العقيد بن دحو
(الاغتراب) من جان جاك روسو الى برتولد بريخت
يعيش المثقف عموما و رجل الفن و الادب غربة ابداعية. بل غالبا ما يعيشها
اغترابات داخلية و خارجية متداخلة. اختيارية او هي اجبارية لا بطل ، لاسباب سياسية
اجتماعية اقتصادية ثقافية.
هم اربعة فنانين مثقفين عباقرة تباينت بهم السبل. و كل منهم نصب اغترابه
الازلي ، و سكن اليه هداة و هدهدة المضطر في ليال شتاءات باردة طوال.
- "فيني" في برجه العاجي
- "هوجو" تاملاته الدينية.
"كلوديل" هجرة و اسفاره.
- "عويس" هجره الى دبلن.
ولو كانت هذه الاغترابات املتها الظروف التاريخية ، فانها شر لا بد منه
للفنان ؛ بل هي تتمة له فكرا و ابداعا و محاكمة.
وفي هذا العالم الذي تغرب فيه الانسان لم تعد فيه قيمةالا للاشياء ، اصبح
الانسان شيئا من بين الاشياء ، بل انه اشد الاشياء عجزا و ضالة ، فمنذ ظهور
الانطباعية تحلل الكائن البشري الى ضوء و لون ؛ و عومل كما انه مجرد ظاهرة طبيعية
لا تختلف عن مختلف الظواهر في شيئ ، خاضع للرصد ، السبر و القياس في لحطة من
اللحطات....كالزلازل ، البراكين ، الاعاصير ، الفيضانات ، و النينيو ارتفاع و انخفاض درجة الحرارة و كذا
الايكولوجية و الايديولوجية الميتيولوجية و ليست الميثولوجية.
لقد قال (سيزان) يوما : "لا ينبغي ان يظهر الانسان بالصورة" !
اغتراب هذا متوحش موحش ما بعده اغتراب ، عندما تصير السيارة الفخمة و
الفيلا ، و المكانة الاجتماعية و السياسية تقوم مقام صاحبها....حينها يسقط على
الجمهور او الشعب ما يسمى سقط متاع.
غير ان جان جاك روسو اول من تنبا بهذه (الغربة) لغة و اصطلاحا و فيلولوجيا.
لقد ادرك انه عندما يتولى بعض النواب البرلمانيين (لاكروبول) - التعبير الاغريقي
القديم - (تمثيل الشعب) ، فان هذا الشعب لا يمارس سلطته ، سيادته بنفسه و يبدا في
الانعزال داخل وطنه ويشعر بالغربة.
ان الهيئة النيابية لا يمكن ان تكون اداة للحكم. لكنها لا يمكن ان تكون اداة للتعبير عن الارادة
العامة ، عن ما كان يتغنى به السياسي سابقا قبل و اثناء الحملة الانتخابية السيادة
للشعب او الشعب هو السيد !.
ان نواب البرلمان لا يمثلون الشعب و لا يمكن ان يمثلونه و للسيادة لا يمكن
ان تمارس بالانابة. انها اما ان تمارس بالذات او لا تمارس اصلا.
ليس هناك طريق وسط للعقد الاجتماعي هذا.
غير ان الظروف تعقدت و الدول اتسعت ، و تشابك دواليب الحكم فيها ، فلم يكن
بد من تقسيم سلطة الدولة و الاعتماد على اسطورة التمثيل الشعبي ، حتى اذا ما تعلق
الشعب بشيئ صار قانونا كما قالت الاغريق القديمة، الاغارقة القدامى.
لكن ذلك ادى بصورة حتمية الى الغربة.
و تركيز السلطة و ضياع الحرية و المساواة في مسار الحضارة الديمقراطية.
لهذا كان استاذ الفلسفة ابان التعليم الثانوي يطرح علينا سؤالا في كل مرة :
الى اي حد تعتبر نظرية التمثيل الشعبي اكبر اكذوبة عرفها التاريخ. حلل و ناقش!؟
غير ان هذه الغربة ضرورية لتطور الانسان ، لكن لا بد من التغلب عليها
باستمرار...بالنضال. والدفاع عن القضايا الكبرى و عدم الرضوخ للديماغوجية و ما
يقوله رجال الساسة ، فالسياسي غايته الاولى ان يصل للحكم باي وسيلة كانت ،
ميكيافلية او ماكلوهانية ، الغاية تبرر الوسيلة او الغاية ذاتها هي الوسيلة، و
بعده الطوفان !.
لابد من الاستمرار حتى يعي الناس دورهم في تحسين اداء كيانهم في اداء عملهم
اثناء عملية العمل ، حتى لا يكونوا عبيدا و لا مستاجربن لا نتاجهم ، بل سادة له.
ان الاديب بدوره الفنان ، و مادامت السياسة فن الممكن ، و هو يكتب او يرسم
او ينحث...... يجب اللا ينعزل عما يقوم به من حرفة ، و الا انفصل عنه في عملية
البيع او للاهداء ، هنا ينكفئ المبدع على نفسه و يشعر بالغربة ، ينفصل عن انتاجه ،
يتوقف الانسان المبدع في حين يكمل انتاجه مسافة ميل ، فاين المؤلف اذن!؟
ان الانسان الذي اصبح (حالة) لا يحتك الا بصغار القوم السفلية ، اما الكبار
العلية ؛ هناك يسكنون القلعة يحيط بهم الغموض المبهم و اللا ادري !
يكون كافكا في هذه الحالة خير من عرف الاغتراب و عايش الاغتراب في رواية
القلعة ، حيث البطلين الازلين السيد (سمت) و السيد (كلام) كالطقس يهيمنان على
المشهد.
ان عالما لا يستطيع ان يفهمه سوى العلماء يشعر فيه الناس بالغربة !.
يجب ان لا ننكر في المقابل كان لهذه الغربة اثرها في تطور اعمال العديد من
الادباء و الفنانين ، كاعمال كافكا ، وفي موسيقى شوينبرج ، و في انتاج السيرياليين
و التجريديين و الانطباعيبن.
ان الشعور بالغربة الشاملة يتحول الى الياس الكامل ، يتحول بدوره الى
العدمية.
لماذا هذه السيريالية اذن ؟
الى من يتوجه الناس طلبا العدل و المساواة؟
الى من يتوجه الادباء و المثقفين و الفنانين طلبا للدفاع عن الفن و الادب و
الثقافة ؟
من يمولهم ، من يدعمهم ؟
الحق لا يعطونه ، الحق يمنعونه. و حدهم الاغنياء الذين يعملون كما ورد في
كتابات (ابسن).
غير ان لن تجد واحدا مثل برتولد بريخت ، الرجل الدرامي الملحمي ، الطبيب.
الذي وضع ( الاغتراب) على الطاولة الاكلينيكية وقام بتشريحه ليشرحه الناس. كيف
يضع القاضي (المتفرج) و يجبره على
ان يتخذ قرارا ، الجمهور النظارة ، كما ينقل كرسي القاضي الى كرسي المتفرج و يحول
المتفرج الى المحاكمة ، و يحول صالة العرض الى قاعة محاكمة، يعلم الناس كيف يصدرون
الاحكام. و تلك عي جراثيم الاغراب في نظرية الاغراب عند برتولد بريخت.
تختلف كليا عن نظرية التكفير و التطهير عند ارسطو في المذهب الكلاسيكي. لا
تدع المتفرج يخرج من بهو قاعة المسرح الا وقد تطهر و كفر عن ادران انفعالات النفس.
بينما نظرية الاغراب عند بريخت الملحمي ، لا تتركه يغادر قاعة العرض
المسرحي ( قاعة المحاكمة) ،الا و فد حمل معه كل بوادر و القابلية للتفكير و
التغيير من اساليب سير الحياة ، تلك الفكرة التي تغير وجه المحيط بل العالم. لا نقول اني افكر ، بل اقول ،: اكون موضعا
للتفكير.
رفض المسرح التجريبي ان تظل فلسفته حبيسة دماغه ، بل جعلها تسري في كيان
و ادمغة الناس اجمعين.
هذا هو الاغتراب الايجابي الذي يتخذ فيه المغترب موقفا من الحياة و يقوم
بالتفكير اولا ثم التغيير ثانيا.
موقفه من شجرة الفاكهة ان يقلم الشجرة.
موقفه من النهر ان ينظم مجرى النهر..وموقفه من الاتصالات ان يبني خطوط السكك الحديدية و يبني العمارات و يشق
الطرقات و يبني البنى التحتية
وموقفه من الحياة ان ينظم الحياة و يتخذ موقفا باتجاهها.