القرد والخنزير
عبد الكريم علمي
عبد الكريم علميقصة قصيرة: القرد والخنزير
كان أحد سفهاء طائفة الخنازير ثرثارا ونَمَّامًا لم يسلم منه أحد، وحتى ملك
الغابة ناله نصيب من كلامه السَّيِّء الجارح، ولا أحد من أمة الحيوان يُحبه أو
يتحدث إليه، فالجميع يُبغضه ويتجنبه، إلا قردا منبوذا من طائفته، فكانا صديقين
وحليفين، وحتى ملك الغابة لما وصله خبره وكان في مغارة حُكمه مُمَدَّدًا يستمتع
بقيلولة في يوم قائظ، وبعد تناوله لوجبة دسمة، فإنه ما اكترث لهذا ولا أبدى
اهتماما، أو ألقى للأمر بالا، ولا ظهر عليه توتر أو انزعاج، بل استدار على جنبه
الآخر وراح يغط في نوم عميق، مع شخير مُدَوٍّ يَهُـزُّ الأرجاء، وأصوات منتنة مرعبة
تخرج من بطنه.
لما رأى الخنزير أن لا أحد يُحبه ويحترمه، حـزَّ هذا الأمر في نفسه كثيرا
وأزعجه، وعزم على المُناكفة والمُشاكسة لكل مخلوقات الغابة، بكل ضراوة وشراسة
وعنف، وأن يكيد مع صديقه لكل أهل الغابة، بإكالة التهم الزائفة لهم وبتلفيق
الأخبار المُغرضة، بغية الفتنة والوقيعة بينهم، وكان أن سأل القردُ الخنزيرَ في
بداية صداقتهما، عما سيقوله للذين سيسألونه عن مدى وجاهة علاقته به، لأنهما جنسان
مُتمايزان من طائفتين مختلفتين، أجابه: لا تقلق بشأن ذلك ولا تكترث، قل لهم إنك
خالي وأنني ابن أختك، وستُكفى فضولهم وتساؤلاتهم وانتقاداتهم، فقال القرد: هي فكرة
ربما تكون مُجدية، ولكنهم سيستهجنونها وسيسخرون منها ومِنَّا لأنها غير منطقية،
فَرَدّ الخنزير: عندما تكون أفعالك غير منطقية، فتبريرها سيكون غير منطقي كذلك،
ولذلك دعك من منطقهم واهتم بمنطقنا نحن.
كانا يلتقيان يوميا، وعملهما النَّميمة والفتنة والوقيعة بين الخلق
والتعـرُّض للحرمات، والوقوع في الأعراض وتقطيعها، دونما خجل من نفسيهما أو خوف
أوحياء من أحد، وكل المخلوقات تُبغض هذا الخنزير النَّجس وخاله القرد الدَّعي،
وإذا ما رأوا الخنزير سخروا منه واستهزأوا وقالوا: هذا ابن أخت القرد، وإذا ما
رأوا القرد قالوا مُتهكمين ساخرين: هذا خال الخنزير.
مرَّت أعوام وهُمَا على هذه الحال، وذات يوم من الأيام وبينما كان الخنزيرُ
نائما يستمتع بقيلولة أراد خاله أن يمازحه، فَعَلَاهُ وتَبَوَّلَ على جبهته ووجهه
وأنفه، فاستيقظ ابن أخته مرعوبا، وهو يقطر بَوْلًا من أعلى رأسه إلى أسفل أرجله،
فغضب واستشاط، وأرغى وأزبد، وأبرق وأرعد، وأمطر خاله شتائم وإهانات، وهَـمَّ أن
يبطش به لولا تدخل بعضهم، الذين حالوا وحجزوا بينهما، كل ذلك على مرأى ومسمع من
جميع مخلوقات الغابة، وافترقا على خصومة شديدة نتنة، وانتهت بذلك قصة القرد الخال،
وابن أخته الخنزير النَّجس الضَّال، وانتهت علاقتهما الممسوخة المشبوهة الملعونة
بالقطيعة والعداء، واستراحت الأمة من كيدهما وشَرِّهِمَا.
أصبح للقرد أصحاب جُدُد من قرود على شاكلته، سألوه لماذا تَبَوَّل على رأس
وجبهة ووجه وأنف من كان يقول عنه ابن أختي؟ وما حكاية الخال وابن أخته الغريبة
هذه؟ ومن اخترعها؟ فأجابهم: في الواقع أنا لمَّا فعلتُ به الذي فعلتُ، كنتُ وقتها
عازما على أن أفعل به شيئا أشدَّ وأقذر من هذا، ولستُ أدري لماذا عدلتُ عن تلك
الفكرة للأخرى، لقد كرهتُه وأبغضتُه، إنه لا يصلح لشيء أبدا، واستمرار علاقتي به
سابقا كل تلك الفترة، لأن طبعه ومزاجه وافقا طبعي ومزاجي، وهواه طابق هواي،
وأخلاقي انسجمت واتفقت مع أخلاقه، كنا نستمتع بالذي كنا فيه، ولكن رغبتي في إهانته
والحطِّ منه، كانت مُتأجِّجَةً في داخلي بشكل رهيب، لقد كنت أظن في نفسي أن لا أحد
في هذه الغابة يغلبني في الخِسَّة والنَّذَالة، والسَّفاهة والوقاحة، والسَّفالة
والرَّذالة، والفتنة والنَّميمة، والوقيعة بين غيري أكثر مِنِّي، كنت أرى نفسي أحق
من الشيطان في تَبَوُّءِ عرش العُهر والفُحش، إلا أن هذا الخسيس الدَّنيء، وجه
البُؤس والنَّحس والنُّكس، ووجه التعاسة والخساسة، ووجه الهم والغم، تَفَوَّقَ
عليَّ في كل ذلك، ودائما يتفاخر أمامي أن لا أحد أنذل ولا أرذل ولا أنجس ولا أفجر
منه في هذه الغابة، فتحسَّستُ من ذلك وأصابتني غيرة شديدة منه، إذ أحسستُ نفسي
تابعا له في كل شيء، ودائما تكون أفكاره وخُططه هي الأفضل والأنجع والأتم، لذلك
قررت أن أنتقم لنفسي منه، وأُهينه أمام كل الخلائق ليضحكوا منه، فيحس بالخزي
والصَّغار، وأشتفي أنا في نفسي.
وأمَّا عن حكاية الخال وابن أخته، فهو من اخترعها وأشاعها وسوَّق لها، وأما
عَنِّي فأنا في نفسي أمقته وأبغضه وأتقزز منه ولا يُشرفني، ولا أتشرف أن أكون له
خالا، فهو أكثر انحطاطا وخِسَّةً وفجورا مني، ومن أيِّ خسيس وفاجر ومنحط وملعون
رأيته أو عرفته في حياتي.
وأما الخنزير وبعد أن صار وحيدا، فقد هام على وجهه في البراري، يبحث عن
رفقة جديدة بين خنازير من أمثاله، بعد فشل تجربة صداقته مع القرد، إلا أن كل
الخنازير رفضته وعافته، لأنها ترى أنه عارٌ على أمة الخنازير أن يكون خنزير مثله
ينتمي إليها، للذي شاع وعُرف عنه من فجورٍ وخِسَّة، ورذالة ونذالة، فاقت كل
التوقعات والتصورات، وأربت على كل خساسات الخنازير ونذالاتهم، وأنه هيهات أن يكون
خنزيرا سويا كبقية الخلق من الخنازير الأخرى.
لما وصل خبر حكايتهما إلى ملك الغابة بعد خصامهما وعداوتهما، فإنه ضحك
كثيرا هو وقائد جنده، وقال متهكما متشفيا: إن كل علاقة وتحالف بين قرد وخنزير،
فحتما تكون نهايتها بول على الرأس والأنف والجبين، ثم سِبَابٌ وشتمٌ ولعنٌ وصفعٌ ولطمٌ
مُهين، وعضٌّ دامٍ مبرح مشين، هكذا دائما تكون عاقبة صداقة التافهين الوقحين، فلا
علاقة تدوم ما لم تكن متوازنة ومتجانسة، من حيث تقارب وتشابه المزاج والطبع وطريقة
التفكير، وإلا فمحكوم عليها بالانهيار والسقوط والفشل.
بقلم: عبد
الكريم علمي
الجمهورية الجزائرية