المسرح المدرسي و الوجه الآخر
العقيد بن دحو
في تسعينيات القرن الماضي ؛ تعينت مديرا لأحد المؤسسات التربوية بولاية
أدرار ، تبعد عن الجزائر العاصمة بحوالي 1600 كم ، و بطبيعة الجغرافية ، لا يمكن
فصل تأثير الساحل و البحر عن الساكنة. اذ الحضارة شيدت على شواطئ البحار كما يقول
بن خلدون في المقدمة.
ايضا الحضارة الاغريقية عظمت و جلت و قدست البحر و منحته صفة الاله
(بوزيدون) او (بروتيه) و اعتقدت فيه منبع الالهام و الابداع ، الخلق و الاخذ و
الفكر.
و أنا في مكتبي دخل عندي ولي تلميذ ، يبدو خجولا ، يريد ان يفشي بأمر ، لكن
خلته يبحث عن طريق او اسلوب او اية لغة يربد ان يوصل عبرها ما ينوي الحديث عنه معي
سرا او علنا.
نحن جبلنا على ان الساكنة لا تدخل عن اي مكتب او مسؤول الا شاكية ، من
متلازمة عدوى مزمنة (حتى...) عن موقف ضعف لا قوة !.
مع التشجيع و الابتسام ، يبدو تشجع الرجل اكثر و اطنب و ارتاح و انطلق في
ملكوة الكلام. يتحديث معي كما لو لم يكن هو قبل دخوله..... الى ان قال ؛ ووجد
الصيغة و الفرصة المناسبة ليفضفض بكل ما جاء به من حجوم و اثقال الكلام.
ولي التلميذ هذا يريد من ابنه ان يكون عضوا و مشاركا في فرقة مسرح المدرسة
، و هذا دون ان يشعر بأن وليه يريد ذلك !
ذاك يعني اننا نعيش انفصام الشخصية. ففي حين قلوبنا تهوى و تحب و تريد
اشياءا ، تجد افعالنا تخالف اقوالنا. و كأن قوى غيبية تشدنا الى الخلف كلما عزمنا
التقدم خطوة الامام.
معنى هذا أن الأولياء يدركون حجم المسؤولية الملقاة على عاتقهم بإتجاه
تدريس ابناءهم مختلف العلوم و الاداب و الفنون ، لكن عقدة نفسية ما تقف لهم
بالمرصاد ، حائلا دون التصريح و يكتفون
بالتلميح.
و كأن ابناءهم قادمون على فعل غير أخلاقي ، تمقته اللغة و الدين و العادات
و التقاليد و الاعراف المريضة المثوارته أبا عن جد !.
الأولياء عن حكمة و تبصر و عقلانية يدركون ما معنى ابناءهم يمارسون حلمهم
الصغير الذي يكبر مع الأيام و يصير حلما كييرا ،
حقيقة كحقيقة الشنس تحجبها الغيوم لبعض الوقت لتبزغ من جديد اشد سطاعة و
اكثر قوة. يصير ابداعا و فكرا و فعلا . غير ان اخذتهم العزة بالاثم و اضمروا ذلك
في صدورهم.
بل عالميا من خلال حضارة التربية
، الاولياء يطلبون من المدرسة التربوية
بجميع اطوارها و حتى الجامعي منه ان تخرج ابناؤهم مبدعين في الفن و الثقافة اكثر
منها في مجال الدراسة. كون العلم مدى الحياة ، فإن الذي لم تستطيع المدرسة فعله
هناك دائما أرض اخرى يمكن ان تحرث .
يدرك العالم المتحضر ان تلميذا صغيرا يافعا او مراهقا بالطور المتوسط او
الثانوي وهو يمارس هوايته و ميوله و رغباته مسرحيا ، كفيل ان ينتقل به هذا من
العمر المدرسي الى العنر العقلي.
اي ؛ تلميذ (11سنة) من عمره المدرسي ، السنة الاولى متوسط ، و هو يمارس
نشاطا رياضيا او فنيا او ثقافبا ، سيكون عمره العقلي (³3).
اي بما يعادل (3) أضعاف. و هكذا دواليك....
لقد لاحظنا ذلك مرارا و تكرارا بالافراح المدرسية في المناسبات الوطنية
الاجتماعية الدينية مدى فرحة الاولياء و الغبطة التي تملأ محياهم وهم يشاهدون وجها
لوجه فلذات اكبادهم تلعب على الركح المدرسي مرحا.
هذه هي اللعبة الكبرى الغائبة اليوم عن مدارسنا او المغيبة عنهم عن سبق
اصرار و ترصد.
نحن لا ننكر أن أعداء النجاح لا يريدون للمدرسة الجزائرية المستقله عن كل
التبعات الراديكالية التاريخية السياسوية من مدرسة قادرة عن الحلم ، و عن الكلام ،
و عن التفكير ، عن التغيير ، و عن .
يريدونها (ان يفكر لها).... ، يملى عليها من أعلى ابراجهم العاجية ، من
حضيض شذوذهم المعرفي و العلمي و الثقافي ، ان كانوا فعلا مفكرين و مثقفين.
هكذا كما يرون و بعتقدون ازدهار المؤسسات التي طالما كسروا بها رروسنا ، هم
يريدون ازدهار انفسهم وبعدهم الطوفان!.
كم يعجبني و انا اتابع اطفال تلاميذة متوسطة بضواحي باريس فرنسا عبر منصات
شبكات التواصل الاجتماعي ، وهم كلهم شغف و حب و فرح ، و بعد ان اكنلوا ابقراءات
الايطالية و تموا التدريبات المختلفة ، كلهم ثقة و استعداد ان يمثلون أصعب و اخطر
مسرحية ملهاة (الضفادع) للشاعر الدرامي الاغريقي "ارستوفانز" من القرن
الخامس قبل الميلاد.
لو مثلث و تجسدن هذه المسرحية مع تلاميذ في مستوى اعمارهم الدراسي ، في
دولة اخرى اقل عزيمة و اقداما لقامت الدنيا و لم تقعد ، و لربما أتهموا المدرسة و
محيطها بكل انواع التهم السماوية و الارضية و الثقلين معا.
ربما المؤسسة التي كنت اديرها تربويا و بيداغوجيا و ماليا و ماديا محظوظة
نوعا ما لاني مارست فن المسرح و مختلف الفنون الاخرى الزمكانية ، و تلقيت عليها
يوم كنت استاذا للعلوم الفيزيائية عدة تكوينات و تربصات، يوم كانت الوزارات الثلاث
: التربية - الثقافة و الفنون - الشبيبة و الرياضة على قلب رجل واحد. و عبر مختلف
المسارح الجهوية وهران ، سيدي بلعباس ، مستغانم.
لم تتلقى نعي لية صعوبات او عراقيل بل سحلنا اعلى المعدلات في الامتحانات
الوطنية و الفصلية.
اليوم و مع تغيير المناهج و البرامج ، من التدريس بالاهداف الى التدريس
بالمقاربة بالكفاءات ، ضربت عدة مفاهيم و قيم كانت اساسية في مكون شخصية اامتمدرس.
اذ صار الكتاب المدرسي نشاطا لا صفيا ، و لا حديث عن بقية تدريس مختلف الفنون
الزمكانية الأخرى.
الحديث حول الابداعية المدرسية يتطلب منهجية اخرى خلاقة. تراعي ميولات و
رغبات و الاستعدادات الفطرية للتلميذ / الطالب
أما الاولياء يتطلب خبيرا سيكولوجيا سوسيولوجيا يكون متفهما على ما لم
يستطيعون قوله ، الذي يجب ان يكون ، اما
غير ذلك مجرد حبر على ورق ، و لقاء من اجل اللقاء.
ان معظم قادة كبار العالم الناجحون في مختلف دروب الحياة ، العلوم و الاداب
و الفنون و السياسة ، و حتى كبار قادة العسكريين الامنيين مروا في مرحلة من
اعمارهم المدرسية بالمسرح المدرسي. و لا حديث عن العالم ثالث يثلت الاشكال و
الالوان ، يحرم و يحظر و يمنع كل جميل على حسب هواه و مزاجه.
الثقافة و الفن انقاذ و خلاص فأنقذوا المدرسة مما تعانيه اليوم من تسرب و
عنف مدرسيين و اكراهات أخرى.... ، فقط حين
يتعلم هذا المتمدرس اولى ابجديات متى يتكلم و متى يصمت على ركح مدرسي صغير ، يتلقى
اولى مدخلات محاكاة كيف يكون كبيرا ، من حيث الطفل مجددا أبا للرجل و أبا للإنسان.
و"ولد تعلمه اليوم رجلا تنقذه غدا" / (مالرو).