القرد الإله
عبد الكريم علمي
عبد الكريم علميقصة قصيرة: القرد الإله.
... ولأن الغابة خلت من الفُحول، ويسكنها الحمير والبغال والخنازير
والقرود، والعنز والبقر والأرانب والدجاج وخشاش الأرض، وكل الحيوانات الضعيفة...،
فقد أصبحوا نَهْبًا للحيوانات الكاسرة من الضِّباع والتماسيح، والنمور والفهود
والذئاب، والكلاب البَرِّيَّة الضَّالَّة... .
ولأن الوضع في الغابة استحال أن يُطاق ويُحتمل، فإن بقرها وحميرها وبغالها
وقرودها وخنازيرها...، اجتمعوا وتدارسوا وضعهم وحالهم، وقرروا البحث عن أسد يحكمهم
ويحميهم ويقودهم، بحثوا كثيرا وفي كل غابات الدنيا، وكل الأسود التي تواصلوا معها
رفضت العرض، وحُجتهم أنهم يأنفون ويتقززون أن تكون رعيتها الحمير والبغال،
والخنازير والقرود، والبقر والعنز وخشاش الأرض... .
فقرروا بعد استحالة رجائهم ورغبتهم، أن يُعَيِّنُوا ويُنَصِّبوا حاكما
عليهم من أنفسهم، إما قردا أو خنزيرا أو حمارا أو بغلا أو عجلا من البقر...، وبعد
مشاورات حثيثة ونقاشات عديدة عقيمة لأيام عديدة، اختلط فيها النهيق بالشحيج،
بالخوار، بالقحقحة، بالثغاء، بالصراخ والصِّياح، مع مصادمات عنيفة دامية بالرَّكل والعَضِّ، والنَّطح والصَّفع
واللَّطم...، ينتهي اجتماعهم دائما بهذه الصورة والكيفية.
استطاعوا بعد وقت طويل، وبعد أخذ ورد وشد وجذب، وعلى ما كان من أمرهم
وحالهم، وعلى مضض من غالبيتهم، أن يُوَلُّوا قردا لهذه المهمة العظيمة، بعد أن
توسَّم فيه بعضهم النباهة والفطنة والحذق والذكاء.
ولم تكد تمضي أيام قليلة حتى سامهم
الخسف وسوء العذاب، واستعبدهم وأذلَّهم، وفرض عليهم الركوع والسجود له، وتقبيل
يديه ورجليه والتمسح بشعر ذيله، وجعل حُلفاءه كل قرود غابات الدنيا وخنازيرها،
وأينما كانوا وحيثما حَلُّوا وارتحلوا ليستقوي بهم، فزادوه رهقا، ولم يألوه خبالا.
انزعجوا في البداية من قرارات قردهم المعيبة المأفونة الذميمة، وتقززوا
وتأففوا وأنفوا من سلوكاته الشاذة اللعينة، وأملوا انصلاح حاله واهتدائه، بعد أن
أفتى لهم كبير دراويشهم أبو جحشان وزمرته من الحمير والبغال والخنازير والكلاب،
بضرورة طاعة ولي الأمر العظيم المُهاب، وحُرمة عصيانه والخروج عليه مهما تكن
الدواعي والأسباب، ولو جاهر بالمعاصي واقترف المخازي والآفات، جهارا نهارا دون خوف
ولا رهبة من رب البريات، ولا استتار ولا حياء من جميع المخلوقات، ولو ارتدَّ عن
دين الأمة بصريح إعلانه الواضح الذي لا لُبس فيه ولا التواءات، وبإجماع أهل الحل
والعقد وكل الخلائق والبريَّات، وأنه مُطلق الصلاحيات، وإن عضَّ ظهرك وأكل ذيلك أو
رِجْلَكَ أو ذراعك أو ما شاء فعل من منكرات ومُوبقات، ووجوب الخضوع والإذعان له هو
أرفع وأعلى وأسمى القُربات والطاعات، وأنه لا يُذَمُّ ولا يُعاب، وإنما يُدعى له
بالهداية والصَّلاح وسلوك جادة الصَّواب، وأن هذا هو المأثور عن أهل العلم من
السَّلف الصَّالح بلا كذب ولا روغان ولا ارتياب، ومن يخالف فإن دمه حلال مُباح
مهدور ولا يُستتاب، ويوم القيامة هو مُخَلَّدٌ في النار مع أشد العذاب.
لكنه لم يهتد ولم ينصلح حاله، ولا عاد إلى طريق الحق مثل غيره من الخلائق
أو من أقرانه، بل ضل ضلالا مُبينا، واتَّبع خطوات الشيطان اللَّعين المَريد وكان
ذليلا مهينا، فاستهان بالمقدسات، واستباح الحرمات، وأشاع الفواحش والمنكرات، ولم
يعدل إلا في أمر واحد دون كل المسائل والأُقضِيات، إذ صيَّرَ الكل عبيدا له دون
مراعاة لأحد أو استثناءات.
وبحكم العادة وطول الأزمان والأوقات، أعلن نفسه إلها وربا معبودا، فذلُّوا
وخضعوا له تماما، رغبة ورهبة ولا كرامة، وعبدوه كما يجب أن يُعبد قرد إله، على
رعية بلغ فيهم الذل منتهاه، ووصل فيهم الخزي إلى أقصاه.
بقلم:
عبد الكريم علمي
الجمهورية الجزائرية