الجمهور
العقيد بن دحو
لقد كتب "شارل بيتو دوكبلو" سنة 1751 في كتابه " تاملات حول
عادات هذا العصر ، قال : " انا اعرف جمهوري لذا انا اكتب".
وعليه نتساءل هل يعرف الاديب الفنان المثقف صانع المحتوى جمهوره فعلا !؟
بل هل لدينا اصلا و فصلا جمهورا ذواقا يحترم الفن ، عملا و عبادة !؟
تبدو كلمة "جمهور" كلمة فضفاضة ، هيولى ، لا تستقيم على حال و لا
تستقر على وضع.
العقبة الكاداء التي تواجه اي اديب او اي فنان او اي صانع محتوى اليوم. بدونه
لا يمكن تخيل اي منجز ثقافي فني فكري قبل و بعد النشر.
سماه العالم الطبيب ؛ العارف بالمسرح الملحمي " برتولد بريخت
"بالجدار الرابع".
كما سماه " يونسكو" بكرسي القاضي ، في اشارة الى ان الجمهور
اليوناني كان اكبر و الناقد الاول ، من تعود اليه الكلمة الاولى في نجاح اي اثر
فني.
كما سماه "اسكاربيب" بالعمل الرابع.
و بين ان يكون الجمهور جدارا رابعا او عملا رابعا ،قد يقضى المؤلف المبدع
لاي اثر فني. سواء كان لحظا او لفظا او اشارة عمره كله باحثا ، وربما العمر كله
جراء فردوس مفقود من افول لا يؤوب منه مسافر.
دعنا نقر اولا ان اي اديب او فنان او مثقف لا يستحضر في وجدانه جمهورا ، لا
يعتبر معبرا عنه ، ان لم يوجه الى احد.
فان وجود جمهور مخاطب ، يتوجه اليه (الاثر) ؛ مفروض اصول عمليه الخلق
الادبي. و يمكن ان نجد فرقا شاسعا بين هذا الجمهور ، و بين الجمهور المستهدف من
عمليه النشر. كون اي محتوى فني يضم جمهورا معينا بين دفتي كتاب او اي مؤلف اخر
ابداعي خلاق.
ان اي نجاح يقتضي تحقيق عتبة التوازن ، بين الجمهور المخاطب و الجمهور
المخاطب (بفتح وكسر الطاء) ، عندما يرى الجمهور الخارجي (المستهلك) للمادة الفنية
نفسه فيها شكلا و صورة و ذوقا و لونا.
ان يشكل الاثر في الاخير حوارا مع جمهور المبدع الداخلي و الخارجي ، يسعى
ان يعلم ، ان يؤثر ، ان يقنع ، او يمتع ، او يعزي ،او يحرر ، او حتى ان يبعث عن
الياس او الامل ، الا انه حوار ذو غاية.
ان يكون الاثر عمليا عندما يلتقي الجمهور المحاور و الجمهور الذي يوجه اليه
الاثر بواسطة النشر.
بينما نجد العكس فان اثرا يدخل القارئ المغفل في الحوار و كانه غريب
فالقارئ غريب عن الجو ويعرف ذلك ، يبدو ككائن لا يرى و يرى كل شيئ و يسمع و لا يسمع كل شيئ و يحس و يفهم كل شيئ دون
ان يكون موجودا في الواقع ضمن حوار لا يشترك فيه ، فاللذة التي يستثمر رجعها حتى
يستسلم الى المشاعر و الافكار و الاسلوب
هي لذة مجانية لانها لا تلزمه. فكل لذة مجانية و بالتالي كل تبادل ادبي قد يصبح
مستحيلا اذا فقد الجمهور ضمانة الاغفال و مسافة ، يتيحان له ان يشارك دون ان يلتزم
، بينما الكاتب لا محالة ملتزم.
ان هذا الجمهور الذي يوجه له الحوار يصير شريكا للمؤلف اجتماعيا جغرافيا
تاريخيا و بيئيا ، مشكلا كتلة واحدة ، ووعيا جمعيا ثقافيا واحدا.
فكرة الجمهور لدى المبدع في الحقل الفني الادبي يتطلب جمهورا حيا ، يختلف
عن الجمهور السياسي الذي يقتضي احيانا عائدا ماديا او لذة ما بمقابل او وعود ما او
مصلحة ما....بينما يطرح الادب اشكالات لا تكسبيه بالمقام الاول.
الجمهور من اصعب ما يعاني منه المبدع بعد الخلق الادبي الفني الفكري ، فهو
الغائب الحاضر ، لذا يتطلب صناعة كما تصنع سائر الملكات الابداعية الاختلاقية.
غير ان من اين ياتي ، او يولد هذا الجمهور ؟ ، و المبدع لا يحترم نفسه ، و
لا يحترم المادة او الاثر الذي ابدعه ، و لم يحضر لهذا اللقاء مع جمهوره المحتمل
لا بدنيا و لا سيكولوجيا ، و لا نظافة ، و لا غيرة ، و لا اخلاقا ، و لا ماديا و
لا معنويا ، كما يقول المثل الجزائري الوهراني : "ماقاري ما شباب"!
اعطيني شاعرا واحدا او اديبا واحدا يملا فيها الجمهور قاعة العرض من الكرسي
الى الكرسي. ومع ذلك تجده منتشيا فرحا بما يشبه الحزن ، سعيدا بما يشبه البؤس على
ان منتوجه نفذ باكمله من على رفوف المكتبات.
بينما لا تجد اثرا لهذا الاثر (...) عند جمهور القاعات صاحب الحق الشرعي
للخطاب و الحوار المؤلف!
وقتئذ لا يهم (البيع) كونه يترك شرخا اخلاقيا ، و انما الذي يهم المبدع حقا
هو (الحوار) الذي كان يستجديه مع جمهوره المفترض ، او الذي تخيله قبل و اثناء و
بعد الولادة الابداعية.
شط و عط ومط ذلك الذي يحدث بين
(الجمهور) و (المؤلف) على حد تعبير د. طه حسين عميد الادب العربي ، المحاضر في
هيئة U.N.E.S.C.O 1954 .
جمهور غريب ، مغترب ، مهمش ، لا يهمه الذي يموت بقدر ما يهمه الذي يحيى او كما يظن البعض... !
غير انه جمهور ذكي ، حساس ، نظيف ، محترم ، له غيرته الادبية ، كما هي
غيرته الاسرية ، الاجتماعية ، الدينية ، العرقية ، اللغوية ، والوطنية.
فعندما يرى اديبه ، فنانه ، مثقفه لا يحترم جمعه و لا قرباه الثقافية ، و
لا مصلاه الفنية ، لا في لبس حيث يلبس اي لباس ، لباس الرياضة ، لباس اهل الشوارع
، بل حتى لباس النوم او المنامات فهذا يجعل من الجمهور يبتعد كل البعد عن سوء
الادب هذا... وعدم الاحترام......!
انظر مثلا الى جمهور نزار قباني ، محمود درويش ، نجيب محفوظ ، ام كلثوم ،
عبد الحليم حافظ جمهور محترم ، بذلة و ربطة عنق و كانه في لقاء دبلوماسي او عرس
بهيج، جمهور تحفه الملائكية الى عوالم سماوية ينعدم في الوزن الكتلي و نظرية نيوتن
؛ الجذب العام.
يؤسفني ان اكبر واحد من اصحاب دعاة ( النفاذ) لا يستطيع ان يجمع عشرة افراد
يستمع الى نفاذيته هذه ، فاين الخلل اذن؟
في الجماعة الجمهور او في الفرد المبدع صاحب الاثر؟
راي الجماعة لا تشقى البلاد به *** رغم الخلافة وراي الفرد يشقيها.
او كما قال الشاعر.
صحيح قد نتفهم الحرية التي يناشدها المبدع الجزائري ، و الدعوة الى التحرر
من كل التزام شكلا و مضمونا ، و لا سيما ربطة العنق.
غير ان الجمال جمال محفز على الخلق و الابداع ، فمن اين ياتي الجمهور لا
سيما بعد ان صار الاديب سلطة !؟
غير ان فاقد الشيئ لا يعطيه. فاذا كان الاستعداد لصلاه يوم الجمعة يتطلب
وجوبا لباسا معينا و نظافة بدن و استعدادا روحيا تملا المساجد ودور العبادة حبورا
و سكينة و مصلين ، نفس الشيئ عندما يكون المبدع الادبي الفنان المثقف نموذجا و امثولة من الناحية الجمالية و اللباس
و الوجه النير الحسن ، سيقبل الجمهور على القاعات يملا الفضاءات طقسا فنيا ، متمما
و مكملا لعملية البناء الابداعي. بل يجعل هذا الحضور للجمهور لحظة لقاء مع اللحظة
البدء الحلم التي تخيله الجمهور ، نفي اللحظة ، اين يصير الانسان موضوعا و العالم
موضعا و يجعل من وقته هو العصر المعاصر.
فمن الذي يعرف جمهوره عندئذ !؟
فنون أخرى للكاتب