الأسطورة و الرواية
العقيد بن دحو
صحيح الأسطورة منذ الأزل ، مرتبطة ارتباطا وثيق الصلة بالشعر ؛ اذ الأسطورة
تحيى و تتغذى بالمجاز بينما الشعر يعيش بفضل لغته.
غير أن (بول فاليري) استطاع ان يجد توليفة تجمع بين الشعر و الرواية.
يقول : " هناك انصابا تتكاك ، و هناك انصابا تغني".
و بين (الكلام) و (الغناء) يكمن سر سحر (المؤثر) : ما هذا الغناء !؟
و ما هذا الكلام !؟
فالشعر عندئذ يصير رواية مغناة ، بقدر نا تصير الرواية شعرا مقروءا. تتغذى على السرد و الرصد و السبر.
حتى القرن السابع عشر كانت الرواية تقوم بدور المرفه ، منكت الملك ، يوفر
الرفاه و اللهو و الترف لا غير ، غير ان
مع حلول القرن الثامن عشر كفت الرواية عن مجاراة التاربخ و صارت فنا من الفنون
الزمكانية.
صار الروائي فنانا، تضاهي رؤية الرسام و النحاث و الشاعر و حتى المهندس
المعماري . لهذا لا غرو ان جاءت مقولة (ستالين) : " الأدباء مهندسي الروح
" تصب في هذا الاتجاه.
فإذا كان الرسام يرى بالألوان ، و النحاث يرى بالحجوم ، فإن من شأن الروائي
أن يرى بالإنطباعات المعاشة او كما هو في علم النفس يرى بوقائع الشعور.
واذا كان الشعر منذ الاغريق عجائبيا بالمقام الأول ؛ يشير و يتغنى بالابطال
و انصاف الألهة و الألهة بالمرة ، كما أصبح للشعر إلها (أبولو) ، و موسم عيد عرض
هذه الاشعار ملحمة و دراما بل إلها لهذا العيد (ديونيسيوس) ، يتباري عند مقام
تنثاله المقدس خيرة و أجود فرسان شعراء الدراما أيهما أحسن جودة و صدق احاسيس و
جمالا تقربا للإله و للبشر !
أصبحت الرواية تقتات و (تحاكي) الشعر في هذا الميراث الفني الانساني
الاغريقي النبيل ، من حيث الاسطورة ميراث الفنون (نيكولاس فريده).
فكاتب الرواية يصير هو الإله، الخالق، المؤثر ، و الصانع Dandy كما يقول
النقاد و الباحثون الالمان.
كما أصبحت الرواية اكبر مجمعا للأساطير ، الرواية و الحيوان الميتافيزيقي.
غير ان ليست كل رواية في مقدورها ان تصير أسطورة. صحيح تستطيع ان تمنح لكل
شخص شيئا ما من خلال لا شيئ. غير انها لا تهدي هدايا لامعة لأنصاف المواهب و أشباه
المثقفين.
اخيرا صارت الرواية شعرا بكيفية او بأخرى ، كما صارت اسطورة ، حلما جمعيا ،
بل خلاصا منقذا ، جلادا ، توقف من تشاء و تجعل منه (ديدالوس) و تحرر من تشاء و
تجعل منه (بوميثوس) !. تسجن و تحبس مصير امة بأكمله بين دفتي كتاب.
انها الشر الجميل (بندورا) كما يقول "سبنسر".
انها بديل (القضاء و القدر) بالمعنى الاغريقي و حهاز قمع في نظام حكم
دكتاتوري.
لا دينقراطية في اللعبة او في ظل حكامة الرواية.
لذا لا عجب ان صار يلقب الاديب الروائي (بلزاك) بالإله !
يقارن بنابليون بوتابرت . ملك الاله (اوديب فرنسا) ، ازدرد الجيوش
وقاد اوروبا ، فإن بلزاك يستطيع أن يحمل
مجتمعا باكمله في ذهنه.
الرواية اليوم هي اسطورة "سرير بروكست". زعموا ان بروكست كان
يلجأ الى سجن سجنائه بغرفة مظلمة ، و يقوم
بعزلهم و يجري علبهم بمختلف التجارب، بل يخضعهم الى وضعهم على سرير خاص لديه ، فمن
تجاوزت رجلاه حجم السرير قطعهما ، و من قصرتا شدهما بحبال الى ان تتساوى و ججم
السرير. يوم ذاك سمي الكاتب الروائي بالسجان الجلاد "السادي".
بل أعتبرت الرواية اسطورة "اسمودة" لم يكن يكتفي بتتبع عورات
الناس و الكشف عن عيوبهم الاخلاقية و الخلقية ، بل كان يعمد الى نزع سقوف بيوت
ساكنة مدينة مدريد و الاطلاع عليهم وهم نياما !.
غير ان الاسطورة الأشد ارتباطا بالرواية في العصر الحديث هي اسطورة
"بروته" . إله في الاساطير الاغريقية ، وهو إله البحر و قد تلقى من
نبتون أبيه النبوءة ، و لكنه كان يرفض في معظم الاحيان أن يتكلم ؛ و لكي يهرب ممن
كانوا يسألونه فقد كان يغير شكله كما
يشاء.
في اشارة مقدرة الرواية في التغير و التكيف و التشكل و حتى التمويه.
الحكاية تشير الى خرافة (جورجيات فرجيل) 1952 . اسطورة قوة الرمز ، الهرب ،
و هذا الشيخ حارس الأشكال الممسوخة ، يعرف بحكمته اسرار المصائر. لدى البشر و
الألهة معا ، الا انه لا يبوح بها الا مرغما، فهو سريع الإفلات كالماء الذي يشكل
اسطورة عنصره ، و خداع كالشعلة ، و لسؤال هذا الإله و الإستماع الى كلامه ، لا بد
من الإلتجاء الى حيلة، و الوقوع فوقه على نحو مفاجىء ، و تقييده.... و مع هذا كله
لا يتكلم ، و هو حتى يكون مقيدا بالأغلال
يتحول بغضب الى حريق وحيوان و تنين وينبوع قبل أن يدعن الى حاجة الكائن
البشري الذي يلقي عليه السؤال.
تلك هي الرواية الحديثة التي صارت تتطلب برهانا بالتراجع مما هو في علم
الرياضيات. العودة الى الاسطورة مجددا.
صحيح لم تعد ثمة معجزة يونانية ليظل الفنان الروائي الحديث مشدودا اليها
بحبال الاسر و بأغلال القيود المذهب الاخلاق الكلاسيكي ، بل صارت الرواية إله هذا
العصر ، ليس الأدبي الفني الفكري فقط ، انما حين صارت الناس يراجعونها في مسالة
القضاء ، حالتهم الاجتماعية كالزواج و الطلاق ، الفقر ، الحرب و السلم و كافة
الأمراض و الأوبئة.
الرواية اسطورة كالنجاح إله هذا
العصر الحديث.
و الروائي الجيد الممتاز هو لا يكتفي بالسرد الممل الرتيب ، و لا بتلك
اللغة و الاسلوب الاسيرة للقوانين و التسطح المعرفي الاجتماعي و إلا لأنتجت لنا
للرواية لغويين و أسلوبيين أكثر مما نحن نعيشه من معيشة نمطية سيزيفية لا تبعث عن
أية غاية او هدف.
الروائي الجيد صار صانع اساطير قي زمن صارت فيه الرواية اكبر مجمعا
للاساطير (كارتل) ، و في زمن صار فيه الروائي إلها.
غير أن خشيتنا من ان توشي هذه الرواية بسر قوة شمشون الروائي الحديث الكامنة
في شعره و شعوره ، تقص شعره تخور قواه ، فجأة يسترد شعره و يهدم المعبد على من فيه
، و لا تبقى الا صيحته البتراء : "علي وعلى اعدائي بارب" يدوي صداها في
كا مكان.
حين ذاك لم يبق لنا الا مقولة الحكمة : من تعلم لغة الأساطير آمن شرهم !.