اغتيال الفصول المتألقة ..
قصة قصيرة
د.علي أحمد
جديد
" تَعِبوا وهم يراهنون على تَعَبِنا "
حلب - 2013/07/14
لا كسرة خبز في بيتي ، و لا شيء
بات قادراً على إسكات الجوع الذي ما ينفك يهاجمني ويقرقر طويلاً في جوفي ، وهو
يتنقل بين المعدة الخاوية وبين الأمعاء التي توشك على الجفاف . دفعني جوعي إلى
الخروج رغم الاشتباكات المشتعلة بين فصائل الجيش المدافعة عن المدينة وبين
مجموعاتٍ من الغرباء الغزاة ، جاؤوا
يجمعهم الاتفاق على اغتيال الفرح ..جاؤوا بسلاح وعتاد ، ونحن مُكبَّلون بعجزنا
المسالم ، ونأوي إلى الزوايا و الأركان طلباً لأمانٍ بات سراباً
بعيداً وأسطورةً عصية على التصديق !!.
خرجت من بيتي لتفاجئني فوانيس الإضاءة وقد انطفأت أنفاسها وخمدت نبضات
النور في الشوارع وفي البيوت وكأنها تتضامن مع صنابير المياه التي جفت هسهساتها ..
ولم تكن الطرقات وحدها التي تتوشح العتمةَ التي نجحت في النَيلِ من التماع النور
حتى في حدقات العيون ..
- (قــف مكانك ..)
جاءني الصوت جافاً ومفاجئاً وحادّاً كمقصلةٍ تهوي على عنق بلبل وديع لا
يُجيدُ سوى أغنيات الفرح ..
التفتُّ لأجد صاحبَ الصوت مُثقَلاً بأسلحة تكاد تعيق حركته .
كان يربط رأسه بعصبة سوداء وعليها عبارات غير واضحة الحروف ويقف تحت راية
تتوسطها ثلاث نجومٍ حمراء متأهباً وهو يوجّهفوّهة سلاحه الأمريكي إلى صدري . كانت
عيناه داكنتان بيريق غريب كعينيّ ذئبٍ يوغِلُ في توحشه وفي تعطّشه للافتراس . كان
يُحدّق بي بقلق بالغ وظاهر كبندقيته التي تحدجني فوّهتها بانتظار ضغطة الزناد ..
- ( قف مكانك وضع يديك خلف رأسك ) ..
تشابكت أصابعي مرتعشةً خلف رأسي باستكانةٍ ظاهرة وبانكسارٍ واضحٍ شديدِ
الخنوع و الانصياع ، بينما تقدّم مني مسلّح آخر ، ظهر فجأة من العدم ، وراح يتحسس
جسدي المرتجف بكفّين جافتين وقاسيتين كجفافٍ أسطوري مُغرِقٍ في الحقد .. كان يبحث
عن أي
سلاح قد أخفيه بين طيات ثيابي حتى ولو كان قلماً . سألني بلهجته الريفية :
- ( أين بطاقتك الشخصية ؟)..
- في جيب معطفي من الداخل ..
- (هاتها بسرعة )..
أنزلت يدي من خلف رأسي وأغرقتها بسرعة في جيب معطفي من الداخل ، وما إنْ
لمستُ طرف بطاقتي لإخراجها حتى هوت كفُّه على خدّي و هو ينفجر بصراخه :
- (انتظر أيها الحيوان حتى أخرجها أنا بنفسي )..
اشتعلتْ الدنيا أمام عينيّ بوميضٍ
متوهجٍ وحارق ، وتوقفت الحياة في كل ما بجسدي المرتعش خوفاً
وقهراً .. وخذلاناً . كأن القلب
ستتوقف نبضاته غيظاً واحتجاجاً .. وكأن العروق تتجفف دماؤها !!..
مدَّ يده إلى البطاقة في جيب معطفي وانتزعها منه بانتهاك ، ثم قذف بها إلى
صاحبه المتأهب بسلاحه وهو يقول بلهجةٍ آمرة :
- (خذها وتأكّد إن كان مطلوباً لدينا)..
تلقفها الأول بلهفة .. خطفها بيده ثم أخرج من تحت سترته الواقية لوائح
طويلةً وفيها أسماء محددة أعدّوها مسبقاً أو تم تزويدهم بها ... ازدادت حدّة القلق
المخيف في داخلي من وجود اسم يشابه اسمي لديهم ، أو يكون قريباً في حروفه أو في
لفظه . بحث ملياً في سطور قائمته ، مالبث أن أعاد البطاقة إلى زميله وهو يشير بأسف
إلى خلوِّ اللوائح من اسمي . أخذها صاحبه وسألني قبل أن يعيدها إلي :
- (ما هو عملك ؟..) ..
- كنت أعمل في مكتبي الخاص للسياحة و السفر ..
- (أنت تقول بأنك كنت تعمل ، وأنا أسالك عن عملك الحالي فأجب عن سؤالي
المحدد دون التفاف ولامواربة )..
- الآن ، أنا عاطل عن العمل ، لأنني لا أجيد سوى العمل بخبرتي في هذا
المجال .. و اليوم ، بفضل الله
لم يعد في هذا البلد مجال للسياحة ولا للسفر .
- ( لماذا لم تلتحق بصفوف "الثورة" إذن وتساهم في تحرير الوطن
وفي التغيير ؟!..أو لست
مواطناً يهمه حال الوطن ؟!)..
رددتُ عليه بلهجة الواثق بعد أن اطمأننت إلى خلوّ اسمي من لائحتهم :
- أولاً ، أنا لا أحب العنف ولا أميل إلى سفك الدماء .. وثورتكم هذه
استبدلت نَجمَتيّ رايتنا الخضراوين بثلاث نجوم حمراء . يعني أنكم استبدلتم لون
الربيع و السلام في رايتنا ووضعتم مكانه لون الدم والجحيم ، وتدّعون أنكم الربيع
..
ثانياً ، كلنا نعرف أن الثورة تقوم بوجه محتلٍ أجنبي ينتهك الكرامة ويسرق
الوطن والمواطن .. أما مفهوم التغيير الذي تقصدونه في ثورتكم هذه فهو لايتعدى سوى
التخريب و التدمير وإرهاب الآمنين ، كما فعلتم وتفعلون بثورتكم في العراق وفي
ليبيا ، لأن الثورةفي حقيقتها تعني بناء البلد وتطويره ، وتسعى للحفاظ على أمن
المواطن وكرامته ..
كان لا يكفُّ عن التنقل بنظراته بين وجهي ، وكأنه يفترس ملامحي ، وبين
بطاقتي التي في يده . مالبث أن رمقني بنظرة غاضبة ، يقاطعني ويعيد لي البطاقة وهو
يقول بنزق :
- (امسك بطاقتك .. لو كان اسمك موجوداً على تلك اللوائح ، كما كنت أتمنى ،
لما تجرأتَ على قولك
هذا . خذ بطاقتك وعجل بمغادرة الموقع قبل أن أشير إلى القنّاص الذي ينتظر
إشارتي لإطلاق النار
عليك ).
أخذتُ البطاقة من يده وتابعت طريقي على عجل كما كانت تعليماته المفعمة
بلهجة التهديد المباشر والواضح . تبعني المسلّحالآخر محاولاً إبداء شيء من
الاعتذار عن تصرّف صاحبه معي وهويقول :
- (لا تأخذ على عصبيته في التصرّف كما فعل أو الكلام الذي قاله لك ، كلنا
نعيش مرحلة صعبة وشديدة الحساسية . ولاتنسَ اننا نخاطر بأرواحنا اليوم من أجل
خلاصكم وتحريركم ..)
قاطعته محتداً ، وبكل ما استفزّته فيَّ كلماته :
- عن أي خلاص تتحدث وعن أي تحرير !!.. أنت تعرف أن "فاقد الشيء لا
يعطيه" .. لأن الذين
سلّحوكم قد سلبوكم حريتكم وإنسانيتكم واستنهضوا فيكم غريزة القتل و التوحش
. أنا لم أرَ سوى أسلحتكم وأنتم توجهونها نحوي ونحو كل أعزلٍ مسالِمٍ يعبر الطريق
. لقد سلبتم الحرية .. وقتلتم الأمان الذي كان !!..
كنا نقطع البلاد من أقصاها إلى أقصاها دون أن يستوقفنا حتى شرطي المرور ..
وكانت النساء
تخرج من حفلات الأعراس آخر الليالي وهن مثقلات بأساور الذهب وبالحلي ،
وتمشين حتى بيوتهن
دون أن يعترضهن أحد .. أمّا في ظلّ تحريركم اليوم ، لم يعد الرجال يتجرأون
على الخروج من البيوت
في وضح النهار خوفاً من استهدافهم برصاص قناصيكم أو بطلقة طائشة . وحتى
بيوتنا التي بتنا نتحجر فيها ولا نغادرها فلم تعد آمنةً اليوم رغم قول النبي (ص)
الذي تدّعون انتسابكم إليه وانتهاجكم نهجه حين قال يوم فتح مكة :
" من دخل داره فهو
آمن"
لأنكم تخربون الدور فوق رؤوس
ساكنيها وهم يلوذون بجدرانها ..
توقف المسلّح في مكانه محاولاً صمَّ أذنيه عن كل ما أقول ، وتركني أبتعد
عنه بخطواتي المتلاحقة
وأنا أهزّ رأسي بعصبية تنبئني بفقدان مبررات وجودي بعد الصفعة المفاجئة
التي تلقيتها من مسلح يستقوي بسلاحه وبحقده ، ويختبئ وراء خوفه من أبرياء باتوا
يفتقدون لون الودّ وطعم الرغيف ، أو شيئاً من الكرامة والأمان .. صار كل واحد منا
ينتظر موته ، ولا أحد فينا يدري متى يفاجئه الدور في الرحيل .
كل ما يصل إلى مداركنا وينقر أسماعنا اليوم يُنسينا الجوع ورائحة الخبز
ونحن نتابع أخبار الظلامية التي تستجمع جيوش العتمة لاختراق أسوار ضيائنا الذي
مازلنا نتمسك بزوبعة إثمنا الحضاري العريق رغم تضييق الأنشوطة حول رقابنا ، ورغم
كل محاولات تجويعنا بهدف قهرنا وتركيعنا .
أتحسس خدي الذي حفرت صفعته ألماً عميقاً في القلب وفي الوجدان !!..
ويجتاحني يقين راسخ بأنني مشارك في قتل كل الذين قهرهم الجوع واضطروا للركوع ..
أوقن بأنني قد تجاهلت حدسي ولم أرفع الصوت في التحذير .. لم أصرخ حين كان يمكنني
الصراخ ..
نعم ، كلنا مشاركون في القتل لأننا لم نُعلِ الصراخ ونحن نرى جحافلهم
تتغلغل بيننا وتسلل إلى بيوتنا متخفيةً بابتساماتٍ خبيثة وتحت عمائم كاذبة أو من
وراء لِحىً ماكرة لا تتقن سوى الحقد على كل نقاء وعلى كل ما هو مضيء وجميل . كلنا
، كنا نستشعر ما كان ينتظرنا من الأهوال ولم نرفع الصوت . كل واحد فينا كان
ينتظر صراخ غيره ليبدأ الصراخ .. ولم يصرخ .
كلنا اليوم مسؤول عن ضحايا القتل و الجوع في هذا الحصار الذي يشتد ويضيق
علينا دون توقف . كلنا مسؤولون عن تمدّد الوحش بيننا .. وستبقى أحزاننا
وانكساراتنا تسكن فينا أبداً تلوِّن
صورة البسمة على وجوهنا مهما حاولنا إخفاءها ، ولأننا لم نصدِّق حدسنا وهو
يحذرنا من غدرهم
حتى أتانا !!..
كان بمقدورنا الصراخ ولم نصرخ . ربما كانت ستذهب صرختنا الأولى سدى .. ربما
كانوا سيتجاهل الآخرون سماعها ولا يرددون الصراخ .. ولكن لو أننا تمسَّكنا بالصراخ
ثانيةً ، وثالثةً .. وعاشرة لأجبرنا الجميع على سماعنا ، ولتَنبّه الجميع إلى ما
يرسمه العالم لنا ، وما يخفيه وراء كذب
المجاملات وزيف الابتسام ..
- ( قف مكانك )
جاءني الصوت مفاجئاً كطلقة غادرة .. تَسمّرتْ قدماي في المكان
ورفعت يديَّ أشبكهما خلف رأسي . تقدّم مني مسلّح يربط رأسه بعصبةٍ حمراء
وعلى صدره راية
النجوم الحمر الثالث . سألني وابتسامته تتمدّد فوق ملامحه الشمعية القاتمة
، بينما تخرج حروف سؤاله من بين شفتيه الغليظتين بلهجة أهل الشمال الأفريقي
وبالعربية الفصحى المتكسرة :
- (لماذا رفعت يديك هكذا دون أن أطلب منك ؟!)..
- لأنك ستطلب مني أن أفعل ذلك ..
- (ثم ماذا ؟)..
- ستسألني عن بطاقتي الشخصية مثلما فعل زميلك ذو العصبة السوداء الواقف على
ذاك الحاجز
هناك ..
- (وماذا ايضاً؟)..
- ستفتشي لتتأكد بأنني لا أحمل سلاحاً وبأنني غير مطلوب على لوائحكم ..
- (وماذا سيكون ردك على ذلك ؟)..
سأنصاع مضطراُ طالماً أنك تُوجّه لي هذا السلاح ..
- (وهل يعني ذلك أنك لا تحمل سلاحاً؟)..
- قلت لك أن زميلك على ذلك الحاجز قام بكل ما يلزم ..
- (نحن هنا لا علاقة لنا بأولئك على ذلك الحاجز .. هم من أبناء البلد ونحن
مجاهدون من كل العالم جئنا لنشر الإسلام في أرض الله التي يورِثها لعباده الصالحين
كما وعدهم )..
- لكننا هنا مسلمون أيضاً وعلى أرضٍ إسلامية عريقة انطلقت منها الفتوحات ..
وإذا لم تقبلوا بشهادة التاريخ ، فها هي المآذن حولك تشهد ..
- (نحن نعلم أن إسلامكم غير صحيح وجئنا لتقويم اعوجاجه)..
- لو فرضنا أن غايتكم التقويم فعلاً فإن ذلك يجب أن يكون كما أمر الله في
كتابه :
" ادع إلى سبيل ربك بالحكمة و بالموعظة الحسنة "
وليس بالسلاح ولا بقتل النفس التي حرّم الله قتلها إلا بالحق ..
تغيّرت ملامحه وهو يقول ضَجِراً :
- (هذا ما نعانيه هنا منكم .. نحن جئنا لإصلاحكم ولتوحيدكم على كلمة الله
ولا نلمس منكم تجاوباً ولا تعاوناً ولاتأييداً .. بل إنكم ترفضون وتستهجنون
تضحياتنا واغترابنا عن أهلنا وبلادنا لإصلاحكم وهدايتكم ) ..
- نحن لم نستدعِ أحداً لإصلاحنا لأننا أكثر الناس صلاحاً وإصلاحاً ..
- (ولهذا ما زالت الكنائس تقرع نواقيسها عندكم !!)..
قال ذلك بسخرية واضحة ..
- ربما نسيتَ أن المسيحية كانت ديانة التوحيد مثل المحمّدية ، وأن
المسيحيين هنا كانوا أصحاب الأرض الحقيقيين ، وقَبِلوا دخولنا عليهم بالفتوحات كما
قَبِلوا التعايش معنا بمحبة وسلام حتى اليوم .. لم يقتلونا ، ولم يقاوموا وجودنا
على أرضهم ..
بدا عليه الحنق ونفاد صبره مما أقول . أومأ برأسه إلى زميله وتأهب بسلاحه
يوجهه إليّ .
في داخلي كان الخوف يمور هادراً كمحيط حقد تتلاطم فيه الأمواج ، ولم أعد
أعرف حقيقة من أنا ولا
أين أنا !!.. كـأنني نسيت بحثي عن الرغيف ودخلت أرض عالم غريب وعجائبي بعيد
عن واقعنا الذي نعيش أو الذي كان . يشرئب في داخلي خوفٌ وتوجسٌ من وجود ما يثير
حفيظتهم مما قلت ، فيدفعهم ذلك لإهانتي بصفعةٍ من
جديد ، و ربما لقتلي ، بعد أن صار القتل أهون الحلول وأبسطها .. صحيح أنني
لا أحمل سلاحاََ بين
يديّ لأنني أكره الدم و القتل ، لكنهم يعملون على تفجير المجهول فينا بعد
أن بدأ الخوف بتفجير
الحقد ليغزو النفوس الآمنة وليقتل ما تبقى لدينا من الطهر و البراءة ..
طوفان عارم من الحقد المُبرَّر
يحاصرني ، وكم أخشى أن يتفجّر بنا جميعاً فيقتل الحب فينا ، وقلوبنا بلابلٌ
في براءتها لاتتقن العيش والغناء دون بهجة ودون نبضات حبٍّ صافٍ وحقيقي .. قلت له
بعد أن انتهى من تفتيشي :
- لماذا تتوافدون علينا بهذه الحماسة و لا تذهبون لتحرير أولى القبلتين
هناك في فلسطين حتى تكونوا دعاة جهادٍ وتحريرٍ حقيقيين ؟..
- (تلك ستكون معركتنا الفاصلة بعد القضاء على المرتدين عن دين الله الواحد
كما فعل صلاح الدين
من قبل حين أعاد أهل مصر عن فاطميتهم إلى الكتاب والسنّة .. فهو قدوتنا
ومَثَلُنا الأعلى في التوحيد ومنه إلى الجهاد والتحرير)..
- ولكن الله يقول :
"إن إلينا إيابهم ثم إن علينا حسابهم"
أي أنه لم يُفوّض أحداً بحساب أحد وحتى الأنبياء لم يعطِهم تفويضاً بحساب
أحد أو محاسبته ..
تجاهل ما قلته كلياً وكأنه لم يسمع شيئاً .. وقال محتداً :
- (خذ بطاقتك و لا تسرع في مشيتك وكأنك هارب من شيء يلاحقك فعلاً .. لقد
أدخلتْ خطواتك المتلاحقة الريبة في نفسي ولهذا أوقفتك .. مم تهرب ؟)..
- من نفسي ..
- (إمضِ في سبيلك بهدوء وحذر لأن السرعة تثير المخاوف في نفوس الجماعة وقد
يكون ردة
فعلهم قاسية وقاتلة وحرام أن يكون ذلك مصير واحد مثقف و واعٍ مثلك . وإذا
أردت خبزاً فثمة
فرن بدأ العمل منذ قليل وقد تستطيع الحصول على شيء من الخبز إذا توقفت عن
الفلسفة الفارغة مع الآخرين ، لأنك والله لن تصادف من يصبر على هرائك مثلي )..
أخذتها منه ، وبسرعة وضعتها في جيب معطفي متوجهاً نحو الفرن الذي أشار إليه
. حاولت استرداد
شيء من الهدوء الذي بات يجافيني بإصراره العنيد وأنا أرى المسلحين قد سّدوا
المنافذ بسواتر ترابية يختبئون خلفها ..ويرتكزون بقناصاتهم على الأسطح وفي نوافذ
البيوت التي أخلوها من أصحابها لينشروا لغتهم في الموت والقتل دون تمييز بين رجل
أو إمراة ، و لا بين طفل وبين كهل أو عجوز ..
حتى الجدران المسلوبة على جانبي الطريق ألبسوها ثوب الكآبة بعد أن ثبّتوا
عليها عبارات الموت القتل ، وشعارات الوعيد والتهديد .
تتردد الآن في أذنيّ صدى عبارات
جاري المدرس وهو يقول لي مُغالبِاً البكاء :
- لقد استولى المسلّحون على المدرسة التي أعمل فيها .. صرفوا التلاميذ و
أحرقوا الكتب ومقاعد
الدراسة ليتدفأوا بنارها بعد أن حوَّلوا المدرسة إلى مركز يقيمون فيه ،
وإلى سجن يحتجزون فيه
الأبرياء .. قالوا إنهم يريدون الإصلاح وهم كاذبون .. لأن الإصلاح لا يكون
بإغلاق المدارس ولا يكون إلا بنشر العلم و السلام و
بالبناء و الأمان . لقد بات دولارهم (هولاكو) العصر الذي يهدم و لايبني
ويقتل ما فينا من الأخلاق والقِيَم .
* * *
لا كسرة خبز حتى الآن و لا شربة
ماءٍ إلا مما تبقى في خزانات البيوت ، والمسلحون ما زلوا
يتوافدون وتنتشر جموعهم متمدّدة في الشوارع و الأحياء .. يسرقون المحلات
وينهبون البيوت .. يصادرون الفرح ويقتلون البراءة .. يمسكون الحناجر بقبضات القهر
كي لا تطلق الأغنيات في الآفاق .. ومازال الضيق يتغلغل في صدري بعناد وإصرار ،
فيقتل الفرح ويغتال الابتسام . يتحِّدُ الضيق مع جوعي بحثاً عن خلاص قريب يُبعِد
اغتيال عبق البراءة وأريج المحبة .. أبحث عن خلاص من حصارات الجوع ومن التضييق على
هديل الحمائم وغناء البلابل ، وعن سلام يحفظ للفراشات تألق ألوانها ..
وها أنذا عالق بين زحمة البنادق و الرصاص ، وبين لزوجة الأمنيات التي يصعب
تحقيقها أو ترجمتها إلى واقع مفرح كانتمائنا الحضاري العريق ..
تجتاحني رائحة الرغيف من بعيد ، فتدور النجميات في السماء مضيئة ولامعة على
صهوة الأمل .. وبشفرة سيف الخلاص على رقبة الجوع ..
- ( هيه .. ماذا تفعل خارج بيتك في هذا الوقت الكئيب ؟)..
جاءني صوت أعرفه جيداً .. كانت لهجته تنمُّ عن التودد بتباهٍ ظاهر ..
التفتُّ نحو مصدر الصوت لأرى شبحاً مسلحاً غير واضح الملامح يقترب باتجاهي ويحتضن
بندقية آلية أمريكية كما لو كان يحتضن عشيقته إلى صدره بكلّ مافيه من الشوق و
الشغف ، حتى صار فاصلاً حاجزاً في المسافة بيني وبين الفرن . كان يرتدي بنطالاً
عسكرياً ملوَّناً ببقع صحراوية لا اخضرار فيها
ولاحياة ، ويعتمر قبعة صوفيةً
تذكرت يوم اشتراها جاري المعلّم لابنه اليافع الوحيد ..كان يسرع الخطو
قادماً نحوي وفي ذهني تلمع صور المسلحين وصور القتل ومشاهد السواتر والمتاريس و
القنّاصين بقناصاتهم وهم يستهدفون المارة و العابرين الآمنين .. تجاوزني شرطي كهل
لم يتخلَّ عن ملابسه الرسمية كغيره من أبناء السلك الأمني الرسمي .. ربما
لم يكن يملك من الملابس ما يتيح له استبدالها .. أوقفه المسلّح ابن جاري وتجادلا
بالحديث قليلاً ..
علا بعد ذلك صوت المسلح اليافع وأنا أتابع توسل الشرطي الكهل وهو يشير إلى
ربطة الخبز التي
يحملها بيده ، ثم بدأ يرجو المسلّحَ - ابن جاري - أن يسمح له بمواصلة
الطريق لإيصال الخبز إلى أولاده الجائعين .. دوى طلقٌ ناري مفاجئ ، فارتعدتُ و أنا
واقف في مكاني أراقب مايدور بينهما .. ارتجفتْ ركبتاي والشرطي الكهل يترنّح أمامي
ثم يهوي على الأرض ويده ما تزال ممسكة بربطة الخبز وتشدُّ عليها بكل ما تبقى فيها
من عزمٍ ومن قوة ، حتى خارت تماماً وتفلتت الربطة من بين الأصابع التي كانت تمسك
بها ..
تسمّرتُ في مكاني وارتعدتْ ركبتاي
تُعلنان عجزي التام عن الحركة وأنا أتأمل عَينيّ المسلّح ابن جاري تلتمعان بزهوٍّ
مكذوب وهما تراقبان جثة الشرطي المسجاة على الأرض ، وتحتها تتمدّد سحابة الدم وهي
تشرق وتتسع كزوبعةٍ حمراء تأبى التخفي أو الأفول ، وكأنها تنتفض باحمرارها في وجه
القتل والسلاح ..
كان الشرطي كهلاً في عمر جاري المدرس والد المسلّح تماماً .. وكان أعزلاً من أي سلاح سوى من الشيب الأبيض والمتوقّد في رأسه ، ومن ربطة الخبز الوحيدة حتى أفلتتها أصابعه فوق بقعة دمه .
جروب المنتدى العربي للنقد المعاصر
من هنا