جاري تحميل ... ألف ياء

إعلان الرئيسية

إعلان

عاجل

إعلان في أعلي التدوينة

جديد علَّم نفسك

كريم القاسم

 شعر القصور

 (شعر القصور)

ــــــــــــــــــــــ


ــ

يتجمعون زُرافات ووحدانا على عتبات القصور مُحدّقين بالحاجب وبماينطق.

 

صاحب القصر يسأل حاجبه :

- مَن لدينا من الشعراء عند الباب؟

فيجيبه الحاجب :

- فلان وفلان وفلان و....و.....

ثم يختار صاحب القصر مايشتهي من الشعراء بما يناسب مزاجه ذلك اليوم أو تلك الليلة، وبما يخدمه اعلامياً.

وما أن يدخل شاعرنا المسكين حتى يبدأ بالركوع وتقبيل الأيادي إن لم يقبّل البساط بين القدمين، ثم يبدأ بكَيل المديح ممزوجاً بالتملق والنفاق.

 

كان السباق على هذه الوقفة هو غاية الشاعر القصوى وهدفه المنشود.

وكان الشعراء يبحثون عن القصر الذي لايبخل بالعطاء مهما كان عنوانه ومنزلته وتاريخه وطعم عفونته، ظالماً كان أو عادلاً، فالقصيدة الطنّانة الرنّانة في الانتظار.

 

إن مشاركة موائد القصور والتنزّه بين الجواري والغلمان ، وحَلْب صُرَر الدراهم وأكياس الذهب كان حلماً يجتهد الشاعر لأجله، ويُجهِد نفسه لتحقيقه.

وما مِن شاعرٍ لامع إلا وقد خرج من تحت عباءة سلطان أو بوابة قصر أو رعاية صولجان ، لان هذا الحال هو الذي كان سائداً آنذاك، بل ومازال البعض يَردَح ويَصدَح على ذات المنوال ولذات الاهداف ، وإنْ إختَلفَت القصور والعطايا والامصار.

فأجمل اللحظات تلك التي كان يحلم بها الشاعر حين تُرمى في حجرهِ صرّة دراهم أو كيس دنانير ذهبية، أو تُهدى إليه جارية، أو يُناط اليه منصب، أو تُخلَع عليه جُبَّة أو لقباً يطير به عاليا.

القصائد والشعراء هُم هُم كعادتهم مع كل زمان ومكان.

ويستطيع الباحث الذكي ان يتقصّى هذه الحقائق بيُسرٍ وسهولة.

 

مطابخ القصور كانت تُجَهَّز بالسمن والعسل والزيت والطحين واللحوم، وبكل مايستلزم لانعاش المائدة السلطانية بما لذَّ وطاب ، ولكن لازينة لموائد القصور إلا بحلاوة الشعر ، فهو إدامها الروحي والمعنوي والاعلامي.

وكان الشعراء هم الوسيلة الاعلامية والدعائية في ذلك الوقت، فما مِن بيتٍ شعريٍّ يُطلَق في قصر إلا وتحمله الألسن الى الأرجاء ، ويصبح خبراً كأخبار الفضائيات حالياً، أو كلافتةٍ اعلامية كبيرة يلوّح بها المهرجان.

وكما كان إختيار نوع طبق الطعام تُحدده شهية السلطان، كذلك كانت تلك الشهية هي التي تُحدد نوع الشاعر المحظوظ الذي ستُفتح له بوابات القصر من بين جمعٍ غفير ممَّن يتسابقون الى تلك الحَظوة.

ومعظم هؤلاء الشعراء وعلى مدى التاريخ يكتبون بإتجاهين ، مرّة بإتجاه القصر ، ومرة بإتجاه الذات.

فتلك القصيدة يُرضي بها القصر حقاً كان أم باطلا ، وهذه يُرضي بها ذاته مُنتشياً ومفتخراً ومنازعاً وعاشقاً حين يبوح بمكنونات نفسه.

فما يستجديه من لقمة عيش وصرّة دنانير ينفقها في الإتجاه الثاني، لينفّس عن ذاته ويترجم مكنوناته، وليأتي لنا بقصائد فارهات تصرخ حكمة وبلاغة وصبابة وجمالا.

 

ولكي نَطّلع من خلال ثقب التاريخ على ما تقدَّم ، فلنرحل مع رَكْب ابن الرومي والبحتري وبشار والمتنبي وحتى شوقي وغيرهم الكثير ممن سبقهم وممن جاء بعدهم ، لنجد الكثير من مواطن استجداء البلاط ، ومواطن البوح الذاتي في ذات الوقت.

 

فالتعظيم والتبجيل الذي كان يُنصَب لهم، والحفاوة وعبارات الاطراء التي سجّلها التاريخ بحقهم كانت مدفوعة الثمن .

الذل والانكسار والتعب والمهانة والاذعان وتقبيل الأيادي والأقدام هو الثمن النفسي والاجتماعي الباهض الذي يقدّمه الشاعر مجبوراً وطواعية بين يدي ذاك الخليفة او الوالي او الامير .

 

فلقد كانت تتزاحم مناكبهم وتحتك أكتافهم أياماً أو أسابيعاً أو شهورا، والبعض يصل الحال به الى العام واكثر ، من أجل ان ينفرج القبول على من هو سعيد الحظ الذي سيُقدّم صك الخنوع والطاعة والنفاق امام العرش الواهي ، ومَن هو سعيد الحظ الذي سيشاركهم معاقرة الخمرة، أو التغزّل بالجواري الحسان.

وسعيد الحظ من كان يسمع أمراً سلطانياً :

(اعطوه عشرة آلاف دينار)

وسعيد الحظ مَن يُملأ فَمهُ أو رِكابه ذَهبا.

وسعيد الحظ من تُرمى اليه صرّة، رنينها يسبق الى أذنيه قبل البصر.

أما مَن رَكَبه النحس فعليه أن يظل قابعاً عند بوابة الذلّ الى أن يشاء صاحب القصر.

نعم ؛ هذا هو سعر النفاق والكذب والتملق.

وكلما كان الشاعر مُجيداً مُبدِعاً في هذا الفن، كان بيت المال مُشرَع الابواب، مُزداناً بكؤوس الخمرة، يتنعم الشاعر فيهما وبينهما حتى آخر سهم نفاق في كنانته.

 

وكم كان الخلفاء والسلاطين والولاة يتلاعبون بهؤلاء الشعراء .

وحتى ان كان الشاعر قد تَبوَأ مركزاً مهماً ، أو مكانة قريبة من قلب صاحب الصولجان، فما أن يختلف مع القصر حتى صار نكرة مطارداً.

والبعض منهم كان يتحمّل الاستهزاء والإذلال دونما رَدَّة فعل لرَدِّ الاعتبار .

والبعض الآخر كان يصل به حال المَدْح الى مراتب عشق الممدوح .

وكم شاعرٍ مات شِعره بموت ممدوحه .

فهذا هو (الاخطل) الشاعر المُدَلَّل عند عبد الملك بن مروان بعد أن كان مَدَّاحاً وصَدَّاحاً ليزيد بن معاوية.

وكما جاء في كتاب (تاريخ الادب العربي) عمر فرّوخ /ج١

ذات يوم طلب يزيد ايام معاوية من (الاخطل)أن يهجو الانصار ويذمهم فتخوف الاخطل، لكن يزيد أعطاه الامان وقال له :

( لك مني ذمة أمير المؤمنين وذمتي)

 

واندفع الاخطل في هجاء بني النجّار من الانصار في قصيدة جاء فيها :

 

(ذهبَتْ قريشٌ بالمكارمِ والعُلى...

واللؤمُ تحتَ عمائمِ الأنصارِ )

 

مما أثارت هذه القصيدة غضب الناس جميعا.

 

وفي ايام خلافة عمر بن عبدالعزيز (رحمه الله)كان باب القصر مزدحماً بهؤلاء الشعراء ، فلم يُسمَح لاحد منهم بالمدح والنفاق، فاستعانوا بـ (عون بن عبد الله) وكان له جاهاً ومكانة عند عمر بن عبد العزيز، فأراد (عَون) ادخال الأخطل فقال له الخليفة :

أليس هو القائل:

 

فلستُ بصائمٍ رمضان عمري …

ولستُ بآكلٍ لحم الأضاحي

 

ولست بقائمٍ كالعِيرِ يدعو …

قبيل الصبح حيَّ على الفلاحِ

 

ولكني سأشربها شمولاً …

وأسجد عند منبلج الصباحِ

 

- اعزبْ به، فوالله لا وَطيء لي بساطاً أدباً وهو كافر.

 

وعندما عَفا عنه عمر بن عبدالعزيز ، رافضاً وجود المدّاحين مثله في قصره، افترش الاخطل صحراء قاحلة، منزوياً عن الناس، حتى مات هناك، ومات معه ذكره غير موسوف عليه.

 

شعراء القصور يعلمون جيداً بأنهم آلة نفاق وتملّق ، وهم يتلونون بتلوّن الازمنة والملوك .

 

فهذا جرير يتوسل بأحد المقربين من عمر بن عبدالعزيز فيقول:

 

يا أيها الرجل المُرخي عمامته ...

هذا زمانكَ فاستأذن لنا عمرا

 

فدخل هذا الرجل ولم يذكر جريراً عند الخليفة.

ثم مرَّ ﺑﻬم عدي بن أرطأة، فقال له جرير:

 

يا أيها الراكب المزجي مطيته ...

هذا زمانك إني قد مضى زمني

 

أبلغ خليفتنا إن كنتَ لاقيه ...

أني لدى الباب كالمصفود في قرنِ

 

لا تنسَ حاجتنا لقيتَ مغفرةً ...

قد طال مكثي عن أهلي وعن وطني

 

- نعم هكذا يعترفون بأن زمان الباطل غير زمان العدل ، لكن الطمع والحاجة وضعف الارادة وعدم الثبات على الحق هي التي تقود مثل هؤلاء الى قيادة الاعلام الكاذب الهزيل.

 

-وكان علي بن ابي طالب (كرّم الله وجهه) يُسَب في المحافل وعلى المنابر عَلناً ايام الحكم الاموي لأكثر من ٦٠ عاماً ، ولم ينقطع هذا اللعن والسُباب إلا في ايام عمر بن عبد العزيز (رحمه الله).

وقال الزمخشري في (ربيع الابرار):

( انه كان في ايام بني امية اكثر من سبعين منبر يُلعَن عليها علي بن ابي طالب بما سنه لهم معاوية في ذلك)

 

ولما أُدخِلَ الشاعر (كثير) قال له عمر بن عبدالعزيز، لاتنشد إلا حقّاً ، فأنشدَ:

 

(وُلِّيتَ فلم تَشتِمْ علياً ولم تُخِفْ...

بريئاً ولم تَقبَلْ إشارةَ مُجرمِ )

 

- ونلاحظ هنا كيف تغير اتجاه البوصلة لدى الشعراء بعد أن كانوا يطمسون الحقائق.

 

ثم أَدخَلَ (عون) جريراً فأنشد حقاً، لكنه خرج بعطاء قليل ، فقال الشعراء ماعندك ؟

فصرَّحَ جرير بقولته الشهيرة :

 

"خَرجتُ من خليفةٍ يمنح الفقراء ويمنع الشعراء"

 

-وفتِّشْ أخي القاريء الكريم عن مديح ابن الرومي لسيدهِ وكيف فارقه.

 

-وتأمَّل مَدْح المتنبي لسيف الدولة، وكيف تحمَّل جرحاً لازمه حتى آخر حياته.

 

-وهذا النابغة الذبياني مُنشغلاً بمدح النعمان بن المنذر.

 

-وإقرأ لزهير بن ابي سلمى ومديحه لهَرم بن سنان .

 

-والحُطَيئة طارَ مَدحاً بالزبرقان وغيره .

 

-وجرير منشغلا بمدح الحَجاج .

 

-وانشغل ابو نؤاس زمناً بمدح الأمين .

 

-والبُحترى طار عشقاً ومدحاً بالمتوكل.

 

وكان هذا التطبيل والتبجيل يخفتُ إذا قلَّ العطاء، ويتوهج إذا ازداد تدفق الذهب ، حتى وصل حال بعض الشعراء الى الهجاء والقذف والشتم حين يزدريه باب السلطان، أو يخرج خالي الوِفاض.

ولو شاء الباحثون لعملوا مجلدات ومصنّفات طِوال بهذا الشأن.

 

• وهكذا كان شعراؤنا الكبار ، ممن حفظنا لهم قصائدهم الرنانة .

 

هكذا هم شعراؤنا المساكين ، يقتحمون القصور بحروفهم وصهوات قصائدهم.

سلاحهم التملق والنفاق والمَدح مِن أجل لقمة زادٍ ذليلة يُقَوِّم بها بَدَنه، أو من أجلِ دينار يُسعف به عياله، ويُخرِس امعائهم الخاوية، أو مِن أجل شِهرةٍ تطير بأسمه كي تحط في قصور اكبر عطاءا .

والبعض من هؤلاء كان يعلم بأنه في المكان الخطأ، لكن الارادات والشهوات تفعل افاعيلها.

أما البعض الآخر ممن حَملوا لواء الحرية والذين أسرجوا خيولهم بقصائدٍ فارهات قَضَّتْ مضاجع سكان القصور ، وجعلتهم يتملقون لهؤلاء النخبة من الشعراء من أجل مديحٍ ولو ببيتٍ شعريٍّ واحد ، ليغدقوا عليهم مايتمنون من مالٍ وجاه، هؤلاء الشعراء لم تَلفِتْ اليهم مناهجنا الدراسية ، ولم تلتفتْ اليهم العصبة السياسية التي كانت قبل الحكم تتشدق وتتغنى بقصائدهم ، ولم تحفظ الاجيال بعضاً من قصائدهم، بل ولم تتعرف الاجيال على الكثير منهم، لأن القصر كان ومازال يرتجف ولايرضى إلا بالتملق والنفاق.

هؤلاء الشعراء لم يبيعوا دينهم بدنياهم ، ولم يعشقوا دنيا فانية، ولا يرغبون بمالٍ وزادٍ بذلٍّ وإنكسارٍ وخنوع رغم كل الاغراءات والمغريات ، ورغم كل التهديد والوعيد ، لكن هيهات هيهات فاصحاب القضية والاهداف النبيلة دوماً هم الخالدون حقّا.

وبخلودهم يخلد التاريخ .

 

* والى بيانات قادمة بعون الله تعالى.

 

- احترامي وتقديري.

 

(كريم القاسم)



***********************


***********************

إعلان في أسفل التدوينة

اتصل بنا

نموذج الاتصال

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *