجوبة جاهزة ، و حينما يتاح
اللقاء بينهما و بين أفراد المجتمع يستعين العجوز بخطيب يحكي لهم قصة حياته ، و
لكن الخطيب بدوره لا يجد من الألفاظ ما
يعبر به سوى كلمة (الوداع) التي تخرج من
فيه ضعيفة تتحشرج .
ان البطل يقف
وحده وسط الكراسي الفارغة ، و اللغة التي يستخدمها ليست أكثر من كلمات فارغة ،
وزوجته التي يخاطبها ليست أكثر من رجع صداه ، و الجمهور الذي ينتطره ليس أكثر من
أشباح .انه عالم فارغ ؛ مليئ بالفراغ . عالم تتم فيه أكبر عملية (تفريغ) هائلة.
تفريغ الكراسي ، تفريغ الالفاظ ، و تفريغ التاس ، و تفريغ لكل شيئ.
هكذا تناول
يونسكو اللغة في جل مسرحياته اللغة على اعتبارها وسيلة للتفاهم او وسيلة قاصرة عن
تحقيق التفاهم ز جعلها مدارا لكثير من
مسرحياته . نموذجا (الخراتيت) و هي عبارة عن ظهور حيوانات (الخراتيت) احدى المدن
تبث الرعب و الخوف (الرُهّاب / الفوبيا) في أنفس الخلائق ، كل من وقع نظره عليها
من شدة الخوف و الفزع يتحول بدوره الى خرتيت ، و لم يجد الناس سبيلا الى الخلاص
الا أن يتحولوا الى خراتيت. فالدواء الوحيد أن يصاب الإنسان بالداء. انتشر الداء و
أقبل الناس عليه، الا شخص واحد ظل معزولا في العزل. يؤثر الداء عن الدواء ، و يفضل
الخوف على أن يتحول الى حيوان الخرتيت . لقد انسحب الإنسان عن التجمعات البشر
الحيوانية، عن قطعان الخراتيت ، عن الأصابة بمرض (الخرتة) . وجد نفسه وحيدا أمام
الخراتيت تحامل على تفسه و على انسانيته ، و قرر أن يظل انسان في وسط الخراتيت ، و
لما وجد نفسه وحيدا أمام الخراتيت تحامل على نفسه و على البشرية التي تحولت الى
خراتيت. فالإنسانية هي الشيئ الأخير الوحيدة الذي لا يستطيع الإنسان أن يتنازل
عنه.
لم تكن اللغة
في يوم من الأيام أشد عجزا بقدر ما تعيشه خلال هذا العصر الذي أثقله منطقه . و
تحولت الكلمات الى مجموعة تيمات و اشارات و لوغويات ولبوسات وروابط أخرى...
لذا لا غرو
ان وجدت العلاقات البشرية في اضمحلال ، و منذ الاشارة الاولى ، تلك الاشارة التي
تسبق الكلمة يقع سوء التفاهم ، سببا للتنافر أكثر من التقارب و الإنجذاب ، تماما
كأقطاب المغناطيس ، المتشابهة تتنافر و المختلفة تتجاذب.
لم تعد لغة
الكلام المتعاهد عليها موصلا جيدا للعلاقة بين البشر. لم تعد كافية ، لهذا استعانت
ببعض الموصلات الأخرى و بعض الوسائط
الأخرى من اجل منح المعنى قوته اللفظية.
لا غرو أن
كان "كيبلنغ" الشاعر الإنجليزي رجل نحالة لا يحفل بقواعد اللغة ، فلما
أعاب عليه بعض اللغويين ، ناصره البعض بعبارة : كل قواعد اللغة لم تصل الى مثقال كلمة يكتبها كيبلنغ.
غير أن
الاغارقة أحبوا اللغة و أعتبروها بالوطن و الحبيب بقولهم في نص فيلوكتيتيس للشاعر
الدرامي صوفوكل : أيتها اللغة العزيزة هل لي أن اسمع يونانيا يوجه الي هذا الحديث
الا بعد هذه المدة و الزمن الطويل.
كل كلمة
متحجرة تحمل حقيقة في رحم الزمن. و حديث بألف صوت.