مصطفى الحاج حسين
** (تفتيش)..
قصة: مصطفى الحاج حسين.
انتشر الخبر في خيامنا.. سيادة النّقيب (إبراهيم برهوم)، مع مجموع الضّباط،
وصفّ الضّباط، والعرّيف الوحيد، في دورتنا (خالد).. هم في جولة تفقّدية، على
معسكرنا، نحن عناصر دورة الأغرار.. يقومون بالتّفتيش على خيامنا، ومصادرة كلّ شيء
مخالف.. هذا إلى جانب معاقبة، عناصر الخيمة، إن كانت الخيمة، غير نظيفة، أو
مرتّبة.
فهرعنا.. للتّنظيف، وللتطبيق، وللترتيب، ولباسنا النّظامي، وإلى حلاقة
ذقوننا، وتلميع (أبّواطنا) .. وإلى التّأهب، لاستقبال جميع القادمين.
سيطلبون منّي أن أسمعهم شعراً، لذلك عليّ أن أنتهي بسرعة، من تنظيم أغراضي،
وترتيب نفسي، ثمّ لأجهّز لهم قصيدة.
سمعنا من زملائنا، أن التّدقيق، والتّفتيش، كان دقيقاً، وإن المصادرات،
كانت كثيرة، على كلّ ما هو مخالف، (كالرّاديو)، و(ورق الشّدة)، و(المسابح)،
و(الجمدانات).. فصرنا نخفي، أو نرمي كلّ ما يمكن أن يعرّضنا للمسائلة، أو
العقوبة.. فقد كان العرّيف (خالد) يسجل أسماء المخالفين، في قائمة، لتتمّ
معاقبتهم، بعد الانتهاء من التّفتيش.
الحمد لله، أنا إنسان نظامي، لا أملك شيئاً مخالفاً، إلّا كتبي، التي سمحوا
لي بها.. وهم يقومون باستعارتها منّي.
انتصف النّهار، ونحن في خيمتنا، ننتظر دورنا، واقترب موعد تناول الغداء..
وكان.. الكثير منّا، من يشعر، بالتّوتر والقلق، رغم معرفتنا بأنّنا نظاميّون، وجاهزون.
اقترب دورنا، ووصلوا إلى الخيمة المجاورة.. وكنّا نراقب، ونرهف السّمع،
ونسأل، ونستفسر، ونجلس كلّ في مكانه، منقطعي الأنفاس، والصّوت، والحركة.
وأخيراً وصلوا إلى خيمتنا، فنهضنا ونحن في أماكننا، قدّمنا لهم التحيّة
العسكريّة.. كان عددهم ليس بالقليل، عيونهم تتفحّص المكان.. كان على كلّ واحد
فينا، أن يخضع، وأغراضه، وكلّ ما يحوذه، للتفتيش الدّقيق، والصّارم، والشّامل..
حيث أفرغ، كلّ واحد منّا، أغراضه، أمامه على الأرض التّرابية.
كانت خيمتنا والحمد لله، جميعها نظاميّة.. لا ملاحظة علينا.. لذلك سرّ
منّا، سيادة النّقيب (إبراهيم برهوم).. وابتسم.. وكلّمني:
- كيف حال شاعرنا؟.. هل تشكو من شيء؟.
- الحمد لله سيّدي.. أنا بألف خير.
- ما هي آخر كتاباتك؟.
- لا بأس.. ولكن من الصّعب، الكتابة في مثل هذه الظّروف.. خيمة، فيها عشرة
أشخاص، وبدون كهرباء، وانقطاع عن القراءة، ودروس، وتدريب، واجتماعات، وتفتيش.. كلّ
هذا، لا يتناسب مع كتابة الشّعر.. الشّعر بحاجة لهدوء، وتأمَّل.
- لكنّه.. تجربة جديدة عليك.. ألم تشتاق لأهلك، وحبيبتك، وبلدك؟.
- بالتأكيد سيدي.. وقبل قليل كتبت قصيدة.. وأنتم تقومون بجولتكم.
- جميل.. هات وأسمعنا، ما كتبت.
كانوا جميعهم يقفون وسط الخيمة.. وعند بابها.. وابتساماتهم لا تفارق
وجوههم، كما أنها لا تفارق شفاه رفاقي، فتناولت دفتري، وبدأت أقرأ:
- (عينان)...
تكحّلي من رمادِ أدمعي
من نزيفِ أحلامي
من دمي المحروق
تكحّلي من كآبتي
من آهتي
من نبضي المهووس
واغرزي رموشكِ كالحرابِ ببسمتي
وحدّقي بي طويلاً لأسقط
محموم الفؤاد
مخدّش الصّوت
راعف العينين
أشاهدُ أقماراً تتمسّح بقدميكِ
وشموساً تشحذُ الضّوء من عينيكِ
سمراء كالبرقِ
تشقّ قلبي وتدخلُ
لتأمرني بالكتابة.*
صفْقوا لي، النّقيب، والضّباط، وصفّ الضّباط، وأهل خيمتي.. وهتف الملازم أوّلَ
(خضر)، وهو يبتسم:
- جميلة.. ولكن.. لو تكتب عن الوطن، وعن سيادة الرّئيس، يكون ذلك أفضل،
وأحلى. قلت:
- سيّدي.. من لا يكتب عن الحبّ، مستحيل عليه، أن يستطيع الكتابة عن الوطن،
وقائده.
بعد أن غادروا خيمتنا، وانتقلوا للخيمة المجاورة.. جلست فوق مخدّة النّوم..
وأشعلت سيجارة، وسرحت في خيالي من معسكر (تسيل)، الواقع على الحدود، مع الأعداء،
إلى حلب.. حيث الأهل، والأصدقاء، وأبي الذي تركته، يعارك الأحجار، بمفرده.. صرت
أحنّ إلى الشغل معه.. وندمت على خلافاتي، الكثيرة، التي دارت بيننا.. وأخذت أردد
بداخلي:
- سامحني يا أبي، كنت لا أقدّر ظروفك.
فجأة.. انبعث صوت النّقيب (إبراهيم)، وكان حاداً، ومنفعلاً، ومستغرباً، وهو
يصرخ:
- ما هذا؟!.. قل لي!!.. يا حيوان!.
تراكض بعض رفاقي، ليفهموا ماذا يحدث، في الخيمة المجاورة.
وأنا بدوي نهضت، ورميت بسيجارتي، ووقفت عند باب خيمتي، المشرع على سعته.
واقترب منّي زميلي (نورس حماد)، الذي عرف معلومات، عن ما يحصل في الخيمة
المجاورة، وهمس:
- وقع المسكين.. كان الله في عونه.
قلت مستفسراً:
- خير!!.. من هو الذي وقع؟.
- (محمد حج علي).. وقع في ورطة كبيرة.
قلت، وأنا في غاية القلق، والاستغراب:
- ما به (الحج علي)؟!. قال:
- تعال.. اقترب.. لتفهم.
خطوت نحو الخيمة الثّانية.. نظرت من على بعد، من خلال فتحة الباب..
المكتظّة بالضّباط، وصفّ الضّباط، وكان النّقيب (إبراهيم)، يسأل بعصبيّة، ويحمل
بيده دفتراً، ينظر إليه:
- ما هذا يا جحش.. يا بغل.. يا حمار.. يا حيوان.. يا بهيم.. يا قليل الفهم،
والذوق؟!.
وكان (محمد حج على)، شاحب الوجه، يرتجف، ويحاول أن يجيب، بصوت مرتعش،
ومضطرب، ومتلعثم:
- سيّدي.. أنا أحبّ الرّسم، وكنت أتسلّى.
- تتسلّى يا ابن الحرام؟!.
ثمّ خرج (النّقيب)، من الخيمة، وتبعه كلّ من كان برفقته.. وطلب من (الحج
علي) مرافقته.. ووقفوا في السّاحة، وأمر (النّقيب)، بجمع عناصر الدّورة، وانبعثَت
الأصوات، من كلّ صوب، تهتفُ بقوة:
- اجتماع.. اجتماع.
وخرجوا عناصر الدّورة، وتراكضوا، وتزاحموا، واصطفّوا، وبسرعة أكتمل
الاجتماع.. والتفت النّقيب (إبراهيم) إلى الملازم أوّل (خضر)، وقال:
- باشر مهمّتك، يا سيادة الملازم أوّل، (خضر)، وتَرَكَ الاجتماع، وانصرف.
تحرّك الملازم أوّل (خضر)، ضابط أمن دورة الأغرار.. وأشار بيده، (لمحمد حج
علي)، قائلاً:
- اقترب إلى هنا.. يا حقير.
فخطا، نحو الملازم أوّل، بذل، وانكساري ورعب، وكانت دمعته في عينيّه، أكبر
من جبل عظيم.
نظر إليه الملازم أوّل (خضر).. تأمّله بشكل جيّد.. وصاح يأمره:
- اخلع ثيابك يا قرد.. وقّف أمامي، وأنت في (الشّرط).
وباشر (محمد حج علي) بخلع ملابسه، وبوطه العسكريّ.. وجسده يرتعشُ، مع أنّ
الجوّ ملتهب.. وزعق الضّابط:
- عجّل.. بسرعة يا قذر.
وتسارعت وتيرة زميلنا، بخلع ملابسه.. حتّى فرغ، ورماها إلى جواره، على
الأرض، التّرابية، ذات الأشواك اللاذعة.
ووقف.. باستعداد أمام الملازم أوّل.. وعيناه تتوسّلان، فرصة للكلام.
لكنّ الأمر جاءه، صارماً، وعنيفاً، وبلا شفقة، أو رحمة:
- انبطح على الأرض يا حيوان.. وضع يديك خلف ظهرك.
وما كان من (محمد حج علي)، إلّا أن يمتثل للأوامر.
ثمّ راح الملازم أوّل (خضر)، يخاطبنا، نحن عناصر دورة الأغرار:
- هل تعرفون ماذا فعل هذا الكلب؟.. إنّه تجرّأ، وبكلّ صفاقة، وحقارة،
ونذالة، وقلّة ذوق، ودون أيّ وازع، من ضمير، أو أخلاق، أو شرف، أو وجدان، أو
مسؤولية.. قام هذا الخائنُ، والجبانُ، والعميل، والمأجور.. برسم لحية لسيادة
القائد (المفدّى)، على صورته، الموجودة على الدّفاتر..
انظروا كيف..
ورفع يده بالدّفتر، الذي كان يحمله، وشاهدنا.. دفتراً موجوداً عند كل واحد
منّا، من فئة، المائة صفحة، مطبوع على غلافه، صورة السّيد (الرئيس)، بشكل دائريّ،
وقام المدعو، (محمد حج علي)، وبقلم الرّصاص، برسم لحية، على صورة الرئيس.
وتابع، سيادة الملازم أوّل، كلامه المؤثر، والمعبّر، وبصوته المدفعيّ،
الرّنان، والهادر، موجّهاً كلامه لنا:
- ما رأيكم.. يا جنود الوطن الأشاوس؟! هل يقتنع أحد منكم، إنّ ما أقدم عليه
زميلكم، الخنزير هذا.. كان بدافع التّسلية، وصدر عن نفس بريئة، ونبيلة؟!.. أم هذا
الذي يقف قبالكم، هو خائن حقير، ومأجور؟.
الصمت كان مخبأنا، والخوف يحتضن قلوبنا، والدّمع كان ينزف من أنفاسَنا،
كلنّا يعرف (محمد حج علي)، إنسان مهذب، ومحترم، وهو بالتّأكيد لا يقصد ما توصل
إليه ضباطنا الأكارم، لكن من يجرؤ ويدافع عنه؟!.. المسكين وقع في ورطة هائلة
الحجم، وفظيعة، ونحن لا نعرف ماذا ستكون نهايتها؟!.
منبطح على الأرض، يديّه خلف ظهره، ووجهه معفّر بالتّراب، وممنوع عليه أن
يتوسّل، أن يرجو، أن يتكلّم، أن يوضّح، أن يشرح، أن يبرّأ نفسه، أن يدافع عن حاله.
تراه بماذا يفكّر الآن؟!.. بماذا يحسّ ويشعر؟!.. مؤكّد أنّه يناجي الله،
ويرجوه، ويبتهل إليه، ليبعث له فرجاً، لا أحد سوى الله، يستطيع التّدخل، ومساعدته.
كيف وقع في هذه الغلطة؟!.. ألم يخطر بباله أنّ هذا ممنوع؟!.. ولماذا لم
يمزق غلاف الدفتر، أو يتخلّص من دفتره، قبل وصول التفتيش، إلى خيمته؟!.
هل هو غبيّ؟!.. ضعيف الذكاء؟!.. مغفّل؟!.. أبله؟!.. ساذج؟!.
أم أنّه ينتمي للإخوان المسلمين؟!.. وبلا شعور منه، رسم اللحية لسيادة
(الرّئيس).. ولكن لا.. لا أظنّ أنّ له علاقة بالإخوان.. قد يكون يكره
الرّئيس، ولكنّ كرهه لا علاقة له بالإخوان، مثله، مثل معظم الشّعب.
على مرّ الأزمنةِ، والعصور، والتّاريخ، والأحقاب.. والأيّام.. يكون
الطّاغية، والدْكتاتور مكروهاً من قبل شعبه وناسه.. دون أن ينتسبوا إلى أحزاب، أو
ديانات، أو طوائف.. ومن غير أن يفهموا مثقال ذرة في السّياسة.. إنّهم بشكل عفويّ،
يحاربون الظّلم، والقهر، ويبحثون عن حرّيتهم، وكرامتهم.
ثمّ ما فائدته إن أضاف لسيادة الرئيس لحية؟!.. هل كان يتمناه أن يكون من
الإخوان؟!.. بالتّأكيد هذا مستبعد، وغير معقول.
الملازم أوّل (خضر)، ينظر إلينا، يقرأ صمتُنا، يحلّل مرارتنا، وينتظر أجوبة
على أسئلته.. ونحن غارقون بحيرتنا، ورعبتنا.
أمر بإحضار (دولاب) ، و(كبل رباعي)، وأشرس (اثنان) من بيننا.. و(محد علي)
بصوته الباكي، يحاول أن يخاطب الملازم أوّل:
- يا سيّدي.. أرجوك.. أتوسّل إليك.. اسمعني.. أمنحني فرصة للكلام.
لكنّ العرّيف (خالد)، انحنى فوقه، وحشره (بالدّولاب)، فصار رأسه للأسفل،
وقدميه إلى الأعلى.. وبعد أن أعطاه (الملازم أوّل) الإذن، تناول (الكبل الرباعي)،
وانهال على قدميه.. غير عابئ بصراخ (محمد حج علي)، وتوسّلاته.
وتعالى صوت التّوجع، والألم، والأنين، والتّأوهات، والدّمع، والتّوسلات،
والتْرجي، وتجمّع غيم أيلول، في السّماء، وانبثقَ الدّم من أقدام الرّعد، وتمزّقُ
البرق، وتناثر القهر.. ودمعت عيوننا، دون أن يلاحظها الملازم أوّل (خضر)، بينما
العرّيف (خالد)، منهمك في جلد، (محمد حج العلي)، المغمى عليه.
وتبرّع العديد من أبناء دورتنا، لإحضار الماء، لرشّه على وجه، وجسد،
وقدميّ، زميلهم (محمد حج علي)، ليصحو ويستعيد وعيه، ليتجدّد تعذيبه، على يد، حضرة
العرّيف (خالد).
وصاح الملازم أول خضر، بعد أن أشار للعريف خالد ليتوقف عن ضرب محمد علي،
وتوجّه إلينا بسؤال:
- من منكم، يقترح علينا، عقوبة تناسب، جرم زميلكم الخائن؟.. أريد عقوبة
يستحقْها، عن جدارةٍ، لا ينساها مدى العمر.
وارتفعت أيادي كثيرة، من أيدينا.. وبدأت الاقتراحات، وانهالت الأفكار
العبقريّة.. وتزاحمت الخيالات،
والتّصورات.
وصاح الملازم أوّل، وهو في أوج، الجدّية:
- كلّ واحد فيكم، يكون اقتراحه، حسب محبّته، لسيادة الرّئيس.. فكلْما كانت
المحبّة أكثر، كانت العقوبة، أشدّ، وأقوى، وأقسى.
وكانت الاقتراحات، على الشّكل التّالي:
- أقترح أن نربطه بالشّجرة، ثمّ نقوم بالبصق عليه.
- فكرتي.. أن نحفر، حفرة وسط الباحة، وندفنه إلى رأسه، ثمّ ندوس عليه.
- ما رأيكم سيّدي الملازم أوّل، أن نطمره في دورة المياه، لمدّة ثلاثة
أيام، يأكل، ويشرب، وينام هناك؟.
وأعجب الملازم أوّل بالفكرة، فقال أنت يا عسكري.. ما اسمك؟.. لقد راقت لي
فكرتك.
- أنا يا سيّدي اسمي.. (ناظم معلّا).
- أحسنت يا (ناظم)، أنت حقاً تحبّ سيادة الرّئيس.
وصرخ الضّابط:
- مجموع دورة الأغرار.. انتبه.
- الآنَ سنذهب لفرصة الغداء.. ثمّ نعود ونجتمع هنا.
ما إن دخل الملازم أوّل (خضر)، خيمته لتناول الغداء، حتّى خرج الرائد (عاطف
الشومري)، من مكتبه، وسار لعند (محمد حج العلي)، الذي ظلّ في حالة، انبطاح على
الأرض، ويديه خلف ظهره، كما كانت الأوامر، فهو ممنوع من تناول الطعام، وبقيّ تحت
المراقبة، إن صدرت منه أيّة حزكة.. وحين وصل إليه قائد دورتنا.. وقف بالقرب منه
يتأمْله للحظة، ثم أمره أن ينهض ويقف على قدميه المتورّمتين، والنازفتين، دماً
متفجراً.
- لعنة الله عليك، كم أنت غبيّ، يا عسكري.. ماذا فعلت بنفسك؟!.. انظر إلى
حالك!.. صار الكلب أكثر جمالاً منك
- سيْدي.. والله لم أكن أقصد.. كنت أتسلّى، لا أكثر.
- أخرس يا مغفّل.. هل تتسلّى بصورة الرْئيس؟!.. لو كانت صورة أبيك.. هل كنت
تسلّيت بها هكذا؟!.. مهما فعله الملازم أوّل (خضر) بك هذا قليل.. وهذا من اختصاصه،
فهو ضابط أمن الدّورة.. وأنا لا علاقة لي بعمله.
- سيّدي.. أرجوك.. سامحني.
- قلت لك لا علاقة لي بك.. ولكن سأسمح لك بتناول الطّعام.. ثمّ عد وانبطح،
قبل مجيء الملازم أوّل إليك.
ثمّ أمر، العناصر الذين يتحلّقون، حول زميلهم المعاقب:
- أحضروا له (قصعته)، وقدّموا له الطعام.. بسرعة.
ثمّ تركه، ومشى، باتجاه مكتبه.
وركض واحد من أهل خيمته.. ليحضر له، من الخيمة (قصعته)، ليملأها له
بالطعام.
كنّا ونحن نأكل، ننظر إليه بأسى وحزن، ونتمنّى مساعدته.. ولكنّنا عاجزون..
طالما قائد الدّورة بذاته، يعجز عن مساعدته.
طلب من زملائه ماء، بعد أن تناول بضع لقيمات.. ثمّ عاد وانبطح، على الأرض،
ووضع يديه، خلفه، كما كان في السّابق
أشعلت سيجارة، وأنا أتدارى، من أشعة الشّمس، تحت ظلّ الشّجرة الضخمة، بعد
أن توقّفت المطر عن الهطول.. وأخذت أدعو ربي ألّا يوقعني بغلطة، تجرّني لمثل هذا
المصير.. وقرّرت أن أنافق، طوال ما أنا في الخدمة العسكريّة.. هناك مثل يردّده أبي
كثيراً، ( عسكريّة دبّر رأسك)، وأنا سأدبّر رأسي.. وأنافق، وأكذب.. والشّعر هو
سلاحي.. هنا لا أحد يعرفني، أو يراني، ولن أخبر أهلي، وأصدقائي، بما فعلت، ثم
سأمزّق كلّ ما كتبته من قصائد، كاذبة لا تمثّلني.
وجاءت اللحظة الحاسمة، فها هو الملازم أوّل، والعرّيف (خالد) قادمان،
ويحملان بأيديهما، السّوط الرّباعي.
- انتبه.. استرح.. استعد.. إلى وراء الخيم.. حيث (مراحيض) الدّورة.. سر.
وانهضوا (محمد حج علي).. وسحبوه.
عندنا (مراحيض) متنقلة، نستخدمها في الدّورة.. نحفر حفرة، ونرّكب عليها
(مرحاضاً) خشبيّاً متنقلاً، وحين تمتلأ الحفرة بالبراز، نطمرها بالتّراب، وننتقل
إلى حفرةٍ جديدة.
كان (محمد حج علي)، يرجوا الملازم أوْل، ويتوسل، ويحاول أن ينكب على بوطه
العسكريّ، لكنّ الملازم أوّل (خضر)، كان يزجره، وينهيه، ويبعده عنه، بضربة قويّة،
من سوطه.
قادوه إلى حفرةٍ (المرحاض)، المليئة بالقذارة، كما يقاد المجرم إلى مقصلة
الإعدام.. كان الشّوك يبكي تعاطفاً معه، والأرض تئنّ تحت وقعخطواته، الثّقيلة،
والسّماء ترمش بعينيها الدّامعتين..(وناظم معلّا)، صاحب الفكرة الحقيرة، يمشي
بيننا بفرح وخيلاء، باعتبار أنّه أكثرنا محبّة، لسيادة الرّئيس.. من منّا يجرؤ
ويبصق عليه؟.. من يستطيع حتّى لومه، كيف له أن يرضى، لزميله مثل، هذه العقوبة
الفظيعة؟!.
وقف عند حافة (الجورة)، توسّلاته لم تتوقّف، دموعه مستمرّة بالتّدفق، رعشة
جسده لا تفارقه.. كانت الرّائحة المنبعثة، من الحفرة، كريهة لا تطاق.. و(والبقّ،
والبراغيث، والحشرات، والجرذان) المتلصّصة، تنتظر قدوم (محمد حج علي)، لتفتك به.
وصدر عن الملازم أوّل (خضر)، صوت غليظ، ٠وخشن:
- ( محمد حج علي)، انزل إلى الحفرة، ولا تخرج منها، إلّا بأمر منّي. هيا
نفّذ.
- يا سيّدي.. أرجوك.. (أبوس) بوطك..
لم يتركه العرّيف (خالد) يكمل كلامه، فقد دفعه بيده، وسقط في الحفرة.
وغاص (محمد حج على)، في الحفرة الممتلئة (بالبراز والبول)، وحين فتح فمه ليصرخ،
غرق فمه وتبلل وجهه، فأخذ يشهق، وكأنه يغرق، وتصاعدت رائحة فظيعة بالبشاعة،
وانبعثَت ضحكة قذرة من، (ناظم معلّا)، وكأنّه يشمت برفيقه.. وسددنا أنوفنا
بأصابعنا، وحاولنا أن نبتعد، مع آلامنا، ودمعنا المحبوس.. وصاح الملازم أوّل،
مخاطباً (محمد حج علي):
- الآنَ.. هنا يمكنك أن تمارس هوايتك، وتتسلّى.
وفجأة.. ظهر من خلف الخيم، (الرّائد عاطف الشّومري)، قائد الدّورة، ومعه
جميع الضّباط، النّقيب (إبراهيم)، والملازم أوّل (حسن عوض)، والملازم أوّل (فضل)،
والملازم (حسام الدّين)، وحضرات صفّ الضّباط، (مصطفى قاقو)، و(حيدر حيدر)،
والرّقيب أوّل (عبد الكريم)، والمساعد أوّل، مسؤول المهمات، في الدّورة.
كنّا نراقب خطواتهم، وهي تقترب منّا.. الوجوه كانت عابسة، قاسية، ذات نظرات
حانقة.. وقف سيادة الرّائد، تطلّع إلى الحفرة، التي يسبح بها، المجند، (محمد حج
علي)، ثمّ التفت إلى، الملازم أوّل (خضر)، وسأله:
- ما هذا يا سيادة الملازم أوّل؟!.. هل هذا معقول؟!.. ألا تخاف من ربّك؟!..
هذا حرام والله.. إنّ هذا الذي تعاقبه جندي في الجيش العربي السوري.. ونحن هنا
جئنا لندرب دورة الأغرار.. نعلّمهم، نشرح لهم، ندربهم، نساعدهم على تجاوز
مشاكلهم.. لا أن نحطمهم، ونجعلهم يكرهون الوطن.
كانت.. كلمات الرّائد، على الملازم أوّل، لها وقع مزعج، وغير متوقّع..
فصاح:
- ألم تعرف ماذا فعل يا سيادة الرّائد؟!.
قال الرّائد:
- عرفت.. والله عرفت.. وهو يستحقّ عقوبة.. ولكن ليس بهذا الشّكل يا أخي،
اعتبره أخوك الصّغير، وأخطأ، هل نقتله؟!.. أم علينا أن نفهمه مدى غلطه.. وننصحه.
- سيّدي.. أنا أراه، يستحقّ الموت بفعلته، فهو من المؤكّد، له علاقة،
بالإخوان المسلمين.
استدار الرّائد، إلى العرّيف (خالد)، وأمره:
- أخرجوه من الحفرة، وخذو به للاستحمام.
وأراد الملازم أوّل، أن يحتجّ، فهتف:
- ولكن يا سيّدي.. أنا سأكتب تقريراً، في هذا الشّأن.
وبعد أيّام قليلة، وصلت دوريّة من الأمن، وقبضت على (محمد حج علي)،
واقتادته، وغابت عنّا أخباره.. ثمّ، تمّ نقل الرّائد (عاطف)، إلى بلدته (درعا)،
وجاءنا قائد جديد إلى الدّورة، العقيد الرْكن (عبّود عبّود).
مصطفى الحاج حسين.
إسطنبول