أدب النُخبة و نُخبة الأدب
العقيد بن دحو
* - " أنا لا أبحث أنا أجد ".
هذه المقولة أعلاه تعود للفنان الرسام العالمي السيريالي
"بيكاسو" . و هو القائل في موضع آخر : " حين يعوزني اللون الأزرق
أستعمل اللون الأحمر".
و بين عنصر " البحث" و عنصر فعل "وَجَدَ" ؛ و بين
اللون " الازرق" و اللون " الأحمر" تاه الأدب الجزائري و لا
سيما جنس الرواية أيامنا هذه بين (نخبة) أرادت أن تسطر و تمنهج و تبرمج الرواية و
تضمن لها مقعدا أكاديميا ، بل جبة سوداء و قبعة ومحفظة تخرج ؛ و بين فئة أخرى
(ماركونية) حكواتية "امعيّة" لا حول لها و لا قوة.
و هكذا صار من يعنيهم و من يتوجه
لهم الادب الفئة الإجتماعية ، تحسب الأدب نوعا من أنواع الدبلومات او الشواهد ،
كالرواية ايامنا هذه التي أصبحت مقرونة بالكتاب الدكاترة او لقب الأستاذ الدكتور.
الإشكال الثاني ان هذه (النخبة) وقعت في حلقة الدائرة الضيقة من الجامعة و
عن طريق الجامعة و الى الجامعة ، انزلقت نحو العائلة الأكاديمية ، الى القبيلة
الأكاديمية ، الى العشيرة الاكاديمية ، الى الجهوية الاكاديمية ، و الخشية أن
تنزلق بالتراكم و الإضافات نحو العنصرية !.
ان ما توصلنا اليه من أدب النخبة ، هذه النخبة التي أدخلتنا في حائط ، حائط
فرداني ، أناني ، نرجسي ، سادي ، مغلق اللعبة ، و بالتالي تقوقع على بعض العناصر
الحيادية استهلكت دورتها التاريخية السوسيولوجية في علوم الاداب و الثقافات و
الفنون. تراوح نفسها ، تغذي نفسها بنفسها بأفكار اركائكية زادتهم عن المجتمع بعدا
و عن من يأتي بعدهم وجدا.
ذاك أن في الجزائر لا يوجد لنا ما يسمى " الاحصاء الأدبي الشامل"
او ما يسمى بتجربة (الجرس المقلوب) عالميا. انما ما هو موجود حالات فردانية ، كل
حالة تدعي بأن (فولها طيّاب) أو كما يقول المثل الشعبي الجزائري.
بل كل (حالة) تدعي : (بأن وحدها تضوي البلاد ) على رأي المغني المغربي.
اذا أردت أن تلغي أدبا أو أن تهمل و تهمش جنسا فنيا ألبسه ثوبا غير ثوبه و
بيتا غير بيته. فالجامعة لا تعرف عواطف و لا خيال و لا حتى جماليات بالمعنى الساذج
البسيط للكلمة . للجامعة مخابر وورشات ، كطبيب التشريح كل ما يقع تحت يديه يخضعه
للتجارب و المقاييس العلمية. بينما بعض الأداب و الفنون جنون لا يخضع لهذه
المقاييس المعلبة الجاهزة. انما لقوى أخرى غيبية عجائبية لقوى نمو الابداع بألأماكن
المهجورة و المهمشة و بالدروب القاتمة و بالمقاهي الصاخبة بعيدا عن عقلاء و مبرمجي
عقلاء هذا العالم الذي أثقله منطقه.
و الا ما كانت لنا اليوم رواية " الخبز الحافي" محمد شكري ، و لا
"ريح الجنوب" عبد الحميد بن هدوڤة ، و لا رواية "تميمون"
للروائي الجزائري رشيد بوجدرة ، و لا رواية " اللاّز" للطاهر
وطار.. و غيرهم....
هؤلاء الروائيون و غيرهم من تمردوا على التقنين و التسطير و التسطيح و
التسقيف و التجريب و التجريد. هؤلاء و غيرهم من كتاب العالم ، من قال في حقهم
(بلزاك) : اتحدوا في شعب ، ازدردوا الجيوش ، حملوا مجتمعاتهم بأدمغتهم هم من
يستحقون الحياة !.
أما النخبة هذه التي أرادت أن تدخل كل شيء للجامعة ، و أن تخضع البشر و
الشجر و الحجر من جديد على سرير الورشات و المخابر بعد ان كانت تخضعهم من ذي قبل
على ما يسمى "سرير بروكست" او كما جاءت به اسطورة الرواية الحديثة.
و عليه لا غَرْو ان وجدتهم أكثرهم لغويين أكثر من اللغة ذاتها ، و اسلوبيين
أكثر من الأسلوب ذاته ، يحللون المحلل ، و يركبون المركب ، و يفككون المفكك ، و
ينصّون المتناص ان صح التعبير !.
فالمحسوس لديهم يصبح غير محسوس ، و المرئي يصبح غير مرئي و من وراء الواقع
الملموس المعاش ، و الذي تدركه الحواس ، هناك واقع رحيب ، يتخطى الخيال و لا يمكن
التعبير عنه إلا وفق المعادلات الرياضية (الأُسية) ،(اللوغارتيمية) ،(التكاملية) ،
(الجيبية) السينيسية Sunis ؛ ساعتئذ : فأين الأدب يانخبة الأدب اذن!؟
ان الواقع الحي ، و لا سيما الممنهج منه و المبرمج مليء بكل ما فيه من
اشكال و ألوان . أن الطبيعة التي نظر اليها الشاعر الفيلسوف (جوته) بعين العالم
وبعين الشاعر - قد اصبحت تجريدا هائلا . ولم يعد الأشخاص العاديون يشعرون بالراحة
في مثل هذا العالم "التجريبي" "التجريدي" الذي حول رجل الادب
(النخبة) الى عالم ذرة أو الكترون أو روبوتيزم أو ذكاء اصطناعي. ان الأنفاس
المثلجة للمجهول. و غير المفهوم تبعث الرعدة و الرجفة في أوصالهم. ان عالما لا
يستطيع أن يفهمه غير العلماء هو عالم يشعر فيه الناس بالغربة.
تماما أن أدبا لا تكتبه و لا تفهمه الا النخبة يشعر فيه الناس بالغربة.
تماما كما أن رواية لا تفهمها الا أصحاب المخابر و الورشات الجامعية هي رواية
بعيدة عن امال و امان و طموحات الفئات الاجتماعية.
صحيح حسب سوسيولوجية الأدب (الكُتاب) هم أقلة في العالم ، ينتمون الى الفئة
الاولى الثقافية الإنتلجنسيا ، و لكن ليس من باب احتكار الابداع و جعله في حقيبة
جيل واحد أقلية ، انما من باب التداول و التبادل على المجايلة الأدبية ، و الا ذاك
الذي كنا نحسبه الراعي الرسمي ، الحريص ، الحارس ، الشفيع ، الوريث عن الديمقراطية
و الدفاع عن مختلف الحريات صار الديكتاتور الجديد في عز زمن انفجار المعلومة و في
زمن الصورة الديجيتالية مختلفة الابعاد و سلطة اعلام المحتوى رهيبة عالمية و
معولمة.
على الشعر الجيد أن يصدر عن الناس
أجمعين (هزيود)
فالواقعية السحرية ضربت بكل الحدود و الابعاد التي كانت قائمة بين الاجناس
و المذاهب الادبية و الفنية ، لا سيما الشعر و الرواية.
جعلت من الشعر أن يكون رواية مغناة ، و من الرواية أن يكون شعرا مقروءا. أو
على حسب نظرية (بول فاليري) : "هناك أنصاب تتكلم و أنصاب تغني ".
عموما ان هذه النخبة التي اختارت أن تكون رأسا ، في زمن لا تكن رأسا فإن
الأوجاع بالرأس ، انطلاقا من خلفية أو مرجعية جامعية أفرزت لنا أدبا برجوازيا
جديدا مغلوطا مموها Faut
Bourgeoisie Lettres
ان الفن و الادب اذا اراد أن يبعث من جديد لا يجب أن يفرض علينا اية فكرة
أو نزعة خضارية سلفا. لا كلاسيكية و لا حداثية و لا ما بعد الحداثة.
اما ما هو متروك للجامعة مسايرة البحوث و الدراسات و القراءات النصوص ، و
كذا الرسائل العليا ، لا أن تصبح الجامعة (كارتل) أو نؤسسة مصغرة Star Tape أو تجمعا نخبويا / سياسويا للرواية ، حتى يظن الجاهل أنها اصبحت
دبلوما أو شهادة يتوج و بكمل و يتمم بها الاستاذ الدكتور مساره المهني. تضمن له
البقاء ما بعد المعاش.
صحيح الثقافة و الادب و الفن ما يجب أن يتعلمه المرء بعد ان يتعلم كل شيء ،
و ما يبقى بعد ان يخسر كل شيء ، و لكن ما الذي خسرته هذه النخبة !؟
خسرت الحسنيين معا خسرت الإعلام كوسيط لتبليغ الخبر الادبي و خسرت الفئة
الشعبية المعنية بالحدث الادبي سيكولوجيا و تاريخيا ، على اعتباره البارومتر و
الترمومتر لأي مقروئية محتملة (كعمل فعل رابع).
ان الفن/علم الذي يتجاهل بصلف حاجات الجماهير تحت مسمى (النخبة) أو تحت
شعار ذاك السؤال النيوكلاسيكي : و ....لماذا لا يُفهم ما يُكتب....!؟
هو من ادخل الكتاب الأدبي عموما المتحف.
ألا ترى المتحف يجعل الصليب يغذو أن يكون نحثا (مالرو).
يباهي بأنه لا يمكن أن تفهمه الا النخبة المحدودة '، هو الذي يفتح الابواب
على مصراعيها أمام السخافات التي تنتجها صناعة التسلية الادبية المُعلمنة ، فبقدر
ما ينعزل الفنانون و الادباء في برجهم العاجي الجامعي هذا قي شكل ورشة او مخبر عن
المجتمع ، فبقدر ما ينصب على الجمهور من التفاهة وسقط المتاع. ان الوحشية الجديدة
التي ظهرت في الفن الحديث و أشاد بها بعض النقاد ، فد اصبحت في الواقع هي النغمة
التجارية السائدة في العصر الراسمالي الليبرالي المتوحش.
هي دعوة لابعاد الفن و الادب كإبداع عن النخبة ، ان يترك للجامعة الدراسات
و القراءات الأدبية ، و ان يقول و يعود الناقد
كلمته الأخيرة ، قاضيا محايدا متصالحا مع وسائل الاعلام
و غير متخندقا لا مع الراعي و لا
مع الذئب !.
الأدب يا نخبة ابداع - لعبة الله- و ليس بحثا ، و من اراد غير ذلك فإن
الزمن لإله رحيم كما قالت الإغريق القديمة.