فكرة قذف الناس الى عصرهم
العقيد بن دحو
فكرة (القذف) هذه تعود الى مطلع الحرب العالمية الأولى.
و بينما كانت الحرب المسعورة يجن جنونها ، تأكل الأخضر و اليابس ، تحرق و
تدمر كل من يواجهها ، أتخذ من وسط هذا الدمار و الخراب مجموعة من الفنانين
التشكيليين من شعار "كل شيء لا شيء" عنوانا و أسلوبا لهذا الخراب و
الدمار.
و في سنة 1916 من بقايا الأشياء المحطمة ، من الأزرار المهشمة ، بقايا
الأقمشة الممزقة ، بقايا الاحذية و الخيوط و الألواح الخشبية.... أبدعوا لوحة فنية
، و قوالب تصب في قاعدة تمثال هذا الدمار.
في اشارة على البحث عن الجمال و الفن البديل في أوج أتون هذا القبح الذي
صنعته الحرب ، جنون التاريخ من مآسي و تعاسة و شقاء الشعوب
.التفكك...التفتت...اللجوء الى الأساطير....الهروب من المجتمع...اللا إنسانية و
الغربة.
انها التعبير عن خواطر النفس في مجراها الحقيقي بعيدا عن أي إلتزام يفرضه
العقل أو المنطق ثم الإيمان بسلطان الأحلام المطلق.
انها السيريالية او ما وراء الطبيعة.
ومن خلال الأسئلة التي يطرحها الهشيم أي المذهب يبدأ التفكير في الخلق و
الهدم من جديد :
- لماذا هذه السيريالية؟
- من الذي يتخذ القرارات؟
- من الذي يوجه الأعمال؟
- الى من يتوجه المرء طلبا للعدل و المساعدات؟
هذه الأسئلة التي تتردد في جل كتابات كتاب القرن التاسع عشر مثل (كافكا) :
الحق لا يعطونه
الحق يمنعونه
وحدهم الاغنياء الذين يعملون...يعملون... يعملون !.
الإجابة عنها المحسوس فيها يصير
غير محسوس ، و المرئي يصير غير مرئي ، و من وراء الواقع الذي تدركه الحواس هناك واقع رهيب يتخطى الخيال لا يمكن التعبير
عنه الا بالمعادلات الرياضية ، بل بالجنون مادته و تيمته الأصلية ، مادامت الحرب
صارت تُنعث "الجنون التاريخي" ليس بذاك الجنون السماوي الأفلاطوني
المتعلق ( بالأخذ) الأرسطي و لا بالجنون الأرضي الاكلينيكي العقلي السيكولوجي ، و
لكن بجنون العبث و اللاطائل ، الشعور بالغربة الشاملة تتحول الى اليأس الكامل ،
يتحول بدوره الى العدمية.
وحده الشاعر الناقد الكاتب الفيلسوف (فريدريك فيلهيم نيتشه) ، المدعو
"المطرقة" عرف كيف يطرق ابواب التماثيل البرونزية و الرخامية و الأقنعة
، من الأصنام و الأزلام و الأنصاب التي تخفيها الحالات و الظروف الإجتماعية ، يحطم نظرية نسبة و تناسب (ستانسلافسكي) و كذا
الرؤية من خلال الحجوم و الألوان و حتى بالكلمات و الإنطباعات المعاشة ووقائع
الشعور. لكنه بالمقابل نسي أن يطرق رأسه و
يجلب الخلاص لنفسه و ينقذها من الجنون و من أمراض المستشفيات العقلية و
النفسية. يكشف ويوقظ العملاق النائم من
قمقم "الحداد يليق بإلكترا" !
ان نيتشه أكثر الفلاسفة الأدباء الفنانين من جيله فهم الإنحلال الإجتماعي ،
ذاك أن "العدمية" صفة سامية من صفات هذا الإنحلال و ليست (الحلول) من
حيث الحب وطن الحلول.
أعلن ازدهار العدمية بقوله : ان
الحضارة الأوروبية منذ امد طويل ، من جيل الى جيل تنزلق نحو شيء كأنه الكارثة
الأعم الشاملة. كما وصف العصر الذي قُدف الناس اليه قذفا بأنها أفكار وجودية
متقدمة . انه عصر الإنحلال و التفكك الداخلي الشامل ، العدمية الراديكاالية .
العدمية ليست علّة الإنحلال فحسب انما
منطقه.
وكما كانت لهذه الفكرة (القذف) ؛ و كأن الناس جميعا وضعوا بمدفع عملاق واحد
ثم قُذف بهم الى عصرهم !. وجود مبدع عدمي ، كاتب عدمي ، اديب عدمي ، فنان عدمي ،
مثقف و مفكر عدمي لا يعول على أحد ، محبط من هذه الطبقة البورجوازية الأوروبية
السأم ، الملل ، الكلل ، و الفشل التي افرزتها تبعات منتصف القرن التاسع عشر.
تأثر الفنان العدمي بصفة عامة بمحيطه المفكك ، المفتت و هو يرى حجم ضخامة
هذه الآليات التي تصبح عليه و تمسي و كأنها كتابات هيروغليفية التي يتعامل معها شبه يومي ، القضاء و القدر ؛
أين تفوّق العقل التكنيكي عن العقل الطبيعي ، أذ تكفي قراءة خاطئة صغيرة بمقدار
مثقال (ابسيلون) على لوح جهاز رادار آلية من هذه الآليات مكمن الخطيئة الكبرى حتى
تعلن عن فناء البشرية او نهاية العالم. هي نفسها الكارثة لو وضعت شفرة حقيبة نووية
في يد رئيس او ملك مجنون بلد نووي ، و انتابته نوبات هيستيرية و أقبل على الإنتحار
، سيتبع موته موت رجل آخر...ثاني...ثالث و الى ما لا نهاية من موت حتمي للبشر ،
سيكون مآل العالم الجحيم.
يجب أن يبقى الجنون متزنا بحيث طاقة البشر لا تتجاوز قدرة البشر.
فليس ثمة حد تقف عنده همجية هذا العالم. ومن يتصور في هذه الدنيا ما يستحق
العيش من أجله أو يستحق اهتمام الإنسانية انما هو أحمق أو نصّاب أو انتهازي . جميع
البشر أغبياء ، يكتنفهم الشر و تطوقهم الخيبة ، الظالمون و المظلومون سواء ،
الاغنياء و الفقراء ، أصحاب (الفوق) و أصحاب (التحت) ؛ السفليّة منهم و العليّة ،
المدافعون عن الحرية و المستبدون.
العدمي لم يعد يريد شيئا يرى الكسب كل الكسب في الخسارة اكثر منها في
الكسب..الآن العدمي بإمكانه الحصول على كل شيء لأنه لا يريد أي شيء ، و كل شيئ لا
شيء !.
غير ان (جوتفرد بن) يرى ان العصر سيكون اكثر راديكالية ، أكثر ثورية ، و
أكثر تحديا للإنسان ، الإنسان القوي المتماسك يقف وسط الجميع ويعلن : هكذا كنتم في
الماضي ، و هكذا انتم حاليا في الحاضر ، و هكذا ستكونوا في المستقبل !
اذا توفر لكم المال لن تدخروا جهدا تحولوه لقضاء مصالحكم ، و اذا توفرت لكم
السلطة لن تتأخروا في تبرير مواقفكم و اخطائكم ، و اذا كانت القوة بجانبكم كان
الحق بجانبكم ايضا !.
هذا منطق التاريخ حيال الحرية ، و حيال قوى الخير و الشر عندما يعيد
التاريخ على محور الزمن نفسه دورتين ، دورة في شكل مأساة ودورة أخرى في شكل مسخرة
و سوف تكون نهاية هذه الحرية هي نفسها نهاية هذا التاربخ.
هذا هو منطق التاريخ عموما و من لا يقبل هذا المنطق فليعش كالديدان تنضح من
رطوبة الأرض.
هي دعوة سابقة عن (جولدن شتاين) يجب على الإنسان اللايظهر في الصورة . يجب
مواراته وراء البيروقراطية ، وخلف الطابع الصنمي للسلع ، الماركتينغ ، و الموديلات
، و البروبجندا....
اما انسان نيتشه انسان بلاصفات Homo sine qualitate.
هو انسان يختلف كليا عن الإنسان العارف Homo sapiens ، و عن
الإنسان اللعوب Homo ludens ، و عن الإنسان الشاعر Homo poetics، وعن الإنسان الخرافي الأسطوري Homo Faber..
عن انسان (ألبير كامو) ، (سيزيف) من عاقبته الآلهة اليونانية أن يرفع حجرا
الى قمة الجبل و كلما أوشك أن يصل يعود الحجر صعدا نحو البدء. سيزيف أو (سيزيفون)
يعلم بأن عمله هذا يقوم بالعبث السرمدي ، لكنه مجبر لا بطل أن يتثبت بهذا المصير
حتى ان كانت الحياة بهذا الشكل العبثي. وهو ليس بإنسان يونسكو في (الخراتيت) ، و
لا بإنسان القلعة السيد (K) السيد (كلام) في رواية القلعة، انسان
(برناد شو).
انما هو انسان
يريده نيتشه انسان جديد شجاع مطرقة بشرية تحطم جميع القيم و العادات و
التقاليد البالية المتوارثة و كذا الاعراف و العلاقات الإجتماعية الستاتيكية و
يبني و يشيد قيم و عادات و تقاليد اخرى جديدة متجددة في رحم الزمن ؛ حسب منطق
العصر الذي قذف اليه سلفا.
كانت هذه فكرة قذف الناس الى عصرهم فإنهم لا يعرفونه ، لا يعلمون بأنهم
أصبحوا جزءا لا يتجزأ من هذا التشظي ، من هذا الشطط ، و من هذا الشواش .
كانت مخرجاته عدميا لا يرى نفسه الا مكملا و متمما لهذا الخراب... و ما بقي
الا الإعلان عنه بكل شجاعة في وسط هذا الإزدحام منطقه كل شيء لا شيء !.