لماذا يلجأ المثقف الى الصمت و العزلة
العقيد بن دحو
* - " نحن كالببغاواة نتبكم عندما نشيخ ".
كانت هذه
العبارة أعلاه للكاتب الروائي (غابراييل غارسيا ماركيز) المكسيكي ، الكولومبي
الأصل.
وكم تنطبق المقولة أعلاه على حالة المثقف اليوم
، وهو يغادر ، يغادر عن طيب خاطر جميع الأماكن و المنابر التي تعاهده عليه الناس
الجمهور المتواجد فيها عادة . ليس من أجل التواجد من أجل التواجد أو الحضور من أجل
الحضور ، إنما محللا و مناقشا لعدة قضايا و اشكالات تواجه المجتمع عامة السياسية
الاجتماعية الإقتصادية الثقافية. فجأة ودون سابق انذار يغادر المثقف منابره
المعهودة التي ضحى من أجلها بالعرق و الدم و الحبر ، و حولها الى مصلى أدبية و الى
قربى ثقافية فنية. بل
لم يكتف
بالهجران و المغادرة ، و انما اكتفى بالصمت ، بعيدا عن أي لغو او مزايدات او
مهاترات أو فهم بليد أو عن أي لغة خشب !
و اذا
كان سمت صمت المثقف أكثر من مبرر ، ذاك أن لم يعُد في
الإمكان ابداع أكثر مما كان ، أو أن جماعته وصلت الى درجة (التشبع) على محوري
الأقوال دون الأفعال و بدأ المنحنى الصاعد في العد العكسي التنازلي ، في النكوص.
فكان الطبيعي
جدا أن ينسحب الأديب المثفف الفنان حفاظا على ما تبقى له من بريق انساني بديع ، أن
يلجأ الى الصمت لا لكونه عاجزا عن ابداع و نتاج المعرفة ، و انما فرصة سانحة يعطي
فيها كينونته الداخلية من أن تتحدث الحديث العميق ، طقس كلام الذات الأخرى
(الإيروس) EROS , ذاك العمق الذي لا يمكن أن يبوح بمكنوناته المكنونة الساحرة الآسرة كاملة الا
اذا توقف اللسان عن لغة الخشب و الغوغاء ، و يتيح فرصة للطبيعة و للمحيط ان تتنفس
الصعداء من خلاله.
يغادر بدافع
سيكولوجي سوسيولوجي ، فقد غادر و هجر من قبله العديد من المفكرين و الفلاسفة و
اكتشفوا منفاهم ، قدرهم ، متكأهم هناك... الذي صار بالمقابل جنتهم و فردوسهم
المفقود ، فكما هجر و أغترب أولئك العباقرة الاربعة :
- "ڤيني"
: في البرج العاجي
- "هوغو" : في جزره
-
"رامبو" : في اسفاره و هربه
- "كلوديل" : في تأملاته الدينية
- "جويس" : في منفاه من دبلن .
اذن غربة
المثقف أو هجره أو انعزاله عن التجمعات البشرية تاريخية بل تعود الى ما قبل
التاريخ.
صحيح كُتب
على أحدى أبواب مطارات القاهرة : " ياداخل مصر منك الألوف " ! في اشارة
أن البديل دائما قائما و جاهزا . يمكن الإستغناء عن المثقف ، غير أن أحدا ليس كأي
أحد فالمثفف الحقيقي و الأديب الحقيقي و الفنان الحقيقي خسارة لا يمكن تعويضه تحت
أي طائل و تحت أي سبب من الأسباب ، كون العديد من المفاتيح يملكها ؛ فهو ان يعوزه
اللون الأزرق يستخدم اللون الأحمر او كما قال(بيكاسو).
وحتى الدولة
السياسية ان كانت معادية للمثقف في الباطن ، فهي تداريه و تجاريه و تراضيه بكيفية
او بأخرى ، ليس حُبٌا فيه و انما فيما يملك (.....) !
قد يتساءل
أحدهم و ماذا يملك هذا المثفف غير قوة (الكلام) !؟
لا...! و
يملك قوة الصمتُ ايضا ، الصمت حكمة ، ليست حكمة الدراويش انما حكمة زوس و كبار
فلاسفة الإغريق و الألمان.
بل منذ 1759
تحول المثقف و الاديب الى سلطة فهو لم يعد في حاجة الى اي سلطة ، بل هو السلطة
الحقيقية ذاتها بعد أن تنقضي سلطة الأخرين و خزائنها المادية و المالية الريعية
الردعية.
تقول الكاتبة
الروائية التونسية (ليلى عتراتي) : العديد يلومني على عدم الاستقرار و ديمومة
علاقاتي مع أحد ، ذاك أن و حدتي ناتج عن فراغ الآخرين ، فراغهم من أي شيئ يجعلني
أتعلق بهم أكثر من مدة " !
اذن فراغ
الشجرة من العصافير ، ناتج عن فراغها مما يحتاجه
لضمان استمرار الحياة.. و عندما تتوقف الببغاء عن الغناء ، ذاك أنها وصلت
الى عمر متقدم لم يعد يسمح لها بالغناء أمام تغريدات البلابل وزقزقات العصافير !.
وكما لا يمكن
الاستغناء عن الجماعة ؛ الفرد المثقف الحكيم لا يمكن بدوره الإستغناء عنه. فكما
عادت الدولة الاغريقية القديمة الى(فيلوكتيتيس) ، و هي التي نفته بعيدا عن وطنه
عشرة سنينا بأكملها في جزيرة نائية شقيا تعيسا بعلته وحيدا. لكن في لحظة من
اللحظات اوحت الالهة لاجولة أنهالن تضفر بالحرب ان لم يعد المنفي وطنه. أن تعي
الدولة نفسها الى هذا الجريح العليل ، و تُقنعه العودة الى وطنه و مشاركتة الحرب
بدرع و سهام هرقل المجنحة. كما علمتنا جل الحضارات الانسانية عودة الدولة الى
ابنائها التي أذنبت في حقهم ، كونهم لا يزالون يملكون بعض مفاتيح مغاليق الأسئلة
العالقة عن الحل . و لكون السياسة لا عداوة لها دائمة و لا صداقة لها دائمة ،
تمتاز بالمرونة الصلبة ، قبضة من حديد مع قفاز من حرير تكون دائما محتاجة الى هذه
الفردانية الخاصة الى هذا الفرد المبدع . في مجرى الزمن يملك (درع وسهام هرقل
المجنحة) !
صحيح لم تعد
ثمة معجزة يونانية لتعود اليها الدول ، لكن فيما معناه......!
عندما يصمت
المثقف الكون كله بتوقف و تتوقف الحياة عن الغناء !.
وعندما يرى
المثقف الخلط و خلل الإتزان في كل دواليب مسار الحياة ، لم يعد أمامه الا وصية )قس
بم ساعدة) لإبنه القائلة :
" يا
بني
ان وجدت حربا
(.....) خسيس المحتد بتحكم فيها بكريم المحتد ، و شجاعها يجبن و جبانها بجرؤ ، ففر
منها و أنأى الى رابية فترقب الأحداث فإن في الأمر خيانة " !.
.....