البكاي كمال كمال
من الخربشات
ملابس العيد
إن محاولة الدخول إلى عالم الحزن، والكتابة عنه بأسلوب أقرب إلى الحقيقة،
يتطلب من الإنسان أن يبذل جهدا جبارا، حتى يستطيع أن ينتقل بالقارئ إلى تلك
المواقف التي تفرزها الأحداث، فيعيشها بكل جوارحه. وإنه كلما كان الشعور بحزن
الغير صادقا، كان الشعور كذلك. لا سيما إذا جمعت بين الكاتب والشخصية، قواسم
مشتركة حول المضمون. الحزن. في ثوب الحرمان. وإن كان اختلاف الحزن بينهما من حيث
طبيعته، لا يؤثر على الوصف الدقيق، أو بالأحرى، الوصف الأقرب الى الحقيقة، من بين
جميع الأوصاف التي يمكن أن نخلعها على شعور الشخصية، وهي تتجرع الألم قطرة قطرة.
وقصة اليوم، وإن كانت لا ترقى إلى مستوى هذا الفن النييل، أسوقها إليكم من رحم
الواقع، كنافذة نطل من خلالها على ما يجري فيه من مذابح في حق الأطفال المعوزين.
اقترب عيد الفطر، ولم توفر نجية بعد ثمن الملابس التي وعدت بها البنات قبل
عام مضى. عربة النعناع وما تدره من ربح، بالكاد يغطي مصاريف البيت الصغير، من كسرة
خبز، وقليل من الدقيق، ونصف لتر من زيت الزيتون، وبعض حبات من الخضر، التي كانت
تبتاعها نجية بعد أن يشرف السوق على الانتهاء، ويبدأ الخضارون بجمع صناديقهم تأهبا
للرحيل. فما كان لديها من مال، لم يكن يكفي لشراء ما تود اقتناءه من مؤونة
الأسبوع، لغلاء ثمن الخضر، في الساعات الأولى من عمر النهار. لذلك، لم تكن تؤثر
الذهاب حتى آخر ساعة، حيث ترخص أثمان الخضروات، وتنخفض الأسعار تشجيعا على التبضع.
أما ما تبقى من إيراد العربة، فكان يأكله الكراء.
لم تكن نجية يوما تفكر في مواجهة الشدائد والمحن، حتى توفي زوجها عباس،
ووجدت نفسها وحيدة في عالم لا يؤمن بالرحمة، تتجرع الألم على مضض، وتصارع قسوة
الحياة بقلب ضعيف. غارقة في التفكير. تبحث عن حل يمكن أن يخفف حدة ما تمر به من
أزمة، قبل أن تقرر وتعقد العزم على الخروج إلى الشارع بحثا عن عمل، إلى أن استقر
بها الأمر في عربة النعناع، رحمة ببناتها الصغيرات. فكانت تخرج في الصباح الباكر،
بعد أن تعد لهن الفطور، ولا تعود إلا مع أذان الظهر. تعد الغذاء، وتستريح قليلا
حتى صلاة العصر، ثم تعاود الخروج، ولا تعود إلا مع صلاة العشاء. وهكذا كان ديدنها
بقية أيام الشهر. مكتوب عليها أن تجاهد من أجل كسرة خبز.
كانت كبرى البنات تدرس في السادسة ابتدائي، أما الوسطى، فكانت في الصف
الثالث، بينما آخر العنقود، فكانت تدرس في الصف الأول ابتدائي، وكن جميعا يرتدن
المدرسة نفسها. لم يكن يشغل نجية حينها إلا كسوة العيد، وأن ترى السعادة مرسومة
على ملامح بناتها، مثل باقي أطفال الحي، وتلامذة المدرسة، ولكم آلمها وهي تسمع
ابنتها الصغرى تخاطب أختها الكبرى قائلة:
- أخبرتني صديقتي التي تجلس بجانبي في الفصل، أنها اشترت ملابس العيد،
وسألتني إن كنت قد اشتريت، فلم أعرف بم أجيبها.
لم تتمالك نجية نفسها وهي تسمع ابنتها الصغيرة تحكي لأختها ما دار بينها
وبين زميلتها من حديث، فأجهشت بالبكاء، بعد أن دلفت غرفتها، من دون أن تحدث أي
صوت، يمكن أن يلفت انتباه البنات، فيعلمن بقدومها. لقد كانت المسكينة ترغب في أن
تخلو بنفسها كي تفرغ ما بداخلها من ألم، وتحاول أن تتضامن مع ابنتها الصغيرة ولو
بالدموع.
أي حزن ترى خيم على بيتك يا نجية؟ وأي ألم بات يقطعك وأنت تسمعين صغيرتك
تحدث أختها عن ملابس العيد؟ عن أي جزء فيك سأتحدث؟ أعن العينين اللتين غاراتا من
كثرة همك؟ أم عن رجليك وهما ترتعدان، بعد أن وضعت يديك على خديك، وقد نسيت أن
تخلعي جلابتك حتى؟ أم أتحدث عن الآهات التي كانت تخرح من صدرك المحروق تترى كأنها
شهب من نار؟
لقد كانت روح نجية تتقطع، وهي تسمع ما يدور بين ابنتيها من حديث، في الصالة
المجاورة لغرفتها قرب الباب. فلما همت بالخروج، وبعد أن جففت ما بمآقيها من دموع،
كي لا تراها البنات على تلك الحال فيحزن، استوقفها رد ابنتها الكبرى وهي تقول
للصغيرة:
- نعم، إنه العيد يا أختي، لا داعي للقلق. ستعد لنا أمي كعكعة كبيرة، وسنفرح
ونمرح، وأعدك أن أشتري لك ملابس كثيرة، عندما أكبر وأحصل على وظيفة. هذا وعد مني،
لكن، لا تخبري أمي بما دار بيننا من حديث عن ملابس العيد، ولا تحدثيها بما أخبرتك
به صديقتك. يكفيها ما هي فيه من تعاسة وألم، حتى نضاعف حزنها نحن، ونعمق جرحها
ونسبب لها الألم ونحملها ما لا تطيق.
يا إلهي، لقد تجمدت نجية في مكانها وهي تسمع رد ابنتها الكبرى وكأنها
مومياء. هل تخرج إليهما والدموع بعينيها؟ أم تبقى بالغرفة قليلا ريثما تجف الدموع
وتنشف الأحداق؟ لم يكن أمامها سوى أن تمكث بالغرفة كي لا تسبب لبناتها المزيد من
الألم، إذا شاهدنها منهارة على تلك الحال.
لم تكن نجية تتوقع من ابنتها الكبيرة مثل هذا الرد. لقد شاخت قبل الأوان،
وحملت من هم المسؤولية وهي صغيرة، ما يعجز بالغ عن حمله، إذ كيف يعقل لهذه الصبية
التي لم تبلغ الحلم بعد، أن تفكر بطريقة الحكماء؟ لا شيء يفسر ذلك، سوى ما أودعه
الله تعالى من رحمة بقلبها، رأفة بأمها التي لا يعلم بحالها أحد سواه.
إن رؤية الأحزان بعيون من نحب، أمر يجلب التعاسة ويسبب الألم، ويزداد الألم
قسوة، حين نعجز عن تبديد ما بقلوبهم من شجن. وكذلك كانت نجية مع بناتها الثلاث. لم
يكن باستطاعتها أن توفر لهن ما يردن ويشتهين. أعيتها الحيلة، وأرهقها التفكير في
شعورهن، وهن يرين صحيباتهن يرتدين الملابس الجديدة. تأثرت كثيرا، ثم فوضت أمرها
إلى الله، فقامت إلى باب المنزل، ففتحته في هدوء، ثم أغلقته، لتوهمهن أنها قدمت
للتو، متظاهرة بعدم سماع ما دار بين الأختين من حديث.
نادت عليهن أن أحضرن. أسرعن. أحضرت لكن الحلوى. هبت البنات إليها يعانقنها
ويقبلنها وكأن شيئا لم يكن، وهن لا يدرين بأنها باتت تعلم بكل شيء. وبعد أن وزعت
عليهن قطع الحلوى، قامت فأعدت لهن العشاء، فلما انتهين، قالت لهن:
- لم يعد بفصلنا عن العيد إلا القليل، وأنا أعلم أنكن تردن الملابس، وقبل
أن تكمل الأم كلامها، قاطعتها البنت الوسطى، بعد أن قامت وقبلت رأسها وجلست إلى
ركبتيها قائلة:
- لدينا من الملابس ما يكفي والحمد لله، فلا تحملي نفسك أكثر من طاقتك.
هوني عليك. وإن كنت حزينة لأجل أختنا الصغيرة فاطمة، فمعي بعض الدراهم، ولأختي
عزيزة آلة حاسبة من جوائز المدرسة، كانت إحدى صديقاتها قد طلبت منها شراءها يوما.
نبيعها فنضيف ثمنها الى المبلغ الذي بحوزتي، فيصير لدينا ثمن لباس أو حذاء على
مقاس فاطمة. أما نحن، فقد كفيناك همنا. فلا تحزني وابتسمي كما عودتنا، وهلمي إلى
الفراش تحكي لنا قصة اليوم.
كانت كلمات البنت تنزل على قلب الأم كندف الثلج البارد. أحست نجية حينها
بحنان البنات، وشعرت بتضامنهن، رغم صغر أعمارهن. فقامت وغسلت وجهها، وجمعتهن
بالغرفة، وتوسطتهن، كما تفعل كل أم رحيم، ثم بدأت تقص عليهن الحكايا، وتتأمل في
وجوههن، حتى خلدن للنوم. وفي جوف الليل، قامت فتوضأت، وفرشت سجادتها، وباتت تركع
وتسجد. تدعو الله وتتضرعه أن يفرج كربها، ويسوق إليها رزقا تجبر به خواطر هؤلاء
الأيتام. وفي الصباح الباكر، وقبل أن يستيقظ الأطفال من نومهم، نهضت نجية كالعادة،
تتفقد عربتها، استعدادا للخروج إلى العمل، وكدأب كل يوم، فتحت نجية باب البيت كي
يتنفس قليلا، ويدخل الهواء إلى أرجائه، وإذا بها أمام ثلاثة أكياس بلاستيكية
جديدة، يبدو من مظهرها أنها باهظة الثمن. لم تكن نجية تدري ما بداخلها من أشياء.
ترددت في أخذها في بادئ الأمر، فلا تعلم من أتى بها إلى هنا، وليست متأكدة من أنها
مرسلة إليها، رغم أنها وجدتها معلقة بمزلاج الباب. لم تشأ أن تأخذها، حتى رأت
أسماء بناتها مكتوبة بالخط العريض على ظهور الأكياس. ترى، أتكون صدفة؟ أم أن في
الأمر سرا مدبره حكيم؟
لم تكن تلك الأكياس إلا رحمة ساقها الله تعالى إلى أولئك الأيتام، رحمة
بأمهم المسكينة. فما ضاع دعاء نجية عند رب رحيم. لقد كان في الأكياس ملابس كثيرة،
وعلى مقاس بناتها بالضبط، وكأن المشتري كان يعلم جيدا بمقاسهن. سبحان الله! عندما
تلجأ إلى الله وقلبك مفعم باليقين، ترى العجب. فاعل خير، سخره الله من حيث لا تدري
نجية، ليكون سببا في إدخال الفرحة والسرور على قلوب الأطفال.