جاري تحميل ... ألف ياء

إعلان الرئيسية

إعلان

عاجل

إعلان في أعلي التدوينة

جديد علَّم نفسك
سمية الإسماعيلفنوننصوصنقد

دراسة نقدية لقصيدة : "خطوات يغتالها الطريق" للأديب: د.عبد المجيد أحمد المحمود بقلم : سمية الإسماعيل

 

دراسة نقدية  لقصيدة : "خطوات يغتالها الطريق"

للأديب: د.عبد المجيد أحمد المحمود

بقلم : سمية الإسماعيل



خطوات يغتالها الطريق

لمْ يعدْ يستقرُّ المطرُ على كتفيَّ كحمامةٍ تائهة

ها هوَ

يتدحرجُ على معطفي

ثمَّ يسقطُ كدمعةِ الغريب

فجأةً..لمْ يَعُدِ الثلجُ لعبتي المفضَّلة

أضحى كالموتِ يأتي وحيدًا..و يمضي وحيدا

بعدَهُ يدايَ غَدَتَا بلا معنى..بلا رحيقٍ..ككذبةٍ مكشوفة...

الأفقُ ينهارُ في عينيَّ

و الشمسُ صارت تتركُ قصائدَ الشروقِ و الغروب..تصعدُ بمللٍ لتغدو ساعةً معلَّقةً لجدارِ الوقت...

مسرعًا..على حين غرّة يرتقي الوهنُ

يتسلّقُ سلالمَ روحي

ليعتلي القمة

مشرفًا على سهوبِ أحزاني..أصرخُ..

تتبعثرُ على مفاصلي سمفونية العقاقير

فيزدادُ ألمي هرمًا و شيخوخة

وعدْتُك يا فيروزُ أنني سأبقى رهين صوتك مهما تعتَّقَ العمرُ بي...

مهما ارتقاني ابيضاضُ الزمن

فاعذريني..اعذريني؛ و قد استبدَّ بي الكذب؛ فأصبحتِ تمرِّينَ على دروبي كعابرِ سبيل..

و صارتْ أذنايَ مقبرةً لكلِّ قُبَّراتِ النغم...

الطريقُ الذي تعوّدَني

و أدمنَ تبغَ خطواتي السريعة

و عطرَ أنفاسيَ اللاهثة

يرزحُ الآنَ..يئنَّ تحتَ وقعِ رنينِ عكازي، و أنينِ أحذيتي الطاعنةِ في الخطوات

لم أعدْ أنا

لم تَعُدِ السطورُ تشتاقني، و لا الحروفُ تعانقني

تخنقُها رعشةُ أناملي

يحاصرُها رمادُ ذاكرتي

تتنكّرُ لي..تقول:

إنَّ الفارسَ الذي يستسلمُ لأصفادِ الزمنِ، و يرفعُ الرايةَ البيضاءَ

لا يستحقُّ امتطاءَ صهوتي

أبكي..أبكي كثيرًا؛ فالحقيقةُ مؤلمة

__________________________________

د.عبد المجيد المحمود

القراءة بقلم: سمية الإسماعيل

💥وردت في قصيدة النثر عدة تعريفات من قبل النقاد وروَّاد قصيدة النثر في العالم العربي،  تعود مرجعيات تلك التعاريف و كل ما نشأ حولها من وجهات نظر و نقد إلى أقوال الناقدة الفرنسية سوزان برنار، فقد عرَّفت قصيدة النثر بأنَّها: "قطعة نثر موجزة بما فيه الكفاية، موحّدة، مضغوطة، كقطعة من بلّور، وخلق حرٌّ، ليس له من ضرورة غير رغبة المؤلف في البناء خارجًا عن كلِّ تحديد، وشيء مضطرب، إيحاءاته لا نهائية".[١]

و يحضرني قول للشاعر الفرنسي بودلير"من منا لم يحلم،في أيام الطموح  بمعجزة نثر شعري موسيقي،دون إيقاع أو قافية".وفي ظل هذا الطرح ربما تكون القصيدة العربية شقت طريقها في النثر بلا هوادة وهي تركض خلف هذا الحلم،وتتحرر من أسر البحور الشعرية الصارمة في محاولة لإعادة الروح والبطولة لشعر لبوسه النثر،مخترقة بذلك التابو التراثي والحضاري،ومشتغلة بنفس عربي لم يتغرب تماماً في النصوص الجدية منها،

و هكذا فإن

قصيدة النثر هي مشكلة التلقي الذي هو ولادة جديدة للنص الشعري. فهي تحتاج إلى قراءة منفتحة قابلة لأكثر من قراءة وأكثر من تأويل، بعد أن حقّقت اليوم تراكمًا نوعيًّا وانفتحت على العديد من الأجناس الكتابيّة والفنيّة.

 بدت القصيدة كنتاج تصور فاعل للعالم حوله ولرؤيا الشاعر، يتلاعب هو بدوره ، ولو بنسب ضئيلة، في إظهار المعنى تاركًا للمتلقي تصوره واكتماله.

قصيدته التي تتشكل على بنى نثرية ذات هيكلية سردية حكائية واضحة.

أي أسىً و أي حزن عشش في قلبك حتى ابتدأت قصيدتك ب " لم" وهي حرف نفي وجزم وقلب

لأنها تنفي الفعل، تؤكّد حدوث الفعل، و تقلب زمن الفعل من المضارع إلى الماضي إضافة لتوقع حدوث الفعل في المستقبل..هل أردت أيها الشاعر أن تنفي، أن تؤكد و أن تعيد زمن الأسف و الحزن عندك فتربطه بماضيك ثم تنقله إلى حاضرك فمستقبل أن تستشف مآله..

و كأن في عيني الشاعر عبرات تريد أن تنسل من بين هدبيه، يبكي عمرًا ولى، و حياة قد بدأت توليه ظهرها في طريق شارف على النهاية.. يحكي الشاعر حاله، و قد تبدلت تلك القامة السامقة بعنفوانها، إلى انحناءة فرضتها عليه سنوات العمر التي تتسارع الى الزوال..لم يعد يستقر المطر على كتفيه المستقيمين شبابًا، بل أصبحت القطرات تتدحرج على معطفه لتأخذ طريقها هبوطًا حزينة كدمعة الغريب الذي يبكي وحشة أيامه بلا نديم، فالتعبيرين "كحمامة تائهة، كدمعة الغريب.". كلا التشبيهين، يحملان معنى الحسرة و الشجن، الضياع و السعي للبحث عن حضن آمن… يقول :

لمْ يعدْ يستقرُّ المطرُ على كتفيَّ كحمامةٍ تائهة

ها هوَ

يتدحرجُ على معطفي

ثمَّ يسقطُ كدمعةِ الغريب

نلحظ في المقطع الثاني، كيف تصبح الألفاظ محكومة بعدمية تسيطر عليها ظاهرة ‘موت الجسد’، "فجأة" هذه الكلمة التي تنقلك "بغتة" من واقعٍ لواقع آخر لم تكن تتوقعه ، و لم ترسمه في خيالك. " فجأة " تفقد الأشياء قيمتها، تفقد أثرها في النفس، و تفقد النفس شغفها بها، لا كراهية، بل تداعيًا جسديًا.. و هكذا يأتي الثلج و يذوب، كما ذابت روابط علاقته به، فلا هو قادر على استرجاع زمن اللعب، و لا عاد لكفيه ذاك الرحيق، و ذاك العبق الممتزج بين كفيه و الثلج.. باتت بلا معنى، خائبة كخيبة" كذبة مكشوفة"

فجأةً..لمْ يَعُدِ الثلجُ لعبتي المفضَّلة

أضحى كالموتِ يأتي وحيدًا..و يمضي وحيدا

بعدَهُ يدايَ غَدَتَا بلا معنى..بلا رحيقٍ..ككذبةٍ مكشوفة...

كان للمطر حضور واضح في كثير من نصوص الشعراء، وعلى الرغم من أن علاقاتهم به وحديثهم عنه كان متبايناً، فمنهم من نظر إليه من زاوية الحزن واليأس والقلق، ومنهم من نظر إليه من زاوية التفاؤل والأمان والخير،

فهذا نزار قباني يخاطب حبيبته قائلاً:

إن الشّعر يأتي دائمًا مع المطر،

ووجهك الجميل يأتي دائمًا مع المطر،

والحب لا يبدأ إلا عندما تبدأ موسيقى المطر.

أتساءل، هل كان ذلك ما يعنيه المطر للشاعر عبد المجيد؟ هل هذا ما كان يعنيه الثلج له؟ شباب و شعر و حب و ذكريات بنكهة المطر.

نلاحظ هذا العلاقة البينية بين الشاعر و مفردات الطبيعة، المطر/ الثلج، و ما لهما من وقع في دواخل المرء عامة و في دواخل الشاعر خاصة و في مكنونه العاطفي،و لما أصبح لها من سيميائية متناقضة،  علاقة كانت تعني له الكثير، الصبا/ المرح/ البهجة/ الشباب و العنفوان، و التي يضفيها المطر و الثلج، كطبيعة، إلى عدمية هذا الاحساس، حين سارت به سكة الحياة بكل تداعيات أحداثها إلى خط النهاية، حيث تضيع في خضمها ملامح ما كانت تحمله من "حياة". لم يذكر لنا الشاعر هنا أسباب ذلك، بل تركها فراغًا نتخيله، لنصبح في قلب القصيدة، لسنا كمتأثرين فقط، بل يجعلنا نسقطه على أنفسنا فنصبح كالشاعر في منظومة واحدة.

لقد توحد في لغة الشاعر الدليل اللفظي "مطر"؛ فأكسبه فضلًا عن دلالة  الخير والنماء، والانعتاق ، التي كانت تعنيه له سابقًا إلى دلالته على الهلاك والبؤس؛ حين تراجع كل شيء مع تقدم الزمن..وما صار هذا إلا بسبب من توحد الهلاك والخير بعلاقة سببية في مخيال الشاعر الفكري  والعاطفي، وجاء هذا ليمثِّل انتقالا من لغة الشعر إلى شعرية اللغة ذات الآفاق الدلالية الرحبة.

ولعلَّ الشاعر أراد بهذه الرؤيا الاستشرافية التعاطي المعرفي مع دال الهلاك "مطر" بلحاظ واحد يتساوى فيه مع دال الخير "مطر" في استعمال الشاعر "؛ فينتهي " المطر" في هذه الرؤيا الناتجة عن وعي المخيال الثقافي المركَّب إلى مسرح للتدافع بين حالة العطش العاطفي، وحالة الارتواء، العطش الذي لا يرويه ارتواء.

فالمطر و الثلج كلها مفردات " الشتاء" وهو بالنسبة للشعراء جميعاً موسم الشجن، والحالمون كما يقول بودلير: «يحبون الشتاء القاسي، إنهم في كل عام يضرعون إلى السماء أن ترسل أقصى ما تستطيع من الثلج والبرد والجليد ... لأنه بهذا تصبح أعشاشهم أكثر دفئًا ونعومة، تصبح محبوبة أكثر.»، فهل انتهى الحلم عند شاعرنا؟ حتى فقد ذاك الدفئ و تلك الحميمية.

يقول ديستويفسكي: «الشتاء بارد على من لا يملكون الذكريات الدافئة».

يأخذني هذا القول إلى المقطع الثالث في القصيدة، حيث يشعرنا الشاعر ببرودة أوصال الحياة، على الرغم من أن شمسها تشرق و تأفل. لكنه شروق و أفول تراتبي رتيب، بغير ذا معنى أو إثر، و كأنه يقول أنه لم يعد لتتالي الأيام من وقع في مكنونات الحس عنده، لم يعد لشروق شمها الذي كان يستقبله الشاعر بأحضان الأمل و الأماني لذه، و لم يعد لغروبها الشجي الغارق في الرومانسية معنى، لقد أصبحت كميقاتية زمن تُبدئ يومًا و تنهيه، كأية ساعة معلقة على جدار مهملة و منسية بلا أهمية.

يشبه الشمس بشاعر يكتب قصيدة، و للقصيدة شجون في نفسه،

سنرى أنَّ رمزية الشمس عنده تختلف حدَّ التناقض، حيث لا يشكل الغروب أو الشروق مبعثاً للسرور أو الكآبة بذاتيهما، إنَّما تنعكس نفس الشاعر على الرمز لتعطيه معناه. إنه انهيار وجداني، لا شكلي. فما يعتمل في نفس الشاعر يسقطه على العالم حوله، فالمشاعر قد تعطلت، حين ركضت سنوات العمر. فصار كل شيء ممل، و قد انطفأت جذوة" اللهفة" لكل شيء حوله.

الأفقُ ينهارُ في عينيَّ

و الشمسُ صارت تتركُ قصائدَ الشروقِ و الغروب..تصعدُ بمللٍ لتغدو ساعةً معلَّقةً لجدارِ الوقت...

يعرضنا الشاعر لرؤية مختلفة للعالم تبدو فيها رؤاه راصداً لانهيار العالم" الأفق ينهار في عيني"، وكأنه في تنازع دائم بين محاولة إبصاره للأشياء وبين غياب تلك الأشياء بالانهيار إذ بدا فيه الشاعر مبصراً لمأساوية الكون التخيلي الذي يصنعه عبر مأساوية الكون الواقعي الذي يراه”.

مسرعًا..على حين غرّة يرتقي الوهنُ

يتسلّقُ سلالمَ روحي

ليعتلي القمة

مشرفًا على سهوبِ أحزاني..أصرخُ..

تتبعثرُ على مفاصلي سمفونية العقاقير

فيزدادُ ألمي هرمًا و شيخوخة

يتحول بنا الشاعر إلى فضح ما استتر علينا في المقاطع الأولى، حين أثار لدينا تساؤلات عدة عن أسباب تلك اللغة المأساوية في البكاء على فقده لكل ما كان يبهجه، ليبدأ باستعراض "لغة الجسد" الذي يحاول الشاعر أن يقتحمه في استكناه العلاقة بين لغة جسد القصيدة والمعنى في جسد الواقع بوصفها مكوّناً عضوياً أو وظيفة مرجعية تبتهج بها القصيدة وبذاتها، كأنما يبتهج الجسد الآدمي بمكوّناته، أو يعبئها أسىً و مرارة حين ينقل مرارته و أسفه و حزنه بمفردات تثقل كاهل القصيدة، في الوقت الذي تحتفل فيه القصيدة  بالطقوس الشعائرية "للجسد" حيث يهيل الشاعر أردية لغوية على كل معنى واضح يحاول العبور إلى القارئ/المتلقي وكأنه بذلك يتستر وراء اللغة التي تبدو في تناغم تام مع مقاصده المضمرة.

تبدأ ملامح الحسرة تبدو على جسد القصيدة، كما ظهرت على جسد الشاعر، في تردٍ لشبابٍ مسرعًا في خطاه إلى محطات هرمة، لا يبقى منها إلا أخيلة لصبًا ولى، توكئها عقاقير تمدها ببعض أنفاس الحياة. هذا ما كان يؤرق شاعرنا، إنه الاستغراق في الزمن و قد أكل منسأة عمره فما أبقى منها إلا بقايا "حياة" يتوكأ عليها. "فيصرخ " ألمًا و رفضًا و إذعانًا في وقت واحد.

"وعدتك يا فيروز أنني سأبقى رهين صوتك مهما تعتّق العمر بي"

عبارة تأخذني إلى ذاك الصوت الملائكي الذي غنى الحب و الوطن و السهر و الطفولة و الجنون، هي التي تحلق بنا على جناح ابتسامة تارة و دمعة تارة أخرى، نستيقظ على نغمات الأمل و الأمنيات. فأيّ عهدٍ أيها الشاعر تبرمه و الزمن سارق سويعات العمر في غفلةٍ منّا .. و كأني بالشاعر يردد أغنية" يا دارة دوري فينا" حين تقول :

تعا تَ نتخبّى من درب الأعمار

وإذا هنّي كبروا نحنا بقينا صغار

وسألونا وين كنتو.. وليش ما كبرتوا إنتو

منقلّن نسينا

واللي نادى الناس.. تَ يكبروا الناس

راح ونسي ينادينا

فهل نسي الزمن أن ينثر ثلوجه على مفارق رؤسنا، هيهات أن يتوقف العمر عندك فيروز، فقد أصبحت أغانيك مثل المطر و الثلج و الشمس، تمر "كعابر سبيل" ليس إلا. فقد وهن السمع مني، و لم تعد نغماتك الشجية تطربني، أقبر الزمن أغانيك في مسمعي كما أقبر زهر شبابي.

وعدْتُك يا فيروزُ أنني سأبقى رهين صوتك مهما تعتَّقَ العمرُ بي...

مهما ارتقاني ابيضاضُ الزمن

فاعذريني..اعذريني؛ و قد استبدَّ بي الكذب؛ فأصبحتِ تمرِّينَ على دروبي كعابرِ سبيل..

و صارتْ أذنايَ مقبرةً لكلِّ قُبَّراتِ النغم...

نعود لهذا التجمّع الطقسي، و الذي إن أراد به الشاعر أمرًا، فهم أن يقول لقد ضاع العمر و ضاعت كل مكونات بهجته، المطر /الثلج/ الشمس/ الأغنيات/ و الطريق.

لم يعد الطريق بالنسبة للشاعر جمادًا من حجر، بل أضفى عليه روح حتى بدا و كأنه يشعر ، يفرح و يحزن، يتراقص مع خطى عاشقين ، حين يسمع لهاثه متسارعًا كلما اقتربت خطى اللقاء، و يئن من وقع خطى عجوز يرمي عليه بثقل عصاه التي يتوكأ عليها، خطىً ما عادت تعرف الرقص على حجارته عشقًا، خطىً فقدت صبوة الهوى، فثقلت و مادت.

الطريقُ الذي تعوّدَني

و أدمنَ تبغَ خطواتي السريعة

و عطرَ أنفاسيَ اللاهثة

يرزحُ الآنَ..يئنَّ تحتَ وقعِ رنينِ عكازي، و أنينِ أحذيتي الطاعنةِ في الخطوات

و ينسل كل شيء من بين أصابعي، أضحيت كباسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه..حتى لأني أحسّ أنني أضعت نفسي، يقول : " لم أعد أنا" أهو اعترافٌ أم رفضٌ أم أنه تسليم؟ أي خذلان هذا الذي يعيث في ذات الشاعر و أي أسف.

 لقد بدأ يحس أنه أصبح شخصًا آخر لا يعرفه .شخص تائه الفكر و المشاعر . نتيجة عجزه عن إيجاد نفسه ، وشعوره بأنه أصبح  أو  كتائه يطارد ذاته الهاربة منه مع الزمن، حتى تنكّرت له كل ما كان يعشقه و يرتبط به، حتى قلمه و حروفه، حين عجز بنانه عن احتضان اليراع، هربت منه الأحرف و أعلنت عصيانها، و غلّقت السطور في وجهه مداءاتها...تتهمه بالضعف و الاستكانة، و هي لا تدري أنه يبكي حاله و قد عزّ عليه العلاج. فحروفه تراه أنه لم يعد كسابق عهده في خفة روحه وشغفه بالحياة .فقد تحول إلى شخص ضعيف محبط مثقل بالهموم. تتهمه و ما بيده حيلة و كأنها تقول " إن أعرضت أعرضنا" 

" لم تعد السطور تشتاقني، و لا الحروفُ تعانقني

تخنقُها رعشةُ أناملي "

"يحاصرُها رمادُ ذاكرتي

تتنكّرُ لي."

فنراه  يسعى للتخلص من هذه الحالة بالتساؤل عن نفسه مع نفسه، لكنه و قد أسقط في يده أما سطوة زمن خط خطوطه العريضة على مفاصل جسده، لا يجد إلّا البكاء متنفسًا... و أعود إلى من كان قد عاهدها على الوفاء لأقول: و لعل فيروز أيضًا كانت تبحث عن نفسها دون أن تعلم عندما غنت "أنا عندي حنين .. مابعرف لمين .. ليلية بيخطفني من بين السهرانين .. بيصير يمشيني لبعيد يوديني .. تا أعرف لمين ومابعرف لمين."

لكن شاعرنا يعرف لمن حنينه، فقد صدحت كل كلمة في قصيدته بها ليختمها بحنينه الذي يجمع كل ما سبق، حنينه ل " أنا" لنفسه بكل مكنوناتها، أحلامها، شغفها و عشقها، فيبكيها كما يبكي طفل فقد منهل ارتواءه.

لم أعدْ أنا

لم تَعُدِ السطورُ تشتاقني، و لا الحروفُ تعانقني

تخنقُها رعشةُ أناملي

يحاصرُها رمادُ ذاكرتي

تتنكّرُ لي..تقول:

إنَّ الفارسَ الذي يستسلمُ لأصفادِ الزمنِ، و يرفعُ الرايةَ البيضاءَ

لا يستحقُّ امتطاءَ صهوتي

أبكي..أبكي كثيرًا؛ فالحقيقةُ مؤلمة

تقنيات القصيدة:

يقول د . سلمان كاصد و لأنَّ القصيدة هي فعل سردي يقوم بالأساس على تكثيف النثر في إطار زمني مقنن، حتى أننا ولكثير من الأحايين نجد ظاهرة البياض/الحذف تلعب دوراً فاعلاً في مكونات قصائدهم التي تتطلب من القارئ/المتلقي إعمال الذهن من أجل استشراف العوالم المحذوفة التي وصفت بالبياض.. وكأن البياض ‘إقصاء’ لكتابة ‘السواد’ ويلعب دوراً كبيراً في إزاحة المعنى من أجل إنتاجه أو استدعائه من قبل القارئ ليتولد المعنى المغمور الغاطس في البنى العميقة للنص”.

و حول مفهوم ‘الامتلاء/ الخلو’، ‘السواد/ البياض’،  حفلت قصيدة الشاعر عبد المجيد ببعثرة  و بإيجاد فراغات زمنية مفقودة ذات فعل سردي اعتمد أن يكون ناقصاً كي يجهد القارئ في لعبة تشكل المعنى الذي يرتئيه. و هكذا قسّم الشاعر قصيدته بفواصل يعبر من خلالها الزمن  فبدت بكائية الشاعر على "شباب" أظهرت القصيدة معانيه بأفعال النقيض،

"لم يعد يستقرّ  المطر على كتفي/ لم يعد الثلج لعبتي المفضّلة/ مسرعًا..على حين غرّة يرتقي الوهنُ

يتسلّقُ سلالمَ روحي/ يزداد همي و شيخوختي……

💥يعتمد الكاتب في خطابه على استخدام ضمير المتكلم المفرد مما يؤكد أن المتكلم هو بورة النص الشعري

فنرى الكاتب يجسّد في تفاصيل قصيدته حالة ازدواجية الحضور/الغياب التي تؤكد حالة الانشطار التي يعلن صراحة عنها.

زاوج الشاعر بين الفعلين الماض و المضارع في نسيج قصيدته، و ذلك ليعطي دلالتين متساوقتين،

الأولى:  قصد فيها التأكيد على ترسّخ مشاعر الحزن و الأسى بروح الاستسلام و الخضوع لحالة صارت أمرًا واقعًا لا فرار منه، تمر صور الذكريات فيثار فينا الحنين ونستشعر بثقل الحزن فينا.و هنا جاء" الفعل الماض "لينقل للقارئ هذا الإحساس فكانت الأفعال( لم يعد / أضحى/ صارت/ أصبحت / استبد..)

بينما كان " الفعل المضارع" وسيلة الشاعر لإقناع المتلقي أن الأمر لم يكن فقط حديثًا من الماضي، بل إن الأمر ما زال يفرض سطوة حدوثه ، و استمراريته فكانت الأفعال(  ينهار /يرتقي/ يتسلق/ يعتلي/ أصرخ/ يتبدد / تتبعثر /يرزح/ تخنقها/ يحاصرها/ يستسلم/و من ثم أبكي .. أبكي)

💥التقنيات الفنّية:

سجّل الشاعر في قصيدته الكثير من المحسنات و الصور، فغزت التشابيه و الاستعارات سطور القصيدة فأضفت عليها جمالًا، و قوة و جزالة..

فكانت:

-يستقرّ المطر على كتفي كحمامة: تشبيه مجمل

المطر مشبه / الحمامة مشبه به / ك أداة التشبيه

-الوهن يتسلّق سلالم روحي: استعارة مكنية

شبه الوهن بكائن يتسلق فحذف المشبّه به الكائن و أبقى على شيء من خصائصه "التسلّق"

-السطور تشتاقني: استعارة مكنية

شبه الحروف بكائن " يعانق" فحذف المشبه به " الكائن" و أبقى على شيء من صفاته دلّت عليه " تعانقني"

-عطر أنفاسي : تشبيه بليغ إضافي فذكر المشبه أنفاسي/ و المشبه به " عطر"

-الأفق ينهار: استعارة مكنية

💥تنوعت ألفاظ النص بين سهولتها و غرابة تحمل رمزية عالية، و هذا ما أكسب النص مرونته و حركته و انفتاحه على مداءات التأويل.

💥كانت موسيقا النص تتراوح بين الهادئة المستكينة النغمات لتعبر عن روح الاستسلام و بين ثائرة، صاخبة تثير فينا حالة رفض مبطن لما يعتمل في ذات الشاعر على الرغم من جنوحه الظاهر للخضوع لتبعات معركته مع الزمن التي ، كما نقل الشاعر، خرج منها خاسرًا.

أستطيع القول و أضم صوتي إلى صوت د. سلمان،  أنه بات واضحاً أنَّ قصيدة النثر تجربة قابلة للجدل ما دامت قد واجهت أهمّ معضلة في موروثنا الشعري، وهي ثنائية “الشكل/المضمون” بسبب وعيها الحاد وثقافة كتابها وإحساسهم بضرورة التحول نحو أنماط مختلفة، نتيجة تحولات البنى الفكرية والاقتصادية للمكونات المجتمعية المعيشة في عالم صارت فيه التقنيات المتوالدة تحاول كسر ـوباستمرارـ الشكل الواحد المهيمن والمضمون أحادي الموقف.

^ أ ب ت أحمد بزون، قصيدة النثر العربية، صفحة 57-60. بتصرّف

أتوجه بالشكر للأستاذةFaten Safe🌺, في مد العون لي فيما يتعلق بالتقنيات الفنية🌺

مع تحياتي للأديب : عبد المجيد أحمد المحمود🌺

====================


***********************


***********************

إعلان في أسفل التدوينة

اتصل بنا

نموذج الاتصال

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *