جاري تحميل ... ألف ياء

إعلان الرئيسية

إعلان

عاجل

إعلان في أعلي التدوينة

جديد علَّم نفسك

 

سعيد البشير

الأم



 كانت فرحة الأم تتدفق من قلبها لتسعد الدنيا بأكملها، وهي تستقبل مولودها الأول بين ذراعيها، فبدأت تهلل وتكبر وتزغرد كي تسمع الدنيا بكل مخلوقاتها معزوفتها السعيدة، وتعيد لها فرحتها المغتصبة، وكأنها نست أو تناست أن هناك مخلوقات سوداوية ظلامية تخنقها الفرحة ويعميها النور.

 فعلى مسافة بعيدة من كوخها المتواضع بين الحقول، ينتصب قصر الطاغية في ضخامة وفخامة لا بعدهما.

 ورغم أن أحدا لا يعلم من أين أتى، إلا أنه جاء وكفى، فاستعبد الناس، وتحكم وتجبر وطغى ... وأفسد وخرب وسفك الدماء ... وأحزن الدنيا وحرم الأفراح خوفا من نبوءة العرافين.

 ولهذا فما إن وصل إليه خبر المولود وأحس بتدفق النور والفرحة من جديد حتى مادت به الأرض و دارت به الدنيا، وسرت بأوصاله رجفة الموت، أهو الصبي الذي سيقتله أمام الناس كما تنبأ العرافون؟

 نعم.. فكما قال العرافون: صبي ولا أجمل منه، يملأ الدنيا فرحا كما يملأها عدلا، بعد أن يهشم رأس الحاكم أمام الملأ.

  وبالفعل فها هي ذي فرحة ولادته تملأ الدنيا، وكما نقلت إليه العيون، فالصبي يبهر بجماله كل من يراه.

 وتحرك الطاغية قبل فوات الأوان، وأمر بقتل المولود، وتحرك الحراس قبل أن يحل غضبه عليهم، وعندما وصلوا عند الأم، لم يمهلوها حتى تنتهي من إرضاع مولودها، بل انتزعوه من بين ذراعيها انتزاعا.

 ذهلت الأم.. استعطفت.. دافعت.. قاومت.. قاتلت.. لكن عدد الجنود كان في تزايد، وتصميمهم على تنفيذ أمر سيدهم، جعل تكالبهم عليها يغلب مقاومتها، فتمكنوا من أخذ الوليد وقتلوه أمام عينيها، ورحلوا..

 اعتصر الحزن فؤادها، وسالت الدموع أودية من مقلتيها، وهمت أن تفعل الأفاعيل: أن تصرخ، أن تقتل، أن تدمر..

 لكنها فجأة، كما البرق يخطف الأبصار، وكما الموت ينهي الاحتضار، وفي لمح بالبصر، هزت رأسها هزة خفيفة، فجفت دموعها، وتحرر فؤادها، وبان الانشراح على تقاسيم وجهها، وأصبحت حركاتها رشيقة جدا، فأخذت شهيدها بين يديها، وذهبت به إلى الحقل الفسيح، ودفنته هناك بين الزيتونات والكرمات وكأنها تتمتم بكلمات مبهمة ودون أن تجعل للقبر شاهدا عليه.

 لكنها قبل أن تودع القبر نظرت نحو السماء نظرات ذات مغزى، فيها من القوة ما فيها من الحنو، وفيها من الصمود ما فيها من الأمل، ثم ابتسمت ...

 ومرت سنة كاملة، وولدت مولودها الثاني، وكان جماله ونوره كالأول وأكثر، وكان ارتعاب الطاغية وجنونه كالأول وأكثر، وكان الظلمة وجنايتهم كالأول وأكثر، وكان قتال الأم وصمودها كالأول وأكثر.

 وكان فعلها كالأول، فلما وارت شهيدها تحت الثرى دون نبس أو شاهد، وقبل أن تنصرف عنه، نظرت نحو السماء نظراتها، ثم ابتسمت ...

 ومرت سنة أخرى توأما سياميا لسابقتيها، وأخرى وأخرى مثلها، وفي كل سنة تبتسم الأم، إلا أنه ومع انقضاء كل سنة يتقلص عندها زمن ومكان الابتسامة.

 وجاءت سنة أخرى مختلفة عن أخواتها، فهذه المرة ولدت الأم طفلين دفعة واحدة، وجاء حراس الطاغية كعادتهم، وقتلوا طفلها كعادتهم، وانصرفوا كعادتهم. لكنهم لم ينتبهوا أبدا إلى الحياة الأخرى المخبأة بين ثيابها.

 ولذا وما إن تواروا عن نظرها، حتى دفنت شهيدها بسرعة وخفة وابتسامة مضاعفة محت الحزن المستقر على وجهها، وعادت مهرولة لكوخها تحنو على عتيقها وتطعمه وتدفئه، وتسعد بقربه لأيام وأيام.

 لكنها ومع مرور الوقت بدأت تخشى عليه من أن يصل خبره إلى الطاغية فيقتله كما إخوته، فهداها تفكرها الطويل إلى حل أقنعها وأراحها.

 وكان هناك عطار متجول مطلع على كل الأحوال يأتي من بلاد بعيدة، يزور الجهات الأربع، ويمر على الأم مرة في السنة، يجلب لها مقتنيات مختلفة فيقايضها بما زاد على حاجتها من محصول الحقل.

 وقد حضر في موعده، فسلمته الأم عتيقها بعد توكيد الأيمان، فمضى به متعهدا بالحفظ الرعاية.

 ومضت سنة أخرى فسقط شهيد آخر، ورحل عتيق آخر.. وتتابعت بعد ذلك السنون تترا، تنعي الشهداء، وتنجي العتقاء..

 وفيما كانت تلك السنون في جانب، تبصم أثرها على الأم، فقد ابيض الشعر بعد السواد، واخشن الجلد بعد الرطوبة، وانحنى الظهر بعد الاستقامة، ووهن العظم بعد الصلابة. إلا أنها رغم كل ذلك فقد ظلت ودودا ولودا.

 وعلى عكسها في الجانب الآخر، فالسنون لم تزد الطاغية إلا قوة وصلابة وشبابا، وكأنه يختلس قوته من وهن الأم وشبابه من شيخوختها، فلم يزده ذلك إلا طغيانا وتجبرا وظلما عظيما.

 وهكذا عام بعد آخر ... إلى أن جاء عام كان هو الفاروق بين ما سبق وما لحق.

 فقد ولدت الأم كما العادة طفلين، وترك الظلام بعد رحيلهم شهيدا وعتيقا، فتحاملت على نفسها ودفنت الأول ورعت الثاني في انتظار العطار.

 ومرت الأيام وهي تنتظر، ومرت الأسابيع وهي تنتظر، ولما مرت شهور، انكشف سرها، فنقلته العيون إلى الطاغية الذي هاج وماج، وأرعد وأزبد، وأمر، وأمره لا يعصى، بأن يقتل العتيق وأمه عيانا جهارا، كي لا يأتي مستقبلا أي مولود أبدا.

 ولم يرحم القساة شيخوخة الأم ولا براءة العتيق بين يديها، فجروها جرا إلى الساحة الكبرى أمام قصر الطاغية، وجمعوا كل المستعبدين للتفرج، كي يكون مصير الأم عبرة تخنق الأنفاس المتطلعة للحرية والانعتاق من براثن الظلم.

 والكل شاهد، ألقيت الأم ووليدها وسط الساحة، وأحاط بها الجلادون من كل جانب.

وبينما يتأهبون لارتكاب المجزرة، صاح فيهم الطاغية أن ابتعدوا عنهما واتركوهما لي وحدي، فقد وصل، لحظتها، جبروته وإجرامه منتهاهما، بحيث أمليا عليه أن خلاصه وراحته لن يتما إلا عندما يقتل الأم وابنها بيديه.

 وكان أن تقدم نحوهما متبخترا متعجرفا، ومع كل خطوة يخطوها كانت السماء تكفهر، والدنيا تسود.

 ولما وقف على رأسها وانتزع وليدها انتزاعا ليقتله، استجمعت الأم لحظتها قواها وصرخت صرخة مدوية، وقبل اكتمال صرختها بدأت الأمور تتبدل بشكل عجيب، فقد انشرحت السماء بعد الاكفهرار، وأضاءت الدنيا بعد الظلام، وامتلأ قلب الأم فرحة وسرورا.

 وتطلعت بعينيها نحو الجهة التي أحست أن النور والسرور يتدفقان منها، وتطلع الجميع معها مبهورين بشمس آتية..

 وبدأت الشمس في الاقتراب حتى غمرت المكان بأكمله، وظهر بوسطها عدد من الشبان والفتيان ولا أجمل ولا أقوى منهم، يحملون فوق أكتافهم العطار العجوز. وتقدموا واحدا تلو الآخر نحو الأم يقبلون رأسها ويديها، والتفتوا بعد ذلك نحو الطاغية، الذي بقي متسمرا في مكانه، وأخذوا منه أخاهم.

 وفي نفس اللحظة أحس المستضعفون أن حجاب الخوف والرهبة قد تمزق، وآمنوا في أنفسهم بقوة هائلة، فانقضوا على كلاب الطاغية يفتكون بهم، حتى لم يتركوهم إلا قتيلا أو هاربا لا يلوي على شيء أو مستسلما تائبا نادما على ضلاله.

 أما الطاغية الجبار، فإن أولاد الأم لم يهشموا رأسه فقط، بل مزقوه أشلاء بعدد الشهداء.

 وحدث أمر عجيب بعد ذلك، فبمجرد مقتل الطاغية، وكما الأرض تحييها الأمطار...

 استقامت الأم واقفة بشموخ، وعاد إليها شبابها ونضارتها كأجمل من الأول، ونظرت إلى السماء هذه المرة نظرات غير مبهمة، ملؤها الحمد والشكر والثناء، ثم ابتسمت.. وضحكت..

سعيد البشير


***********************


***********************

إعلان في أسفل التدوينة

اتصل بنا

نموذج الاتصال

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *