البكاي كمال كمال
من الخربشات
مدبرها حكيم
اقترب زفاف ابنته الكبرى، وها هو فصل الصيف قد دنا، ولم يتبق على عودة خالد
من بلاد المهجر، سوى أيام معدودات، قصد إتمام الزواج، وما في جيب الرجل الشيخ ذي
السبعين عاما، من المال ما يكفي لتغطية مصاريفه. رباه؟! كيف لي أن أًصور شعور هذا
الشيخ وهو ينظر إلى سقف الغرفة كل يوم، واصفا مشاعره التعيسة، وهو يسهر الليل
حيران، يفكر في آمال ابنته عائشة، ورغبتها في أن يكون كل شيء بخير؟ نامي يا ابنتي،
سيكون كل شيء بخير .
لقد كان يعلم بشعور ابنته، وما كان يدور في خلجات نفسها، من أن تقع في
الإحراج، فتضيع الزيجة، وتنتحر الأحلام التي رأت فيها الخلاص. كان يرى ذلك من خلال
عينيها الجميلتين، اللتين زادهما الحزن جمالا، فكان يذوب لحزنها، وينزف ألما في
صمت، ولا يقابلها بعد عودته من العمل، إلا والابتسامة تعلو وجهه، حتى يشعرها
بالأمان، فيطمئن قلبها، وتهدأ روحها، رغم أنها كانت تعلم أن خطيبها يعلم بحال
الأسرة وما تعيشه من ضيق. فالعمل الذي كان يزاوله الشيخ، بالكاد يوفر للأسرة ما
تسد به الجوع، والمبلغ الذي كان يتقاضاه في ورش البناء، جد زهيد. بل لا شيء، إذا
ما قورن بما يتقاضاه بعض الخلق بغير وجه
حق، في حين، أن هناك من هم أولى به، وفي مسيس الحاجة إليه، ولكن أنى لغلاظ الأكباد
هؤلاء، أن يعوا هول ما يعيشه الضعفاء من حزن، وما يعتري أرواحهم المجروحة من ألم،
وما يكابدونه من شقاء، في سبيل توفير كسرة خبز بالحلال.
لقد كان الجوع عندهم أصلا، والشبع استثناء. زوجة الشيخ المسكينة قد احدودب
ظهرها، من كثرة الغسل والكنس في بيوت الأغنياء، حتى هدها الشقاء، فأضحت رهينة
جدران البيت، لولا أن الله بارك في ابنتيها الوحيدتين، لماتت من الإهمال. أما
الصغرى وكانت تدعى عزيزة، فكانت تحمل من هم المسؤولية في تحمل أعباء البيت، ما
تنوء به أكتاف الكبار. حتى الدراسة، لم تمنعها من ذلك. فرغم حداثة سنها، تأبى إلا
أن تساعد ولو بالقليل. لذلك كانت تحاول أن توفق بين دراستها، وعملها أيام العطل،
خادمة لإحدى الجارات، قصد توفير متطلباتها البسيطة، من كسوة متواضعة، وأقلام
ودفاتر، وما يتطلبه الفصل من أدوات، وتساعده أبناء الجيران في إنجاز واجباتهم، مقابل
دريهمات معددات، تجود بالنهار للحاجة، وتقضي الليل ساهرة تذاكر، ولا تغمض إلا
قليلا.
لم تكن عزيزة كسائر البنات الأخريات، ممن كن يتنكرن لأصلهن ويرفضن الواقع،
ويحاولن أن يلبسن جلد الأغنياء، خوفا من الإحراج أمام زميلاتهن. اللعنة على هذا
التفكير الأعرح المشلول، واللعنة على كل تفكير باطل، يحاول النيل من تضحيات الأب، وتبخيس ما يقوم به من جهد، في سبيل توفير
حياة كريمة لأسرته.
كثيرا ما كانت عزيزة تبكي، عندما تخلو بنفسها، رحمة بأبيها الشيخ، وهي تسمع
سعاله الذي رفض أن يشتري له الدواء، رغبة في توفير مصاريف العرس. يخرج إلى العمل
فجرا، ولا يعود إلا في المساء. تراه يدخل البيت بعد عودته من العمل منهكا، وقد
أعياه الصعود والنزول في السلالم، حاملا أكياس الإسمنت على كتفيه الهزيلتين، حتى
تقوس ظهره، وشحب وجهه، فتسرع إليه تقبل رأسه، وتأخد بيده الى الحمام، وقد أجلسته
الكرسي، و أعدت له سطلا ساخنا من الماء، به قليل من الملح، تدلك به رجليه
النحيليتن، وتتلمس عروقهما كساقي عصفور ضعيف، والابتسامة تعلو وجهها، تمازحه
"وفي قلبها حزن يذيب الحجر. ليس اعتراضا على قدر الله، ولكن رحمة بأبيها
المسن، وهي تراه يشقى ويتعب، على ما به من وهن، وهي عاجزة لا تستطيع المساعدة .
أقسى ما كان يؤلم روحها الجميلة، أن ترى الحزن مرسوما على ملامحه، حين
يقترب موعد السوق الأسبوعي، ولا يجد ما يبتاع به الخضر. لا سيما إذا كان بدون شغل.
أما أختها الكبرى عائشة، وهي المحظوظة من بين بنات القرية، التي اختارها خالد
لتكون زوجته، فقد كانت تساعد بما توفره من عائدات الخياطة وترقيع الملابس، في
تكاليف البيت، وتترك الباقي لتجهيز ما تحتاجه من لوازم العرس. طيبة جدا، إلى درجة
أنك تستطيع أن تبكيها بأبسط الكلمات ولو مزاحا. مواظبة على صلاة الفجر، بيضاء
البشرة، خجولة جدا كأنها القمر. تستيقظ قبل والدها صباحا، تعد له الفطور، وتدفئ له
ماء وضوئه، ثم تودعه ويداها مرفوعتان إلى السماء، وقلبها معلق بالله، تدعو له
بالحفظ والسداد، وأن يرجعه الله سالما محفوظا من أي سوء. أحبته حبا عظيما، وآثرت
راحته على راحتها، حين قررت الانقطاع عن الدراسة في سن مبكرة، كي تساعد في تكاليف
البيت، فحملت هم المسؤولية وهي ما تزال صغيرة في سن العاشرة، وها هي الآن في
الثلاثين من العمر، حتى ساق الله إليها هذا الشاب، يطلبها من أبيها للزواج، بعد
غربة دامت خمسة عشر عاما، استطاع خلالها أن يجمع من المال ما يضمن له العيش
الكريم،
لقد كانت المسكينة تخفي من الألم الكثير، وتدعو الله أن يأتي بالفرج، حتى
يمر كل شيء كما تريد وتشتهي، ولكن عوز الأب المسكين، وقلة ذات اليد، وعلمها
بالحال، كلها أمور كانت تزيد من عمق ألمها وحزنها، خاصة عندما تفكر في اقتراب موعد
قدوم خالد من السفر، وما في البيت من مال يغطون به تكاليف العرس. لقد كانت تخفي
وراء ابتسامتها التي تعودت أن تقابل بها الشيخ بعد عودته من العمل، الكثير الكثير
من الألم. دون أن يدري بها أي أحد، فلا تظهر
أمامه إلا وهي طلقة الوجه مبتسمة، حتى لا تزيد من عمق مأساته، وهو الذي
رباها وأختها، ولم يبخل عليهما بالقليل أو الكثير. فعل كل ما في وسعه وزيادة .
هكذا كانت تنظر عائشة إلى الواقع، وتترك الأمر كله على الله. ولكم أن تتصوروا شكل
الهدية يا سادة، عندما يلقي الواحد منا بأمر همه كله على الله.
انتشر خبر قدوم خالد من السفر في القرية كالنار في الهشيم، حتى وصلت أصداءه
بيت الشيخ أحمد، وإذا بعائشة تنتفض، بعد أن نقلت زينب جارتها إليها الخبر. كانت قد ذهبت رفقة أمهما إلى
السوق، وإذا بها ترى جموع الناس يلتفون حول شخص لم تميزه جيدا بين الجموع، حتى
رأته وهي تعبر الطريق قبالتهم، فبان لها أن الغريب خالد. خطيب صديقتها عائشة، فأبت
إلا أن تنقل الخبر على عجل لأعز صاحبة لديها، وها هي عائشة الساعة محتارة لا تدري
ما تقول وما تفعل. نادت عليها أمها من غرفتها، بعد أن أحست بحركتها وهي تقطع البيت
جيئة وذهابا، وما ألفتها قبل ذلك إلا صامتة في
غرفتها، منكبة على آلة الخياطة ترقع أو تخيط:
- ما بك يا ابنتي ؟ أراك على غير عادتك؟ هل من شيء؟
- لاشيء يا أمي، فقط جارتنا زينب،
جاءت لتخبرني بأن خالد قد وصل القرية هذا الصباح.
- الحمد لله على سلامته. قومي اغسلي وجهك يا ابنتي، فالحزن لا يليق بك وأنت
عروس.
- آه يا أمي، لم أشعر طيلة مدة
مكوث خالد في المهجر كما أشعر اليوم، وأنت تعلمين خبايا البيت، وقلة حيلة والدي
المسكين، وإني محتارة في أمري كله، فخبريني ما العمل ؟
- أي بنتي، كم من كربة عشناها مع
أبيك وما كنا نعلم أنها ستزول، حتى جاءنا الفرج من حيث لا ندري. وإني قد رأيت لك
رؤيا، أرجو من الله أن يحققها لك ، فما صليت صلاة إلا ودعوت لك بالتيسير والتسهيل،
فقومي اغسلي وجهك، قد اقترب موعد قدوم أبيك الشيخ، واعلمي أن برك بوالديك لن يضيع
سدى. وما هي إلا لحظات حتى سمعا الباب يقرع، وإذا بالشيخ على الباب، وقد تهللت
أسارير وجهه، يحمل بيده اليمنى كيسا مملوءا بالفواكه، وفي يده اليسرى حقيبة جلدية،
يبدو من خلال شكلها أنها باهظة الثمن، فمن أين للشيخ بثمنها وثمن الفواكه يا ترى؟!
كانت عائشة تفكر دون أن تجد لأسئلتها الجواب. منعها الحياء أن تسأل أباها
عن سر ابتسامته ونشاطه غير المألوف. وكأنها أمام رجل آخر غير أبيها الشيخ. وبحكم
تربيتها لم تبادر بالسؤال، تركت المجال لوالدها الشيخ، ليخبرهم أن خالدا قد زاره
في ورش البناء، واستفرد به بعيدا، يعانقه ويسلم عليه، ليقص عليه خبر صديقه القديم وهو في المهجر.
لقد حصل أن التقى خالد بأحد الأشخاص من أصول مغربية، جمعتهم الصدفة في محاضرة
بإحدى الجامعات، ليتضح في الأخير أن الرجل من القرية نفسها، كان قد غادرها من زمن
بعيد، فأبى إلا أن يصطحب خالدا معه إلى المنزل، ليولم له، ويفرح باستضافته أيما
فرح، جعل خالد مستغربا يقول الأب. وبعد انتهاء وجبة العشاء، طلب الرجل من خالد أن
يخبره بأسماء شيوخ القرية الذين ما زالوا على قيد الحياة. يقول خالد: فبدأت أجردهم
له واحدا واحدا، إلى أن ذكرت اسمك، فانتفض ووقف وقال: حسبك. أحمد. أحمد من؟ فأجبته بالقول إنك أحمد بن الشيخ عيسى رحمه
الله، فبكى الرجل الهرم، وكان يقارب السبعين، ثم قال لي: يا ولدي، في القلب حكاية
لو قصصتها عليك، ربما لن تستوعبها لفارق السن بيننا، ولكن لي عندك رجاء، لو حققته
لي، سأكون ممتنا وشاكرا لك مدى الحياة، وبيتي مفتوح لك، وشركتي أيضا، من الآن عدني
سندك بعد الله في هذه الغربة. حقق لي أمنيتي، وأوصل أمانتي إلى الرجل يوم تسافر،
وقل له: أرسلها إليك صديق قديم، كنت تقاسمه اللقمة وتبين رفقته بالوادي في العراء،
قل له ذلك، واترك الباقي للشيخ، هو أدرى بما أقول. قال خالد: فما كان مني إلا أن
وافقت، دون أن أسأله عن علاقته بك، دفعا لأي إحراج قد أضع الرجل فيه وأنا لا أعلم، لا سيما وأنه كان طيبا جدا معي، إلى درجة جعلتني منبهرا
بصنيع الرجل. وما زلنا نتجاذب أطراف الحديث، إلى أن أخبرته بنية اقتراني من ابنتك،
ففرح فرحا كثيرا، وفتح صدره لي، وأخبرني أنك كنت تترك بيتك، وتبيت رفقته في
العراء، وتقتسم زادك معه، يوم كنتم صغارا، حين كان يطرده زوج أمه المتسلط، وإنك الوحيد
الذي لم يطلك النسيان بذاكرته، وقد أقسم علي، وأبى إلا أن يكون حفل زفافنا على
نفقته، هدية منه إليك، كما كلفني بشراء منزل مجهز لك، وقد فعلت، وما عليك الآن إلا
أن تنتقل إليه رفقة أسرتك، وتخبر عروسنا أن موعد الزفاف سيكون الأسبوع القادم، ثم
أوصلني إلى البيت، وسلمي هذه الحقيبة، فافتحيها لنرى ما بها، فقد استروحت وزالت غمتي، وأنقذني الله بفضله.
لقد كانت عائشة تمسك الحقيبة بين كفيها، وتنصت لوالدها في خشوع، والدموع
تناسب على خديها، ويداها ترتجفان وهي تحاول فتح
الحقيبة. وما إن فتحتها حتى اندهشت من هول ما رأت. فستان عروس لا يليق إلا
بالأميرات، وطاقم من الحلي والذهب الخالص، وعلبة صغيرة بداخلها خاتم من الألماس،
على قد مقاس أصبعها الجميل، ففرحت فرحا عظيما وقالت لأمها تعانق وتقبل وتقول: هذا
تأويل رؤياك يا أمي يا هذا تأويل رؤياك.