جاري تحميل ... ألف ياء

إعلان الرئيسية

إعلان

عاجل

إعلان في أعلي التدوينة

جديد علَّم نفسك

 

زكرياء نورالدين

 

رحيل آخر...

   إستنفذ علبة سجائره في الهزيع الأخير من ليل سوداوي، كأنه امتداد لسرمدية غيبوبته المصطنعة من وطأة الإحتياج لأفيون نفَسِها، يبحث في الأرض عن بعض ما تركته شفاهه من أعقاب لا تغري حتى النهم لقطرانها النتن، متورمَ الأنف محمر العينين، من جو يكاد يكون أقرب للأقبية، يسترجع من خلاله بعضا من كرامته المفقودة ساعة انصرفت دون أن تترك فيه ولو القليل من كبريائاته التي فارقت مروءته قبل أن تفارقه.

  جاثيا على الأماني المتنازعة في طلبها، يستذكر كيف لم تُعره بعضا من الأحلام للقاء قد يرمم ما قد كُسر قبلها، فما كان لها إلا أن حازت على كل تفكيره دون أن تستأذنه أو أن تفصح له على أنها متزوجة، و ما ينبغي لها أن تجالس روحه أو يجالسها، في العرف تسقط الآمال لتستطيل آلاما و هو الذي رعاها في نفسه دون أن ترعاه.

_ هو ابني و لا حاجة لك أن تعرف أكثر.

    كذلك الموت؛ لا يستشير أحدا و إن طال موعده آتْ، في نفسه نفس الوقع، كالموت كانت كلماتها ساعة اللقيا، و التي عاش استدراكها و استحضارها كالتحضير لها و هو يقتني طقما كلاسيكيا أراده أسودا بياقة و باقة نرجس و ولاعة زيت.

   يدرك الرجال أحيانا حاجة المرأة لزفرة دخان.

     كانت القناديل خافتة، و الأرصفة بالكاد ترى، في قلب مدينة مرسيليا تفوح رائحة الأقبية المثخنة بالنبيذ و الأجبان إلا أن سحر عطرها الباريسي جعل من الأجواء مروجا، في هكذا أجواء لا بد من زخات المطر و التي كانت حاضرة دون دعوة، لم يغفل أن يجلب مطرية لعله يوكل إليها مهمة التدثير ساعة ضمها أسفل ذراعه إلا أن الأمر لم يكن كما خطط.

_ نعم إنه إبني و قد لا ترانا ثانية نأمل في السفر فالحرب تدق طبولها و لست أقوى على فقدانهما.

    الحرب...

    شظية واحدة من قرارها أجبرته على العودة من جديد لألمانيا، يعلم جيدا أن رأسه ستكون مطلوبة، و يجب أن يفر هو الآخر، ليس خوفا من المستقبل و ما يدركه من مآل، لكن الأمر كله في رحلتها التي أُرغمت عليها و أوقعت في نفسه صفة الشريد الملقى على قارعة طريق أو رصيف حانة، كالمخمور ساعة أفضت إليه أسرارها و رمته في خندق يتتبع فيه أعقاب سجائره و لفائف الموتى.

_ و من سيضمد جراحي حين ترحلين؟ لا يهمني من يكون أو كيف يكون لكنني الآن شخص أحب دون أن يكترث للعواقب.

_ لا جدوى؛ فقد اوكلت إليه مهمة في الجيش، و لا بد من

السفر.

   و انصرفت تاركة كل شيء المطرية، البذلة و النرجس، و كل القلب الذي كبر في حضرة عشقها، لم يستوعب أن ذلك الصوت هو وقع كعبها على طيف ظلها الخافت، و نظرة ابنها التي لازمته و هو يجثو كما يجثو الآن ببندقيته التي وضعها على رأسه سائلا إياه: أنتم فرنسيون...؟!.

   هنا؛ الأمر كله رغبة في الحياة، الكل يعلم أن سبيل الإبقاء عليها هو المجازفة بها، لا يزال قلبه يحمل بعضا من عبق الأزقة الضيقة و الحانات و المشاقة الفرنسية و الرقصات، إلا أن الحرب لا تُعيرُ الفرص أو الأمل وقتا،  شأنها شأن الموت هادم.

      _ دومينيك...؛ هاته رسالة مني إليك، قد تكون الصدف جريمة دون عقاب، أو سُلطة دون ميزان، إلا أنني لست نادما على هكذا رسالة، لم أكن أعلم أن الذي غرزت فيه حربتي هو نفسه "جاك" زوجك.

    لا تحمل الموت أخبارها في ساحة الوغى، كل و دوره، قد يطول الأمر بيد أنه منتهي، إلا أن الصورة التي وجدها في جيب المعطف الذي غنمه من جسد الرجل الملقى على مرمى حجر كانت لهم، ثلاثتهم "دومينيك، جاك و بيار الفتى" الذي نظرهُ نظرة المتوعد، لم يدرك خطورة مراسلته لها، إلا أنه اراد أن يعلمها أنه هو من أجهز على قلبه، دون قلب زوجها و ليست هي من حملته على فعل ذلك.



زكرياء نورالدين الجزائري 2023.


***********************


***********************

إعلان في أسفل التدوينة

اتصل بنا

نموذج الاتصال

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *