جاري تحميل ... ألف ياء

إعلان الرئيسية

إعلان

عاجل

إعلان في أعلي التدوينة

جديد علَّم نفسك
فنونكريم القاسمنقدنقد شعر

وقفة نقدية في بيتٍ شعريٍّ واحد مِن رائعة الامام علي بن ابي طالب (كرَّم الله وجهه) القصيدة المسمّاة (المناجاة المنظومة)

 

كريم القاسم

وقفة نقدية في بيتٍ شعريٍّ واحد مِن رائعة الامام علي بن ابي طالب (كرَّم الله وجهه) }القصيدة المسمّاة (المناجاة المنظومة)



ـ الى العاشقين الذين ما انفكوا يعانقون اللغة بعنفوانها .

ـ الى أولئك الذين يُحسنون الغوص في بحارها ، والابحار في لججها .

ـ الى الذين لايعتريهم نَصْبٌ ولا كلالة عند التنزّه بين أروقة بلاغتها .

ـ الى الثلَّةِ التي تتقن فن المضغ في موائدها والإرتواء من زلالها  .

ـ الى كلِّ الجَمْع المحترم ؛ أقَـدِّمُ زاداً معرفياً رصيناً وبتواضع .

• فَهيّا بنا الى مدرسة الامام علي بن ابي طالب (كرَّم الله وجهه) :

{وقفة نقدية في بيتٍ شعريٍّ واحد مِن رائعة الامام علي بن ابي طالب (كرَّم الله وجهه) }

القصيدة المسمّاة (المناجاة المنظومة)

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

لَكَ الحمدُ يا ذا الجودِ والمَجدِ وَالعُلا...

تَبارَكتَ تُعطي مَن تَشاءُ وَتَمنَعُ

إِلَهي وَخلّاقي وَحِرزي وَمَوئِلي...

إِلَيكَ لَدى الإِعسارِ وَاليُسرِ أَفزَعُ

إِلَهي لَئِن جَلَّتُ وَجَمَّتْ خَطيئَتي...

فعفوكَ عن ذنبي أَجَلُّ وَأَوسَعُ

 إِلَهي لَئِن أَعطَيتَ نَفسي سُؤلَها...

فَها أَنا في أَرضِ النَدامَةِ أَرتَعُ

إِلَهي تَرى حالي وَفَقري وَفاقَتي...

وَأَنتَ مُناجاتي الخَفيَّة تَسمَعُ

إِلَهي فَلا تَقطَع رَجائي وَلا تُزِغ...

فُؤادي فَلي في سَيبِ جُودِكَ مَطمَعُ

إِلَهي لِئَن خَيَّبتَني أَو طَرَدتَني...

فَمَن ذا الَّذي أَرجو ومَن ليَّ يشفعُ

إِلَهي أَجِرني مِن عَذابِكَ إِنَّني...

أَسيرٌ ذَليلٌ خائِفٌ ، لَكَ أَخضَعُ

إِلَهي فَآنِسني بِتَلقينِ حُجَّتي...

إِذا كانَ لي في القبرِ مَثوىً ومضجَعُ

إِلَهي لَئِن عَذَّبتَني أَلفَ حِجَّةٍ ...

فَحَبلُ رَجائي مِنكَ لا يَتقَطَّعُ

إِلَهي أَذِقني طَعمَ عَفوكَ يومَ لا...

بَنون وَلا مالٌ هُنالكَ يَنفَعُ

إِلَهي إذا لَم تَرعَني كُنتُ ضائِعاً...

وَإِن كُنتَ تَرعاني فَلَستُ أَضَيَّعُ

إِلَهي إِذا لَم تَعفُ عَن غيرِ مُحسِنٍ...

فمن لَمسيءٍ بالهوى يَتَمَتَّعُ

إِلَهي لَئِن فَرَّطتُ في طَلبِ التُقى...

فَها أَنا إثرَ العَفوَ أَقفو وَاَتبعُ

إِلَهي لَئِن أَخطَأتُ جَهلاً فَطالَما...

رَجَوتُكَ حَتّى قيلَ ها هوَ يَجزَعُ

إِلَهي ذُنوبي جازَت الطَودَ وَاَعتَلَتْ...

وَصَفحُكَ عَن ذَنبي أَجَلُّ وَأَرفَعُ

إِلَهي يُنجِّي ذِكرُ طَوْلِكَ لَوعَتي...

وَذِكرُ الخَطايا العَينَ مِنّيَ تَدمَعُ

إلهي أقلني عثرتي وامحو حوبتي...

فإني مُقِرٌ خائفٌ مُتضرِّعُ

إِلَهي أَنِلني مِنكَ روحاً وَرَحمَةً...

فَلَستُ سِوى أَبوابِ فَضلِكَ أَقرَعُ

إِلَهي لِئَن أَقصَيتَني أَو طَرَدتَني...

فما حِيلَتي يا رَبِّ أَم كَيفَ أَصنَعُ

إِلَهي حَليفُ الحُبِّ بِاللَيلِ ساهِرٌ...

يُناجي وَيَدعو وَالمغَفَّلُ يَهجَعُ

إلهي وهذا الخلقُ مابينَ نائم...

وَمُنتَبهٍ في ليلهِ يتضرَّعُ

وُكُلَهُمُ يَرجو نَوالَكَ راجياً...

لِرَحمَتِكَ العُظمى وَفي الخُلدِ يَطمَعُ

إِلَهي يُمنّيني رَجائي سَلامَةً...

وَقُبحُ خَطيئاتي عَليَّ يُشَنِّعُ

إِلَهي فَإِن تَعفو فَعَفوُكَ مُنقِذي...

وَإِلا فَبالذَنبِ المُدَمِّرِ أُصرَعُ

إِلَهي بِحَقِّ الهاشِميِّ وآلهِ...

وَحُرمَةُ إِبراهيمَ خِلَّكَ أَضرَعُ

إِلَهي فَانشُرني عَلى دينِ أَحمَدٍ ...

تَقيّاً نَقيّاً قانِتاً لَكَ أَخضَعُ

وَلا تَحرِمَنّي يا إِلَهي وَسَيِّدي...

شَفاعَتهُ الكُبرى فَذاكَ المُشفَّعُ

وَصَلِّ عَلَيهِ ما دَعاكَ مُوَحِّدٌ...

وَناجاكَ أَخيارٌ بَبابِكَ رُكَّعُ

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 (اللهم صلِّ وسلِّم على محمد خاتم النبيين وعلى آله الطيبين الطاهرين وصحبه المنتجبين ومَن دعا بدعوته الى يوم الدين) 

السلام عليكم بنوافح المِسكِ وإبهاره ، وبكرم رمضان وأنواره ، وبربيع روضهِ وأطياره .

وأسكنكم الرحمن بمقام دارَ السعد حول عَتَباته ، وتنفسَتْ الخواطر بين شرفاته ، وضَحَكتْ جدرانه مِن فَرْط بهجاته ، فكانَ جَنَّةً للناضرين ، وقِبلةً للناظرين ، والحمد لله رب العالمين .

أما بعد /

• من المعلوم إن قصيدة (المناجاة المنظومة) المنسوبة الى الامام علي بن ابي طالب (كرَّم الله وجهه) تُعَدّ من افصح وأبلغ وأبدع قصائد المناجاة الإلهية ، فهي تحمل بين طياتها فصاحةً وبلاغةً ، وجمالَ تصوير وأدبَ حوار، وروعةَ بيان ، ومتانة سَبْك ، ودِقّة نَظْم قَلَّ مثيلها .

ـ وكيف لا ؟

وصاحبها هو ربيب رسول الله - صلى الله عليه وعلى آله الطاهرين وصحبه المنتجبين -  وربيب القرآن الكريم ، حتى باتت هذه القصيدة مصدراً ثريّاً لمقالات ودراسات نقدية عديدة لاحصر لها ، لما تحتويه من مضامين وأسرار بلاغية مدهشة ، وقوة ترابط بين الالفاظ ومعانيها .وقد تُرجِمَتْ الى لغات شتى ، وأنشدها سابقاً ولاحقاً الكثير مِن أهل الدراية والخبرة في الموشحات والابتهلالات ، ومنهم قاريء القرآن والمُنشد المصري الشهير (سيد النقشبندي) وغيره ، لِما وجدوه فيها من طَعمٍ بلاغيّ متميز وإسلوبٍ متفرد في المناجاة ، وجرس ٍ موسيقيٍّ عذبٍ يجذب الذائقة .

وبالرغم من توافر كمّ كبير من قصائد المناجاة الالهية في خزائن الادب العربي ، إلا إن (المناجاة المنظومة) مازالتْ تحجز باب الصدارة في شعر المناجاة.

ــ قد يتصور العموم من المتلقين بأنها قصيدة صيغت بعناية كباقي القصائد الرائعة ، إلا إن الفاحص المختص والغائص الماهر سيكشف ما لم يتعوَّده الشعراء في نظمهم ، وسيفصح بما لم يقدر عليه أهل الصنعة والخبرة في صنعتهم .

ــ للاسف لم يهتم نقّاد الادب بهذا اللون من الشعر ، بل أبحرَ الكثير منهم في الشعر (الصوفي)متوهمين بأن شعر (المناجاة) ينتمي الى ذات اللون . وهذا جهل كبير ، فالأختلاف واضح بينَ اللونين ، ولكلّ لونٍ عناصره وثوابته ، رغم اشتراكهما في بعض الاحداثيات الخطابية واللغوية.

إن شعراء الصوفية تتميز اشعارهم باللغةِ وبالخیالِ والرمزية - كون الخيال هو عتاد الصوفي للوصول الى عَتَبات المعرفة والكشف والتجلّي- لكن السياقات وطبيعة الخطاب يبقى هو السمة الناطقة بإسم كلّ لونٍ شعري .

ــ إن عنصر (المحاورة الانفرادية) هو أحد عناصر شعر المناجاة المهمة ، إضافة الى عنصري (الصورة والايقاع) لذلك سنولي عنصر (المحاورة) اهتماماً خاصاً بهذا القِطاف ، كونه يمثل ركناً أساسياً في بِنية النص الشعري في هكذا لون من الشعر .

• سأقتطفُ بيتاً شعرياً واحداً فقط والذي توَّجَ افتتاح هذه القصيدة الدرّة .

ـــ ولنبحر الآن بين طياته :

( لَـكَ الـحَـمـدُ يـاذا الـجـودِ والـمَجـدِ وَالـعُـلا  ...  تَـبـارَكـتَ تُـعـطـي مَـن تَـشـاءَ وَتَـمـنَـعُ  )

ــ إبتداءً ؛ القصيدة من (البحر الطويل) وهو بحرٌ شعريّ ضخم ومناسب للمناجاة ، كونه يضم ويستوعب معان كثيرة يحتاج الناظم الى عرضها واستعراضها في مناجاته .

ــ القصيدة عينية القافية ، وهي إشارة مُكمِّلة لعمق الدلالة المَقصدية ، فجرس العين (ع) مناسب جداً لحالة الألم والتحسّر والتألم والفزع والهلع والجزع والاعتراف بين يدي الخالق .

وترى بعض الدراسات إن نطق العين (ع) ينسجم في التعبير عن تلك الحالات الشعورية ، لأن مَخرَجها من داخل الحَلق ، وهو المَخرَج الأنسب لتجسيد تلك المعاني ، حيث يشعر المتكلم  ويحس بألمها وتَمَثُّلها في حَلْقِهِ .

ــ مِن المعلوم إن المناجاة تتضمن حواراً بين طرفين (مُناجِي ومُناجَى) اي بين (المخلوق والخالق) بين (العبد والذات الالهية) وهذا يعطي دلالة إشارية الى وجوب التذلل والخنوع والاعتراف بالعبودية ، لا مِن حيث المعنى وتركيب العبارات وإختيار الالفاظ والحروف فقط ، وإنما ينسحب ذلك حتى على (الضمائر) المستعملة في الخطاب الحواري.

والضمائر هي إشاريات تحمل دلالات عميقة تؤدي غرضها بقوة من خلال سياق الخطاب والحوار . وهي اسماء مبهمة لاتستقيم الفائدة معها الا اذا وُجِدَ مُفَسَّر تَعود عليه ، حتى يزول الغموض وتتضح الرمزية .

• إن ضمير (المُخاطِب) هو عنصر اشاري دلالي شخصي  ذاتي يُشار به الى ذات المتكلم العبد (المُناجِي) وبحضور هذا الضمير يتكامل الفعل الحواري  بين الطرفين .

ـ الخطاب أو الحوار لابد له مِن مُتلَقٍ يُشار اليه ، لكن في المناجاة تختلف (ذات المتلقي) عن غيرها ، فهي ذات (إلهية) وليست بشرية .

لذلك يجب على الشاعر ان يُحسِن التصرف في توظيف ضمير (المتكلم) كي تكون الاشارية والدلالة خاشعة خاضعة بما يناسب الفكرة والمعنى والتصوير والاسلوب والشعور، وعلى الضمير ـ ظاهراً كان أم مُستتراً ـ إن يحتل مرتبة المخلوق الخانع الخاضع المتذلل المعترف بعبوديته وتقصيره ضمن حوار مؤدب رصين  .

ــ إن المعارف في اللغة كثيرة ،  والضمائر أحدها ، إلا إن (لفظ الجلالة) يعتبر من أعرفها ، لانه لايحتمل الا الله عزَّ وجل ، وكذلك الحال مع ضمير الجلالة.

ــ  المتأمل للبيت الشعري أعلاه سيجده خال من ضمير المتكلم (المُناجِي) تماماً ، ولايفترش الحوار إلا ضمائرا تشير الى الذات الالهية  فقط ، وهي :

1- ضميران ظاهران متصلان في موضعين مختلفين يحملان دلالة ضمير الجلالة المخاطَب (المُناجَى) .

ــ  أحدهما في الشطر الاول ( لَـكَ الـحَـمـدُ يـاذا الـجـودِ والـمَجـدِ وَالـعُـلا ) وهو الكاف (ك) في (لكَ) جاء متصلا بحرف الجر (اللام)

ــ والآخر في الشطر الثاني ( تَبـارَكـتَ تُـعـطـي مَـن تَـشـاءَ وَتَـمـنَـعُ  ) وهو تاء الفاعل (ت) في (تباركتَ) جاء متصلا بالفعل الماضي (تباركَ)

ــ والضميران ( ك ، ت) إشاريان للذات الالهية .

2- ثلاثة ضمائر مسستترة تقديرها (أنتَ) تشير ـ كذلك ـ الى الذات الالهية في عبارة (تعطي مَن تشاء وتمنعُ) .

• والآن لنتأمل :

ماذا يعني ان يتضمن افتتاح القصيدة ضمير الجلالة فقط دون ضمير المتكلم ؟

• الجواب /

ــ إن تَقدُّم ضمير الجلالة في حوار المناجاة ، وخلو الافتتاح من ضمير الشأن للمتكلم العبد أو أي ضمير يُمثل إشارية للـ (مُناجِي) يدل على حُسْنِ نَظْمٍ  ، وحُسْنِ أدبِ في الحوار .

والوقوف بين يدي الذات الالهية لابد أن يكون وقوفاً ذكياً مُحَمَّلاً بأدب النفس وأدب الحوار والتعبير والخطاب  والدعاء لضمان الإستجابة .

  لقد تبَيَّنَ حُسن الحوار وحُسن المناجاة مِن أول نظم القصيدة ، حيث بدأ الإمام (علي) مناجاته بـ (لكَ الحمد) وهذه العبارة تحمل دلالة بلاغية كبيرة ، فالحوار تَـقّدَمهُ ضمير الجلالة وهو الكاف المتصلة في  (لكَ) ليكشف دلالة إلتصاق وحصر (الحمد) بالذات الإلهية فقط  .

ـ وإن استعمال اللام في (لكَ) يحمل دلالة الاختصاص والمُلك .

وجاء هذا الاختيار في غاية الدقة والذكاء ، حيث أراد الامام الاعتراف بأن الحمد مُطلَق ، مُلكٌ لله وحده ، ومختص به فقط ، أي يختص بذات الجلالة دون غيرها .

ــ نلاحظ بأن الحوار لم يأتِ بـ (إلى) لتصبح العبارة (إليكَ الحمد) بدلاً من اللام في (لكَ الحمد) ـ آخذين بنظر الاعتبار بما يستوجب تغيره من وزن في البيت الشعري ـ لأن دلالة قوة الترابط والتلاصق والحصر بين حرفي (لكَ) اكبر من دلالة قوة الترابط والتلاصق بين اربعة حروف (إليكَ)

ـ وإن عدم تجاوز الحوار عن حرفين يعطي إشارة قوة ارتباط كبيرة ، وإشارة تملّك للشأنية الالهية .

ــ وحتى في حالة النطق فحرف المَد الياء (ي) في (إليكَ) يستغرق نطقه فترة زمنية أطول ، مما يُوَلِّد حواراً مُتَسِع الزمن ، وبعيداً عن المُباشَرة .

بينما في حالة نُطق (لكَ) فالتلاصق والقرب والمُباشَرة متوفرة وواضحة ، اي (لكَ الحمد) وحدكَ بلا منازع ، وهي الصفة الملاصقة لذاتك الالهية دون غيرك يا الله .

وهذا اعتراف بلاغي عالٍ شريف سنأتي على بيانه لاحقاً.

ــ  كذلك لم يستعمل الإمام ضمير الجلالة الـ (هاء) ليقول (له الحمد) بدلاً من (لكَ الحمد) لان (الهاء) ضمير المخاطَب الغائب ، فمن غير اللائق للمخلوق أن يحاور الذات الالهية بإشارة (غياب) .

لذلك نجد الإمام قد جعل الحوار والمناجاة يحملان دلالة المباشرة ،فلا فائدة بلاغية من حضور ضمير الغائب هنا.

ــ  ثم  ان ضمير (الغائب) يحمل دلالة إشارية للزمن الماضي ، ووجوده يجعل المتلقي يشعر كأنه أمام مُتكلِمٍ يتحدث عن ذاتٍ ما في زمنٍ مضى ، لا مُتكَلِمٍ يُحاور ذاتاً إلهية قريبة جداً ، وحاضرة عند ابتداء نيّة المناجاة .

وهذا السلوك الوجداني منبعه حسن الظن بالله تعالى .

ــ ولو استعمل الامام ضمير الغياب ويقول (له الحمد) لجعله كالوسيط بين وجهتين ، وكأنه يخاطب المُتلقي قارئاً كان أم سامعاً عن صفات الله تعالى .وفي هذه الحالة ستفقد المناجاة عنصر المباشرة  والانغماس الروحي لله وحده .

ــ لذلك أراد الامام في مناجاته (لكَ الحمد)  الإشارة الى حَصْرِ الخطاب بين ذاتين (المخلوق والخالق) ليتحقق (القرب) و(الدنو) و(المباشرة) و(الملاصقة) و (الحصر) و(الاعتراف) فالله (اقرب من حبل الوريد) وهذا خطاب في منتهى الذكاء .

ـ ولذلك تأتي الابيات الشعرية التالية في القصيدة تحمل ابتداءً تصريحاً يبدأ بـ (النداء) حيث يقول (إلهي) في معظم ابتدائها ، ليزيل الابهام والرمز عن ضمير الجلالة فيما جاء بالافتتاح .

• لغرض بيان وتوضيح التباين والفرق بين قوة نَظْم الامام علي (كرّم الله وجهه) وبين غيره ، نستعرض بعض المناسب من الشعر الجميل الرائع في ذات اللون الشعري .

ــ لنتأمل ماكتبه الشافعي (رحمه الله تعالى) في مناجاته الجميلة الشهيرة ، وهو المفوَّه في شعر المناجاة والشعر الوجداني الزاخِر المنيف :

(إليكَ إلهَ الخلقِ أرفعُ رغبتي ...

وإنْ كنتُ يا ذا المنِّ والجودِ مُجرما)

ـ نلاحظ الفرق في الحوار الافتتاحي بين القصيدتين ، وكيف ابتدأ (الشافعي) مناجاته بـ (اليكَ) مما ولَّدَ اربعة حروف ، وهنا سجَّل تبايناً وفرقاً ملحوظأً في الدلالة الترابطية بينها وبين (لكَ) كما أوضحنا سابقاً .

ـ ثم إن (إلى) في (اليكَ) تختلف في دلالتها عن (اللام ) في (لكَ) .

* جاء في (الصحاح) :

(إلى) : حرف خافِض، وهو منتهى لابتداء الغاية.

تقول: خرجتُ من الكوفة إلى مكة ، وجائز أن تكون دخلتها ، وجائز أن تكون بلغتها ولم تدخلها ؛ لأن النهاية تشتمل أول الحَدّ وآخره، وإنما تمتنع مجاوزته.

 أما (اللام) فهي حرف يفيد الاختصاص والمُلك ، اي الحيازة المطلقة  دون حَدٍّ مكاني أو زماني .

ــ وفائدة اخرى ؛ هي :

إن البيت الشعري في قصيدة (الشافعي) رحمه الله ، قد تضَمَّنَ الاسم الصريح للذات الالهية (إله) وضمير الجلالة الكاف المتصلة في (اليكَ) كما في الشطر الاول (إليكَ إلهَ الخلقِ أرفعُ رغبتي ) حيث تَجَاوَرا مع ضمير (المتكلم) المستتر (أنا) في عبارة (أرفعُ رغبتي) ومع ضمير المتكلم (التاء) المتصلة في (كنتُ) كما في الشطر الثاني (وإنْ كنتُ يا ذا المنِّ والجودِ مُجرما) .

ـ وإن (تجاوِر) الضميران المتكلم (المُناجِي) مع الذات الالهية (المُناجَى) في هكذا حوار وفي هكذا مناجاة سيُضعِف بلاغة النظم بلا شك ، كون الضميران سيتواجدان ضمن فضاء استهلال ابتدائي واحد .

ـ بينما نجد افتتاح مناجاة الامام علي (كرَّم الله وجهه) لايتضمن اي ضمير يشير الى المتكلم (المُناجِي) بل جاء التضمين حافلاً بضمير الجلالة البارز والاشارة الى صفاته فقط ، التي لايجاورها ضمير يشير الى المخلوق .

ـ وكما في الشطر الثاني جاء الإمام بالضمير المسستتر (انتَ) في عبارة (تُعطي مَن تَشاءَ وَتَمنَعُ) الذي يشير الى الذات الالهية كذلك ، ويحمل دلالة إحاطة الذات الالهية بالعَطاء والمَنع ، وهذا يشير الى دقة النظم ودقة الاشارة بمايستحق الموقف والحال.

ـ فمن الابداع الاعتراف بالتذلل والعبودية من خلال تقديم الذات الالهية ودلالاتها على اي ذات أخرى ، كي يدل افتتاح المناجاة على خلوص النية لله وحده . وهذا من أسرار اللغة وبديع النظم .

ـ كما نلاحظ فرقاً وتبايناً بين الحوارين والتقديمين في القصيدتين ، حيث ان الامام علي (كرَّم الله وجهه) لم يُرِد التصريح المباشر بإسم الذات الالهية ، ولم يرِد سَرْد المشاعر والإقرار بالتقصير والذنب ابتداءً ، حيث كان العرب إذا أرادوا الافصاح عن أمرٍ هام وإحضار معانٍ بليغة تحمل دلالة الشعور ومايجول بالنفس ؛ لم يُصرّحوا بها مباشرة أو يجعلونها في أول عَتبة التقديم والابتداء في نظم قصائدهم ، وإنما كانوا يُسبِقون الأمر بضمير مُتقدم يحمل دلالة تلك الأهمية رغم إن الضمير يشير الى الرمز، لأن هذا الاسلوب يعمل فعله في ايقاظ عناصر الانتباه والشوق والتطلع الى ما يُزيل ذلك الابهام لمعرفة الرمز المَعني . وهكذا تأتي الجُمل بعده وهي تحصد عواطف الجذب والانتباه والتركيز .

وهذا التقديم للضمير لايُنظَم تكلّفاً او حَشواً ، وإنما يُنْظَم وفق دلالة بليغة ، واشارة مُوَجَّهة فَطِنة تتضمن معنى العبارات التي تليهِ تمامًا.

ـ ونكتفي بهذا القدر من المقارنات والتباينات النبيلة وبما يناسب قَصدِية الفائدة ، كون البيتان يحملان الكثير من الدراسة المقارنة .

 نعود مرة أخرى الى روعة وجمال وبلاغة الافتتاح السامي في البيت الشعري في قصيدة (المناجاة المنظومة) حيث محطة الاعتراف القصوى ، عندما اعترف الامام بأن الله هو صاحب الحمد فقط :

• والان يتبادر سؤالان الى ذهن المتلقي :

ــ لماذا لم يَقـُل الإمام علي  (لكَ الشكر) بدلاً مِن (لكَ الحمد) ؟

  الجواب /

ـ  إن (الحمد) أعّم من (الشكر) ، والشكر لايُقدَّم إلا على عطاءِ نعمةٍ مِن المُقابل .

أما (الحمد) فهو يُقَّدَم على كل حال (عطاء أو عَدَم) اي ان الله يُحمَد على كل حال ، فهو يستحق الحمد بذاته .

وهذا من أذكى الاختيارات ، لايرصفها إلا من عَرَفَ سِرّ اللغة وبلاغتها ، وعَرفَ سِرّ التدبير الإلهي والقرآني .

• والان نتسائل :

ماسبب تقديم (الحَمد) على (الجود والمجد والعُلا) كما جاء في الشطر الاول (لَـكَ الـحَـمـدُ يـاذا الـجـودِ والـمَجـدِ وَالـعُـلا ) ؟

• الجواب /

ـ إن (الحمد) هو من أبلغ وأعظم وأسمى المعاني والصفات التي تستحق شرحاً يملأ كتباً .

ولذلك افتتح الله تعالى قرآنه بـ (الحمد لله رب العالمين )

ـ وهذا ما دأبَ عليه معظم أهل المناجاة والمتصوفة العارفين بأدب الحوار مع الذات الالهية .

  بعد الاعتراف والتصريح بـ (الحمد) تتحول المناجاة الى النداء بـ (يا) في (ياذا الجود والمجد والعُلا) حيث جاء النداء يحمل دلالة التعظيم ، كونه يشير الى صفات الله العظيمة ، ثم يأتي بـ (ذا) وهو اسم اشارة يستعمل للقريب ، فيقول الامام (ياذا) ويشار به الى كل مايراه المتكلم من صفات الذات الالهية  ، للدلالة على ان الله قريب جدا من عبده .

ـ وهذا نظم باهر ثريّ ، حيث إن الإمام يُناجي ربّه بالحمد اولاً ، وهي دلالة اشارية الى الذات الالهية بإنه يُحمَد على كل شيء الثناء على الله تعالى بجميل صفاته (الجود والمنع والعطاء) اي لهُ الحمد عن يدٍ وعن غير يد .

• ثم يأتي ذكاء النظم وكأنه حبات لؤلؤ قد نُظِمَتْ بعناية ومهارة ودقة ، فتأتي المناجاة بأجملِ إسترسالٍ وأبلغه عندما ينادي ويشير الإمام بعد (الحَمد) مباشرة الى صفات الله المُشتقة من اسمائه الحسنى (يا ذا الجود والمَجد والعُلا)

1- إن صِفة (الجود) هي مصدر الفعل (جادَ)  أي ان الجود لك وحدك ، فأنت صاحب السخاء والكرم المطلق اللامتناهي واللامحدود.

و(الجود) عند الاخلاقيين كما جاء في (الوسيط) هو صفة تحمل صاحبها على بذل ما ينبغي من الخير لغير عوض.

2- ثم صفة (المجد) :

* حيث جاء في (لسان العرب) :

المَجْدُ هو المُرُوءةُ والسخاءُ ، والمَجْد هو الكرمُ .

ـ وقال( أَبو زيد) في لسان العرب :

أمجدَ الإبلَ ، أي مَلأَ بطونها علفاً وأَشبعها ، ولا فِعل لها هي في ذلك ، فإِن أَرعاها في أَرض مُكلِـئـَةٍ فَرعَتْ وشَبِعَتْ . قال مَجَدَتْ تَمْجُدُ مَجْداً ومُجوداً ولا فعل لك في هذا .

ـ وهذه الصفة تلازم الرب سبحانه وتعالى ، فهو المفضال الكريم ، ونحنُ نتمجّد بأفعالهِ وعظمتهِ وفضلهِ وكرمهِ .

3- ثم تأتي صفة  (العُلا) أي الرفعة والشرف ، فهو يعلو بذاته وصفاته عن كل صفات واسماء خلقه .

*  وجاء في (لسان العرب) :

هو أَعظم وأَجلُّ وأَعْلى مما يُثنى عليه .

 وقال الأزهري : وذو (العُلا) صاحب الصفات العُلا ، والعُلا جمع العُلْيا ، أَي جمع الصفة العُليا والكلمة العلْيا ، ويكون العُلى جمع الاسم الأَعْلى ، وصفةُ الله العُلْيا شهادةُ أَنْ لا إله إلا الله ، فهذه أَعلى الصفات ، ولا يوصف بها غير الله وحده لا شريك له ، ولم يزل الله عَلِيّاً عالياً متعاليا .

ــ ولذلك نجد هذه الصفات الثلاثة (المجد ، الجود ، العُلا) التي ناجى بها عليٌّ رِبَّهُ تعالى قد تَضمَّنتْ ذات المعاني المتقاربة ، كي لايشط  ويبتعد الحوار عن جوهر المعنى الكلي للحمد . 

ـ إذا نحن أمامَ بيانٍ و بلاغةٍ وفصاحةٍ لايرتقيها إلا مَن كان ربيب القرآن.

• ملحوظة /

ــــــــــــــــــــــــــ

الكثير مِن النقّاد ـ للاسف ـ قد أبحرَ فيما لايوافق العقل ، وغاصَ فيما لايوافق مادأبَ عليه النحاة واللغويون ، حيث فسَّروا دلالة وجود حرف العطف الواو (و) بين (الجود والمجد والعلا) بتفاسير ودلالات مختلفة ، فالبعض أدخلها في دلالة السببية والعِلّية ، أي ان كل اسم او صفة متأخرة هي عِلّة لما قبلها ، اي لاتتصف الذات بـ (المجد) إلا اذا إتَّّصفَتْ بـ (الجود) ، ولن تتمكن من (العلا) الا بوجود (المجد) وهذه دلالات منافية لكينونة الذات الالهية ، فهل إن الرب إذا مَنَعَ ولم يَجُد بالعطاء لن يكون مجيداً ؟

ـ هنا تُدحَض كل تلك الدلالات والحجج برمّتها ، وتلك الدلالات والاستنتاجات تليق بالمخلوق لابالخالق ، فالرب جواد ماجد مُتعال أعطى أم مَنَع ، له الاسماء والصفات الحسنى المطلقة ، لايحدّها زمان ولا مكان ، ولاتتأثر بتأثير مؤثِر خارجي مخلوق ، فهو ليس كمثله شيء ، تبارك الله رب العالمين.

ـ ولتوضيح ماجاء في الاشتباه اعلاه نُبيّن ان الواو (و) أذا أتَت بين الصفات ، كما في (الجود والمجد والعلا) فهي تفيد كمال إتصاف الموصوف بكل صفة منها على حِدَة .

وكذلك تفيد بأن الموصوف بالصفة المُشار اليها قد بلغَ الكمال فيها .

وكذلك تفيد التوكيد على ثبوتية  تلك الصفات .

ـ وهذا ما أكَّـدَه النحاة العرب والمفسرون وأرباب اللغة ، وخاصة بعد الخوض اللامسؤول مِن قبل مَن لايفقه  في استقصاء دلالات العطف بالواو .

• وهكذا تم نظم الشطر الاول من الافتتاح بهذه الفصاحة بالحمد المحصور بالذات الالهية ، ثم الاعتراف بأن الجود والكرم والمجد والخير والعلا والشرف الخالد صفات مطلقة التأثير لايوصف ولايتصف بها غيرالله تعالى .

• ثم يأتي الشطر الثاني من البيت الشعري بخطابٍ جديد :

ــ  يخاطب الامام ربَّه بتوسّع ذاتي في إخراج جوهر المعنى المقصود فيقول :

(تباركتَ) اي تقدّستَ وتعاليتَ وتَنَزَّهتَ وتعاظَمتَ وكثُرتْ خيراتُكَ وعمَّتْ بركاتُك. وهذا استعمال ذكي جداً ، فالفعل (تباركَ) هو الفعل المناسب جداً بعد المناجاة بتلك الصفات (الجود والمجد والعلا).

ــ واللفظ (تباركَ) ينتهي بضمير الجلالة المخاطَب المتصل (التاء) فصار (تباركتَ) وهذا الخطاب صادر عن متكلم (مُناجِي) الى متلقٍ (مُناجَى) وهي الذات الإلهية ، لغرض إيصال القصد والنيّة .

ـ ووجود الضميرالمتصل التاء (ت) بهذا القرب والإلتصاق من الفعل (باركَ) يُشير الى علاقة تواصلية قريبة جداً بين الطرفين ، غايتها التأثير والابلاغ والانجاز .

• والآن نُلفِتْ إنتباه المتلقي الفاضل الى فائدة ذكية أخرى :

ـ جاء الإمام بالفعل المضارع (تعطي) بعد المباركة والتنزيه ، والعطاء الالهي هو الغاية القصوى ، فهو عطاء غير مَجذوذ وغير مقطوع عن الخلائق .

ـ وكما جاء في القرآن الكريم على لسان موسى ـ عليه السلام ـ وهو يصف عطاء الربوبية :

(رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى) طه ـ آية 50

ـ فالعطاء إن كان خاصاً او عاماً فهو شامل مطلق لايحدّه حَد ، لأن العطاء يُعِين على الاستطاعة والفعل والقدرة للمخلوق ، وهذا مِن أبلغ المعاني المنتقاة .

• نلاحظ دقة اختيار الالفاظ في مناجات الإمام في عبارة ( تعطي مَن تشاء وتمنعُ) عندما جاء باللفظ (تشاء) ولم يقل (تُريدُ)

ـ لان (المشيئة) تستوجب وتقتضي الوجود ، بينما في (الارادة) لايستوجب ذلك .

ـ أي ان المشيئة أن يقول للشيء كن فيكون ، وفي الاشاءة لاخيار للمخلوق .

ـ أما في الإرادة ؛ فقد يريد الله بالأنسان شيئاً (كالعبادة) مثلاً لكن بعض البشر قد لايُطيع .

ـــ إذاً العطاء والمنع الالهي يدخل في باب (المشيئة) وهو موجود اصلاً  ، فهو يعطي من يشاء ويمنع .

ـــ وهذا لعمري لايعرفه الا مَن عرَفَ اسرار اللفظ واللغة والقرآن .

• في عجز البيت الشعري توفَّرَ (طِباقاً) رائعاً . حيث تواردَ تأويلان (ظاهر وباطن) للفعلين (يعطي ، يمنع) وسنأتي على بيان ذلك :

ـ الطِباق اسلوب بلاغيّ يحدّه وجود لفظين يختلفان نطقاً ويتضادان معنىً ، كما في (الصبح والمساء) او (القصير والطويل) أو (يضحك ، يبكي) . وهو من فنون البديع الذي يقع تحت رتبة (المحسنات البديعية المعنوية)

ـ لنتأمل رصف الالفاظ في عبارة (تعطي مَن تشاء وتمنعُ) سنجد فعلين مضارعين متضادين في المعنى (تعطي ، تمنع) ودلالة المعنى (الظاهر) هو إن الله يعطي ويمنع العطاء عَمَّن يشاء ، وهما يحملان ذات الوقت دلالة تناص قرآني بليغ ـ لسنا بصدده إجتناباً للتطويل ـ ثم ان استعمال الزمن (المضارع) للفعلين له دلالة اخرى تخص الذات الالهية ، حيث إن زمن المضارع ينقل الحدث الماضي ليحوله الى الزمن الحاضر بتفاعلية متجددة ، فهو يترك الدلالة ضمن فضائين زمنيين (الحاضر والمستقبل)

ـ وهنا يُثبِتُ الامام صفة الدوام والخلود للذات الالهية في زمن عطائه ومَنعه ، فإن شاء يعطى في اي زمن  وإن شاء يمنع في اي زمن  . فالفعل دلَّ على  حَدَثٍ قد وقع في زمن يقبل الحال والاستقبال .

ــ وهناك تأويل آخر لمعنى (تَمنَعُ) وهو المعنى الباطن للقصد ، فمادام سياق البيت الشعري هو الحمد على النِعَم والفضل والعطاء وكل صفات الخير التي لاتحصى ، فـ (المنع) هنا لا يأتي بمعنى منع العطاء للمخلوق والإمساك في العطاء ، فالله تعالى غني واهب مُعطي لاتنقص خزانه .

وإنما يأتي المنع بدلالة (يمنع) الله الاذى عن عبادة ويحفظهم من الشرور والآفات . وحتى إن مَنعَ وأمسك في عطاءه عن البعض فلأسباب يُقدّرها هو ويعرفها من باب الغيب . فقد يكون المنع نعمة للمخلوق لاكما يعتقد  .

ــ إن هذا (الطِباق) أعطى قيمة معنوية للعبارة والنظم حيث جمع بين متضادين وفرَّق بينهما في ذات الوقت ، وربط بين المعاني ، مما وَلِّدُ حضورا قوياً للقصد مع توضيح المقصود ، وهذا منبعه حُسن النظم والتدبير والتمكن منهما .

  مما تقدَّمَ ؛ يتبين لنا إن الحوار مع الذات الالهية ـ شعراً كان أم نثراً ـ لابد أن يتجاوز الحوار المعتاد بين الخلائق والعباد . فالحضور والحوار والمناجاة يحتاج خبرة ودراية وحنكة ومعرفة بأسرار اللغة ، وحُسن نظم الالفاظ وحُسن سبك معانيها ، ومعرفة منافذ وابواب الدخول المشروع الذكي الى الحضرة الالهية ، والتأدب في الخطاب ، مع اختيار مايناسب الحال والمقام والمقال . فكما إن اللفظ  والحرف القرآني يحمل (القصد) ولايحمل الافتراض ، كذلك يجب ان تحمل معاني الالفاظ في المناجاة (القصد) و (الغرَض) ، بعيداً عن الحشوِّ والتكلّف وعدم الانضباط. 

ـ ولذلك كان العارفون والمتصوّفة يُجهدون انفسم في نظم الشعر بما يوافق الحال مِن تَضرّع وتأدّب وتذلل وخضوع وخنوع وإعتراف بالذنب ، والاجتهاد في الدعاء والطلب وحُسن الظن بخالقهم .

• فكيف إذا كان الناظم هو علي بن ابي طالب (كرَّم الله وجهه) الذي تَـنَـشَّـقَ عَبقَ النبوة وهو صبيا ، حتى حيزتْ له من الصفات أكرمها ، ومن الشواهد أثبتها ، ومن المآثر أحمدها ، ومن المزايا أنقاها ؟

• وكيف لا ؟

ـ  وهو امير الفصاحة والبيان ، تنقادُ اليه المعاني دون تكلّف ، وتنساب البلاغة على لسانه دون تقشّف ، فيُذلِّل صَعبُها ، ويُطوّع عسيرَها ، ويُلبسها اثواباً مِن نسجٍ باهرٍ عجيب ، ويُطرّزها بنظمٍ مُدهشٍ غريب. فكلامه كالدررِ المنظومة ، وكاللآلي المُرتَبة المَضمومة ، لايعتريه الخَلل ، ولا يُداغشه الزَلل .

فهو بعد كلام رسول الله شرفاً ومنزلةً ، ومعينه كتاب الله وأسراره المُنزلة ، حتى توارث آل البيت تلك المزايا الثريّة بكل آثارها ، وتلك الإمارات البديعة التي كرَّمهم الله بها واختصهم باسرارها . فلقد اعطاهم الله سِتّاً وفضَّلَهم بَسَبع ؛ فاعطاهم  (العلم والحلم والسماحة والفصاحة والشجاعة والمَحَبَّة في قلوب المؤمنين)

• سأكتفي بما تيسّرمن وقفاتٍ نقدية في ربوع هذا البيت الشعري المُبارك ، رغم إنه يتسع الى وقفات نقدية أخرى قد لاتُشبِع مقالا نقدياً متوسط السرد، وإنما يفتح آفاقاً وآفاقا ، فمازال الأثر بليغ الاشارة ، ومازال النص يضجّ بأسراره ، فالعجائب لم تفصح عن حالها بعد .

ـ وهذا ماتَجلَّى في بيت شعري واحد ، فكيف الحال بالقصيدة كلها ؟

• ولقد كان المُراد أنْ أبحر في لُجَجِها ، لكشف عجائبها ، وإزاحة السُتر عن بديع روائعها ، فوجدتُ الحال لايحتمل المقال ، والأمر ذو بؤرٍ وأشواط وأطوال ، والسفر بعيد الغور ، والكُنْهُ لايرقى اليه الطير ، وليس ذلك مِن بابِ عِجَزِ في رُقْيٍّ وارتحال ، أو فقرٍ معلومة واعتلال ، ففضلُ مَن علَّموني سابغ ، وغرسهم نابغ  ، إنما الكشف لايحتمله زمن كالمُعتاد ، أو غوص مِن غيرِ عِتاد ، بل دأباً وكدّاً ومشقَّة وإجتهادا ، وفسحة الزمن غير مواتيةٍ ، مع انشغال القلم بغير ساقية ،  لذا أكتفيتُ بقطراتِ ندى علَّها تُرطّبُ شفاه الصائمين ، وبعطرٍ علَّه يُنعشُ قلوبَ الوالهين ، والحمد لله على نعمائه الى يوم الدين .

ـ والى بيانات قادمة بعون الله تعالى .

(كريم القاسم)


***********************


***********************

إعلان في أسفل التدوينة

اتصل بنا

نموذج الاتصال

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *