عندما تقرأ أثرا إغريقيا
العقيد بن دحو
يوجد مثل عالمي شهير يقول : عندما تحب احب صحيحا ، و عندما تشتري بضاعة ما
اشتريها صحيحا. و عندما تسكن بيتا اسكنها صحيحا ، و عندما تقرا كتابا اقراه صحيحا
، فانك تحيا مرة واحدة بالعمر فعشها صحيحا.
الزيف و الاحتيال ملا الاسواق ، و ارجاء الدنيا ، و لم تعد قيمة للانسان ،
الانسانية ، وصناعة الانسان الا للاشياء الفارغة ، فراغ الانسان من اية قيمة
انسانية !
بل توجد مقولة اخرى تقول : اذا اردتني ان اضحك اضحك انت اولا ، و اذا
اردتني ان ابكي ، ابكي انت اولا !
و كل ما هو امامي لا يخيفني !
هذا حال من يقرا و يهتم ادبيا و فنيا و فكريا باي اثر اغريقي كلاسيكي
تقليدي اخلاقي !
هو الوحيد ان بكى البطل او تالم ، ان ابتسم و ضحك ، يبكي و يضحك الوجود كله
في اي عصر من العصور و في اي زمن من الازمنة ، و عند اي جيل من الاجيال ؛ كون
الاله هو من بكى او ضحك اولا.
لن و لم يسمح لك جودة و روعة الابداع ما توصل اليه الاغارقة في مجرى الزمن.
ان تقرا كتابا اخر ، ان تتطلع على مسرحية اخرى او فيلما ، او شيئ من الفنون
الزمانية و المكانية او قولا او خطابا مما هو اليوم المتوجه الى جمهور غائب مغيب.
تشعرك بان تقصا فظيعا واتزانا مختلا تجوب هذه العروض (...) ، تمنعها من البوح و
الذوذ و الدفاع.
تعود فكرة قراءة كتاب اغريقي دون غيره ، الى العلامة المرحوم الالمعي ؛
موسوعة الجزائر مولود قاسم نايث بلقاسم ، وهو بالمكتبة القومية التونسية يطلع
كتابا ما ، فواجهته المكتبية " المستشارة" هل قرات سيدي " مليوس
حبيبتي"
قال مولود قاسم نايث بلقاسم و اين اجد هذا الكتاب ؟
قالت : بالمكتبة الملكية البريطانية British Library king dom..فما كان
على العلامة الا ان سافر باليوم الموالي.
و لما وصل الى المكتبة القومية الملكية البريطانية ، سال " المستشارة"
امينة سر المكتبة القونية البريطانية : ايوجد عندكم كتاب كذا.....!؟
ظلت المكتبية واقفة تمثالا ، مندهشة ، و كان الطير على راسها ، تحاول ان
تتاكد من السؤال ، فهم العلامة من البقية صمت و سمت و كرر لها سؤال !
تحركت المستشارة الى الرفوف و هي لا تصدق ما سمعت !
قدمت له الكتاب و قالت : اتدري بان ثلاثة فقط من كبار قادة العالم قراوا
الكتاب و انت رابعهم في تلريخ انساب الالهة Theogonia !
لم يبرح العلامة المكتبة ليلها و نهارها حتى انتهى من قراءته.
اشكاليتنا ليس لا ننا امة لا تقرا ، و حتى اولئك المحسوبين على عالم
القراءة ، لا تقرا و لا تدري ان1ها تقرا !
المقروئية فعل عمل رابع ، و اذا اردت ان تتطلع على جودة كتاب من عدمه
، يجب
ان تعرف اولا كيف قرئ ؟
اعرف كيف رجالات دولة و علم و فكر سافروا و مسحوا فيافي و قفار في (اوديسة)
البحث عن كتاب ليقراوه فقط ، ليست هي قراءة اطفال مدارس بافلوفيا ، منعكسا شرطيا ،
و ليست هي قراءة ايطالية داخل العلبة الايطالية بما يسمى ما قبل المسرح الحديث هذا
، انما قراءة حواريةحضارية ، بين شخوص
الكتاب ، حلما و كلمة و فكرا و فعلا و بين القارئ المحتمل . حوار بغية ان يعلم.
يمتع ، يهز. يدهش. بل حتى بغية ان يبعث
الامل او الياس او غير ذلك...
لن تجد هذه الصفات و المميزات الخلاقة الخلابة الحسنة الا في كتاب اغريقي ،
كونه امتاز بما امتازت به الالهة من جودة وروعة و حب و جمال له وقعه على القلوب
الصادمة اذا مستها عصا موسى ، و تهز الحلق من ديباجته كما يقول المفكر اللغوي
الفرنسي (فرانسول كروازييه).
كتاب اغريقي او اي اثر (....) فني ادبي فكري اخر ، يختلف عن اي كتاب اخر ،
يشعرك بانه يسجن مجتمعا باكمله بين دفتي كتاب ، و يسجنك معه ، يحول القارئ و جمهور
كتابه الى اشياء من اشيائه ، الى متاعه ، بل يجري عليهم مختلف التجارب بغرفة
تعذيبه ، و يخضعهم الى منطق " سرير بروكست" ، ان كان الشخص طويلا قص من
قدميه ، و ان كان قصيرا شده بحبال حتى تطول قدماه. انه السجان الجلاد. (ابل
هرمان).
ليس من السهل ان تقنع جمهورا قراءة اثر معينا ، او كان تخضعه عن زمانه و
مكانه لبعض الوقت ، اللهم ان كان مجانا لا يلزم القارئ في شيئ لا اخلاقيا و لا
اجتماعيا و لا ماديا و لا معنويا.
عندما يقرا القارئ صحيحا دون تزييف او تحريف ، دون تملق او تعلق ، تعلقا
ساذجا او ميلا عاطفيا غريزيا .
سوف يظهر كل ما يعرض امامك من كتب و حركات ايقاعية و ايثارة ومجرد هرظقة ، و العاب صبيانية - وقت مستقطع
- ينتظرون بفارغ الصبر مهرجهم المفضل.
عندما تقرا و تطلع الى هذا الكتاب كيف قرئ اولا ، ستبدو لك الكتابات الاخرى
لا معنى لها ، و تبدو المسرحيات التي تعرض امامك (مسرحيات) فعلا بمعنى الشارع
للكلمة ، و سوف يبدو لك هذا الخطيب او ذاك كلام فحسب ، من كلام السيد (كلام) بطل
(القلعة) رواية كافكا التمثيلية.
لهذه الاسباب و الاخرى كنا ننادي مرارا و تكرارا العودة الى الكلاسيكيات
، ، اعادة منظومتنا التربوية التعلمية
التعليمية ، ومنظومتنا الثقافية التثقيفية الى الاصول ، الى الجذور المعرفية ، الى
ينابيع الفكر الكلاسيكي ، تفي اللحظة ، الخالد.
لهذا الاسباب كانوا مسؤولينا نوابغ ، اذكياء ، عندما كانوا يتولون مناصب
عليا وزارية ، يحولون مكاتبهم الى مكتبات فكرية ، و ليست مواضع لقص الاظافر !..
كل ما هو امامي لا يخيفني ، و عندما تقرا " هوميروس" ،
"هزيود" ، "فرجيل"، "صوفوكليس" ،
"يوريوبيدس" ، "اسخيلوس" ، "ارستوفانز"....و
العديد... العديد من اولئك الروع الرائعين ، الذين يحجون اليهم القراء من قارة الى
قارة و من بحر الى بحر ! بكتسب القائ مناعة ، حصانة ادبية فتية تمنعه و تقيه عن اي
شواش ، يخلط اوراق اللعب ، مادامت الفنون عانة لعبة عنبقة الجذور ، القصد من
ورائها اعادة التوازن ما بين الانسان و المحيط
بل عندما تكون قراءتك صحيحة ، و معاشك صحيحا ، و مركبك صحيحا ، و صحتك
صحيحة فلن يهز جبلك ريح ، مما يعرض
علينا من رقص ورفص، على جميع المحاور و
الاصعدة و ليست الثقافية و الادبية و الفنية.
تبين اليوم اكثر من اي وقت مضى ، عندما نجد رجالات الكونغرس الامريكي ، بل
الرئيس الامريكي ، يتكلم بلغة اللمحة الاولى للكلمات الاولى ، اي وفق لغة الاساطير
الاغريقية ، يكون بالمقابل الصعوبة بمكان
مواكبة هؤلاء القوم الذين ترجموا قراءاتهم الى اقوال وافعال دبلوماسية.
عندما يتحدثون بلغة الاساطير الاغريقية : "بروست" ، "
بروكست" ، " ميداس" ، " سيزيف" ، " الكترا" ، "
اياس" ، "فيلوكتيتيس".
صعب ان يواكب رجلا لا يقرا في مجرى حياته اثرا اغريقيا كلاسيكيا هذا العصر
الحديث ما بعد الحداثة ، القائم اصلا على التفكير المعاكس و نبدا التغذية الراجعة
(الاثر الرجعي) ، عندما تملك المخلية الابداعية مشروعا قوميا وطنيا في الادب و
الفن و الثقافة.
و انت تتطلع و تتفرس في ملامح شخص
يعرض اليك بضاعته الفنية ، يشعرك بانه مهزوز الشخصية ، غير مقتنع بما يسرده ، كونه
اول خير العارفين بمرجعيته و خلفيته الثقافية الحضارية من مسافة صفر ، فهو يعمد
على تعويض الخسارة ، التماسها من بين اكف الحاضرين ، التصفيقات الباهتة بلا طعم و
لا ذائقة فنية، و كلمات الاطناب الجوفاء الخرقاء الرعناء ، هذا ان وجد من يفعل ذلك
، و الا ظلت الكراسي منذ يونسكو يوجين الى يومنا هذا الشاهد الوحيد على موت الكاتب
وموت الكتاب معا ، و ما بقيت الا النظرات الاخيرة و الكلمات الاخيرة الفارغة التي
تخرج من افواه المصلين متحشرجة ، على اكبر قراءة لم تقرا صحيحا. على شاهد قبر
مجهول ، كتب عليه هنا : ترقد المقروئية الخطا عند الرجل الخطا في المكان الخطا و
الزمان الخطا!.
في الاخير عودوا او لا تعودوا الاثار الاغريقية ، الوقت ينفذ ، بل كونكم لن
تعودوا ابدا.
يقول (هوراس) : " اتبعوا امثلة الاغريق و اعكفوا على دراستها ليلا كما
اعكفوا على دراستها نهارا "
و يقول احسان عبد القدوس : كلما قابلت مبدعا اساله : هل قرات شيئا عن الادب
اليوناني ، ان كانت احابته بالنفي سقط من عيني !.
فبليسقط من يسقط ، فقط حافطوا ان يسقط الكتاب من ايدي اطفال المدارس
الامل (هوب) الذي اصله اغريقي.