كلام فرط صوتي
العقيد بن دحو
قالت الإغريق القدامى : كان دائما يتكلم حينما لم يكن أحدا يريد أن يستمع
اليه.
كما ورد في رواية "القلعة" للكاتب الاديب الروائي "فرانس
كافكا". تروي قصة الإنسان الذي أصبح (حالة) ، لا يحتك إلا بالصغار من ممثلي
النظام ، أما ممثلي النظام بعيدون كل البعد يحيط بهم الغموض ، المُبهم و اللا ادري
!
فلا تكاد الساكنة ترى موظفا كبيرا مثل السيد (كلام) في رواية (القلعة) ، و
بارنابا مرءوسة ، لا يعرف أبدا على وجه اليقين ما كان الشخص الذي يحدثه السيد
(كلام) أم غيره. انه يتحدث الى كلام ! لكن هل هو كلام حقا؟
أليس بالأحرى شخصا فيه بعض الشبه بكلام !؟ ان برنابا يخشى أن يسأل ، خوفا
من أن يكون في ذلك خرق لقاعدة مجهولة فيفقد في ذلك عقله. اما البيروقراطيون الصغار
من امثال المساعدين الذين ارسلتهم القلعة لمراقبة الغريب ليس لهم وجود.
ان الحرب اليوم الجارية رحاها برا و بحرا وجوا و حتى فضاءا بالشرق الأوسط و
لا سيما على الأراضي الفلسطينية غزة ، هي حرب نجوم بالمقام الأول ، تلك الحروب
التي كانت تشد انتباه الاطفال الصغار و اليافعين على شاشات التلفزيون ساعات طوال ،
في حين كانت تعتبرها الكبار نوعا من ضرب الخيال ، تليق لهذه المرحلة العمرية التي
يمر بها الطفل و المراهق.
لم يدوم الوقت طويلا حتى أصبحت تلك افلام الحرب الكرتونية عين الواقع
الملموس ، تغيرت فيه العديد من الألاعيب و اللعب. لم تعد لعبة درامية عميقة الجذور
، تخاطب مخيال الطفولة و المراهق ، انما حربا، حطمت جميع تلك قواعد الحرب
التقليدية السيف و الدرع و المنجنيق ، الى حروب البندقية و المدفع ، الدبابة ،
الطائرة ، و الزورق ، الى ترسانة اخرى جديدة حديثة و ما بعد الحداثة. أسلحة الذكاء
الإصطناعي ، أهم وقودها الصواريخ الباليستية ، الفرط الصوتي العابرة للقارات و
المحيطات ، الضاربة لحاجز الصوت و المتجاوزة أضعاف سرعة الصوت.
قد يحسبها الجاهل هي مجرد حربا لا تختلف كثيرا على سائر الحروب القديمة إلا
بالمعدات و الوسائل و الأسلحة مادامت امخرجاتها ، سواء في اسلوبها الكلاسيكي او ما
بعد الحداثة ، مادام القتل و الدمار واحد
لقد حاولت المدرسة السيريالية (1919-1939) أن تؤنسن الحرب ، كأن تجعل من
الحرب فنا و جمالا و خلقا ، و من الجندي المقاتل على جبهات القتال فنانا مبدعا ،
لكن حج مظاهر القتل و التدمير للإنسان و المحيط و للحياة عامة كان فظيعا و مؤلما.
أين توقفت لغة الكلام النمطية و أمتازت بما تمتاز به لغة هذه
"الباليستيات" الفارطة ليست بالصوت النمطي القائم على اهتزازات الأحبال
الصوتية الفيزيولوجية / الهيرتزية/ التواترية/ الجيبية ، انما أيضا قائمة على
المسامع و سائر وظائف الحواس الحيوية الأخرى.
هذا الصاروخ الفرط الصوتي الذي انطلق من أحد جبال اليمن و مسح مسافة ألاف
الكيلومترات و بلغ هدفه في مدة تقدر أربعة دقائق لثورة حقا ، سوف تقلب العالم رأسا
على عقب ، لا سيما على مستوى التفكير و الابداع و المحاكمة.
صحيح هي صواريخ باليستية فرط صوتية ، لكنها سوف تنعكس على القيم حين تصير
تقاس بمعايير و مكاييل فرط صوتية.تماما كما علمتنا تطور مذاهب و مذارس كل فن و أدب
و فكر عقب نهاية كل حرب ، تماما كما علمتنا الثورة الإتحاد السوفياتي سابقا "
بالبرويسوريكا" ، و كما علمنا الغزو الامريكي للعراق "بالفوضى
الخلاقة".... كما تعلمنا الحرب على غزة فكرة " من مسافة صفر".
و هكذا تبدا الحرب حربا عسكرية امنية و تنتهي اقتصادية اجتماعية سياسية
ثقافية.
عندما تحط اوزارها و يعود الجنود و كبار قادتهم الى الثكنات يفرض المنتصر
أجنداته و شعاراته الفكرية الإقتصادية بالمقام الأول.
غير أن هذا الصاروخ الفرط الصوتي ، المتاح للجميع الطبقات الإجتماعية ،
للفقير كما هو للغني ، جعل من لا احد يخرج منتصرا من حرب الكرتون هذه على المباشر
، الجميع خاسر ، الجميع مستقبلا مضطر الى التراجع عن فكرة الحرب.
لذا ان عالما لا يفهمه الا العلماء يشعر فيه الناس بالغربة..و أن حكومة
تكنوقراطية سائر وزراؤها دكاترة يشعر فيها الناس بالغربة
توقفت لغة الكلام النمطية و صارت البشر الحديث تتحدث من مسافة صفر ، و كلام
فرط صوتي ، حديث بألف صوت ، و من حيث صوت الشعب من صوت العلم و التقدم و الإزدهار
قبل الحرب و اثناء الحرب و بعد الحرب. قبل الكلام و أثناء الكلام و بعد الكلام ،
كلام فرط صوتي !.
اكتب تعليقاً