عبد الكريم علمي
سَيِّدُ القُمَامَة.
قصة قصيرة:
سَيِّدُ القُمَامَة.
يغدو إلى
الزِّبالة خميصًا، ويقتاتُ فيها بما وجد، وبعد أن يشبع يمشي بين الورى مُنتشيا
مُتبخترا، مُعتقدا نفسه أسَدًا، وعيونُ الورى لا تراه إلا كلب قُمامة آكل فضلات
وجيف.
يُعرَفُ عند
الجميع بالكلب المُهَرِّج وبسيِّد القُمامة، فلا تُوجد قُمامة إلا وهو حاضرٌ فيها،
وهو بارعٌ في شَمِّ الفضلات والجيف واقتفاء آثارها، ويُقاتل بضراوة وشراسة في سبيل
الاستحواذ والسيطرة عليها، وهو كلبٌ أجربٌ موبوءٌ أنانِيٌّ، عفنٌ ظاهرا وباطنا، لا
تستقيمُ أخلاقه ولا تـنعـدل حالُه ، كثيرُ الرِّياء، مغرورٌ، حسودٌ، حقودٌ،
غدَّارٌ، لم يسلم منه الصَّغير ولا الكبير، ولا الجارُ قريبُ الدَّار، أو الغريبُ
بعيد السُّكنى والمَزار، خسيسُ النَّفس، تافهُ الهِمَّة، لا يُقيم وزنًا لعُرفٍ أو
خُلُقٍ أو حُرمة، تتحاشاه الخلائق كلها خشية اللعنة، والوباء والعدوى، وتلعنه في
السِّرِّ والعلن، وفي الغدوة والعشوة.
يُحسنُ تقليد
أصوات مختلف الحيوانات، دفعه عقله المُلتبس، ومنطقه الخسيس، وطَبْعُهُ الرَّدِيء،
وذَوقُهُ الفاسد، ومزاجُه المختلط، إلى الوُلُوع بالأسد، فما إن يراه مارًّا،
مُقبلا أو مُدبرا، حتى يَتَعَـرَّضَ له بالشَّتم والسُّخرية بأصوات مُختلفة، فتارة
ينبحه نبحًا شديدا، ثم تارات أُخَرَ ينهق، ويشحج، ويخور، ويثغو، ويموء، ويضحك مثل
القرود...، ثم يُوَلِّي هاربا تَوَجُّسًا وخشية من مُلاحقة الأسد ومطاردته له، كل ذلك
لأجل إهانته والحَطِّ منه، بإزعاجه واستفزازه وإضحاك أُمَّة الحيوان عليه.
لكن الأسد
خيّبَ ظَنَّهُ، وأفشل مسعاه وأبطل مُبتغاه، فلم يُبال بما يقوله ولا بما يفعله،
ولم يُجبه ولم يلتفت إليه، ولا حتى رمقه بمُؤخَّر العين، كان يمضي في سبيله كأن
غريمه هذا السَّفيه غير موجود البتَّة.
اغتاظت
اللبؤة من سُلوك الكلب السَّفيه، واقترحت على زوجها أن تفتك به، أو تُمسكه له
فينتقم منه بالكيفية التي يُريد، فنهاها عن ذلك قائلا: إن الأسد يا عزيزتي لا
يَرُدُّ على الكلب ولا يُجيبُهُ، لأنني لو فعلتُ سيقولون: أسَدٌ رَفَعَ من شأنِ كلبٍ
وأعلى مقامَهُ، فهشَّمَ عظامه ومَزَّقَ لحمه لأنه سخر منه، دعيه في حال نفسه،
فالخلائق جميعها تعرف من أنا وتعرف من هو، فلا يستفِزَّنَّكِ بالنُّزول إلى مكانته
ومُستواه، يظل الكلب كلبا ولو واجه الأُسُود، وتبقى الأسُودُ أُسُودًا، ولو نبحتها
الكلاب السُّود، وأهانتها الخنازير والقرود.
اللبؤة: إن
قِلَّة الاحترام تُسقطُ الهيبة، وتجلب المهانة والمذلَّة، والخزي والعار، والحُرُّ
الأبِيُّ عزيزُ النفس وكريمُها أمام هكذا حال، فإنه يُغادر البلاد والخِلان وكل ما
اعتاد، ويجعلهم خلف ظهره وزمانه وحياته كلها، ولا يلتفتُ وراءه أبدا إلى قيام
الساعة.
الأسد: هل
تُريدينني أن أهجر هذا المكان، لأن كلبا من الكلاب يُزعجني ويُنغِّصُ عليَّ؟
اللبؤة: نعم،
ما دُمتَ صامتا لا تردّ، ولا تُريد وضع حَدٍّ لهذه القذارة، وهو لا يعف ولا يكف؟
الأسد: إن
عدم الرَّد هو بحدِّ ذاته ردّ...، وأيّ ردّ!...، ويا له من ردّ!...، ولا تستغربي
لتصرفاته وجهالته وفجوره في الخُصومة، فإن الشُّعور والإحساس بالدُّونية لدى هذا
وأمثاله، تستفزّهم وتستنفر الآليات الدِّفاعية النَّفسيَّة في أعماقهم، فتُترجم
ردّات الفعل عندهم إلى تصرفات يصعب التحكم فيها، وتكون حمقاء ورعناء ووقحة،
ومُؤذية ومُحرجة بشكل فظيع.
اللبؤة: ولكن
ما الذي جعل هذا الكلب يُولَعُ بك كل هذا الولع، ويُعاديك هذا العداء الشَّديد،
وقد كان مُقَرَّبًا منك؟ ما الذي جعله ينقلب عليك كل هذا الانقلاب؟
الأسد: إن
قضية هذا الكلب هي إحدى خطيئاتي الكُبرى، التي أستحيي منها أمام نفسي، والتي ندمتُ
عليها ندما شديدًا، وتحسَّرتُ عليها كثيرا، ودفعتُ ثمنها غاليا من قيمة نفسي
ورزقي، كان فيما سبق يَوَدُّ التعرَّفَ إليَّ والتَّقَرُّبَ مِنِّي، فعندما يراني
أو يسمع بمجيئي وحُضُوري، يُسرِعُ نحوي ويُبَصبِصُ، ويتمسَّحُ بشعري، ويَلعَقُ أرجلي
خاضعًا ومُتَوَدِّدًا ومُتَحَبِّبًا، ويتوسَّلُ إليَّ أن أرمي له بفضلاتي من
فرائسي ليعتاش منها، فأشفقتُ عليه وقلتُ في نفسي: ما هو إلا كلبٌ قمَّامٌ جائعٌ
وضائع، فلا بأس ولن يضيرني أن أرمي له ما فضل عنِّي ولم أعُد بحاجة إليه، حتى لا
يموت جُوعًا ونخسر كلبًا من غابتنا.
اللبؤة:
وماذا حدث بعد ذلك؟
الأسد: إن
الخسيس الدَّنيء يبقى كذلك، ولا يُغيِّرُ من طبعه ولا من أخلاقه شيئا، لقد بلغت به
الدَّناءة والحقارة والنَّذالة، أن تجرَّأ وأراد مُقاسمتي في رزقي، وأن يستأثر
لنفسه بالأطيب منها، فالكلاب إذا ما أكرمها أحد، تجاوزت حدودها، وطمعت في كل ما
عنده وكل ما يملك، فطردتُهُ بعدما لطمتُهُ على وجهه الصَّفيق، الذي لا دم فيه ولا
حياء ولا كرامة، فما كان منه إلا أن صار يشتمني من بعيد ثم يهرب، فِعْلَ الجبناء
عديمي الشَّخصية والأخلاق والقيمة، فبعضُ خلائق الخلق داءٌ ليس له دواء، وأثبتَ
الواقعُ وأكَّدت التجارب، أنه كلما قَلَّلَ الواحد من الاختلاط بكل من هَبَّ
ودَبَّ، وانتقى لصحبته الذين على شاكلته وأخلاقه وطبعه ومزاجه وضميره، كان ذلك
أدعى لسلامته وراحته النَّفسية، والمحافظة على دينه وكرامته وضميره وعقله، وجنَّبَ
نفسه بلاء السُّفهاء، ونذالة الأشقياء، وحقارة الأراذل الأدعياء، وسَلِمَ من شُرور
كثيرة.
لقد كان
مُبتغاه من صُحبتي وصداقتي، لأجل فائدته ومصلحته لا غير، كان حريصا كل الحرص في
الاستحواذ على فضلاتي كلها دون الكلاب الأخرى، وكان يمشي مُحاذيا لي حتى يُخيف
أعداءه بي، فلا يجرُؤ أحد على منافسته في فضلاتي التي أستغنِي عنها وأتركها، ولا
على وُلوج غيره إلى القُمامة بوجوده فيها، فيصبحُ سَيِّد القُمامة بلا مُنازع، فهو
ما انفك باحثا لاهثا عَمَّن يدعمه ويُسنده، ولما صار إلى مُبتغاه ونال ما رجَّاه،
نكص على عقبيه ورجع القهقرى، ونسي العشرة، وتَنَكَّرَ للأيام الخوالي، وعضَّ اليد
التي كانت تُطعمه وتُلقِمُهُ من فضلاتها، هذه هي أخلاق الكلاب وطبيعتها، فعند
انتهاء المصلحة منك، وفشلهم في استغلالك
فإنهم يُعادونك، ويبيعونك بأرخص الأثمان، غير مُترددين ولا مُبالين ولا نادمين.
بقلم: عبد الكريم علمي
الجمهورية الجزائرية