عبد القادر الغريبل
وصية
عبدالقادر محمد الغريبل
حين أحيل على التقاعد، ظهرت عليه
أعراض علل كثيرة بعضها تعزى لكبر سنه، والبعض الآخر لمتاعب مزاولته عمل دؤوب
وإبتلائه بأمراض مزمنة عجلت بتسيد الشيخوخة على تضاريس جسده، خارت قواه، وهن عظمه،
احدودب ظهره، انخسفت قامته، تغضن وجهه، غارت عيناه في محجريهما، ضمر كرشه.
ــ كثيرا ما كان يحجم عن أخذ أدويته، وحين كشفت أمره، حرصت أن يتناولها
غصبا عنه، بعدها قرر أن يأخذها من تلقاء نفسه، فكان يأخذها مني عبثا ويلقيها في
القمامة.
ــ لماذا لم تخبرنا بذلك؟
ــ قمت بتهديده، مما جعله يسخط
ويثور في وجهي، مهددا أنه لن يغفر أو
يسامحني إن أعلمتكم بالامر، معللا أنه عاش بما فيه الكفاية، وتلك العقاقير لا جدوى
منها ولا تفيده بتاتا، ما جعلني ألتزم
بالصمت.
ــــ لا فائدة تجدي
ــــ لا شيء
ـــ لماذا بعثرت محتويات أدراج
خزانته
ـــ لقد كانت مبعثرة منذ زيارة آخر ضيف.
ــــ لا أستطيع العثور عليها
ـــ عمَّ تبحث؟
ــــ عن هويته
ــــ لماذا تريد هويته؟
ــــ لتكون في متناول اليد، لأجل جنازته.
ـــ هل أتى لزيارته ضيف
ــ من كان إذا؟
ــ أنا لا أعلم، أنا متأكد أنه
ضيفه، سألته عنه، فلم يجبني
ــ كل ما أدركته هو أنه تم إفراغ
خزانته من محتوياتها، فظننت أنك فعلت ذلك
ــ يعني أنك لم تسأله
ـــ أنت تعرف الوالد، إذا لم يرد
الإجابة على سؤالك حتى ولو سألته ألف مرة فإنه لن يجيبك، ولأنني رأيتها مبعثرة،
ظننت أنك كنت هناك.
ـــ لم أكن موجودا حينذاك لأخبرك
ــــ لماذا دخلت الغرفة؟
ــ للتأكد ما إذا كان الباب مغلقا
أم لا
ــ حسنا لماذا أردت معاينته طالما كنت تعرفه مغلقًا؟
-- هكذا أعاين الباب دائما لأتأكد منه لأن الوالد حساس من أن يكون بابه
مفتوحا.
ــ لكنني رأيته مفتوحا
ــ في الحقيقة خفت بشدة عندما رأيت
الباب مفتوحا على مصراعيه، فدخلت لأطمئن من عدم حدوث شيء، فرأيت محتويات خزانته
ملقاة هكذا يا عزيزي.
ـــ دعني أخبرك ما علي إخبارك به ولماذا أكره أن أقصده؟
ــــ هل جاء يوما واحدٌ لزيارته؟
ـــ أتقصدني بقولك؟ أتقصدني؟
ــــ لا أعلم كيف تحمّلك المسكين
ـــ دعك منه
ــــ أخرس والدنا لا زال مسجى في النعش
ـــ سأسكت إحتراما لوالدي
ــــ لنقرأ الفاتحة على روحه الطاهرة.
ــــ لنفعل ما تشاؤون، المسكين لم يرَ خبرا من أولاده، على الأقل ارحموه
وهو متوفٍّ
ـــ إنك لا تود قول شيء؟
ــــ ماذا علي أن أقول؟
ـــــ ألا ترى أن نعمل بوصيته؟
ــــ هل أنت متأكد؟
ــــ علينا إخبار تلك المرأة بموته، قبيل تشييع جنازته، لتلقي نظرة أخيرة
عليه
ـــ كيف احتفظ بسره كل هذه السنوات.
ــــ كل ما باح لي من أمرها ،
صارحتكم به
ـــ أمر غريب لهذه الوصية اللفظية؟
ـــ لقد أخبرتكم بما خصني به من
وصيته
ــــ ما هي مصلحته في هذا الأمر
ـــ أرمل يعيش وسط أولاده العزاب
ـــ علينا نقبل ذلك
ـــ البائس، كلف نفسه عناء المشقة طيلة أعوام عديدة
ــ أهكذا نكافئه؟ علينا تنفيذ وصيته
بحذافيرها.
ـــ أكان في وعي تام في أواخر
عمره.
ـــ لم يثبت أنه خرف أو أصيب حتى بنسيان، بل كان يحدثني في أمور متشعبة
تبرهن على رجاحة عقله واتزان شخصيته، وهذا رأي جميع جيرانه، وأقربائه، وكل زائريه
من معارفه.
ـــ كنت أنظف ظهره، قال لتخبر أبنائي أن لا يدفنوني إلا بعد مجيء امرأة،
لأفي بوعدي لها ووعد الحر دين عليه.
ـــ لم أكن أعلم ماذا علي أن أقول؟ قلت:
يا أبي العزيز ليحفظك الله مائة
عام أخرى لأبنائك، أمل أن تحضر زفاف أحفادك قال:
سوف تكون مديونا إن لم تخبرهم
قلت: هل أنت غاضب مني يا والدي
الغالي؟ هل فعلت أمرا سيئا؟ هل سئمت مني، قال:
يا طفلي أين شردت بذهنك؟
ـــ لا أحد منا شعر باحتضاره، كأنه في غفوته المعهودة، ولم أدرك وفاته، إلا
حين حضرت له شراب الزعتر البري.
ـــ الطيبون هكذا يموتون في هدوء تام.
ــــ يقولون إن الإنسان عندما يموت يظل تائها حول جثته ولا يهدأ له بال حتى
يدفن، (إكرام الميت دفنه).
ـــ والآن والدي العزيز هنا، ينظر
إلينا ويتحدث معنا، ولكننا لا نسمعه.
ـــ سوف يبقى أثره هنا ولن يزول أبدا.
ــــ يلزمنا تنفيذ وصيته
ـــــ سأذهب إليها، إنها على بعد شارعين فقط من هنا.
تمت
المغرب
اكتب تعليقاً