مصطفى الحاج حسين
(مرحىٰ للعقّاد الثاني..)
بقلم: محمد بن يوسف كرزون
(كاتب وروائي سوري)
عرفتُ الأديب والشاعر مصطفى الحاج حسين أديباً مشاغباً في رواقات مدينة حلب
الثقافية المتعدّدة، يكتب قصّة قصيرة مدهشة، مذهلة، تفاجئ القارئ بواقعيّتها
الشديدة وبصراحتها المفرطة، وتجعل الكتّاب الآخرين يتمنّون أن يتوصّلوا إلى كتابة
نصوص ذات أبعاد فنّيّة تشبه أبعاد قصصه، وأن يمتلكوا الجرأةَ الزائدة التي تميّزت
بها قصصه، والتي تسبّبتْ له بمصاعب متعدّدة مع أجهزة الأمن، ومع إدارات النشر
الأدبيّة، في سورية، على حدّ سواء.
وهو الرجل الذي تعلّم القراءة والكتابة بنفسه، ولولا سنوات قليلة من سنوات
الدراسة الابتدائية لقلتُ إنّه علّم نفسَهُ بنفسهِ.
ولذلك هو يذكّرنا بعبّاس محمود العقّاد، ذلك الأديب العملاق الذي لم يحصّل
أكثر من الدراسة الابتدائية، ولكن إذا ذكرنا الأدب العربي وحركة التأليف في
الثقافة والأدب فإننا سنضعه ضمن العشرة الأوائل في القرن العشرين بكلّ تأكيد.
وكذلك مصطفى الحاج حسين، الذي أسمّيه «العقّاد الثاني»، ولكن لم تكن ظروف
العقّاد الثاني تشجّعه على الظهور، فمشاغباته كانت كثيرة، وصراحته كانت مفرطة، وهو
لم ينهج نهج العقّاد الأوّل في السياسة، فلم ينتسب لأيّ حزب، ولم يحمِ ظهرهُ بأيّ
شخصيّة أدبيّة معروفة على مستوى سورية أو الوطن العربي.
كلّ ما كان يفعله أنّه رجل لا يجامل أحداً، لا في المنتديات الأدبية
والأمسيات، ولا في الكتابات التي تعظّم أو تُلمّع… كانَ مغموساً في إبداع نصوص
جديدة، وكان هاجسه الذي يلاحقه مع كل نصّ قصصي: هل تجاوزتُ كتاباتي السابقة
وقدّمْتُ نصّاً جديداً؟ مع ملاحقته لهموم البسطاء، ولكيل اللعنات على الفساد
والفاسدين.
فالعقّاد الثاني، الذي لم يدرس إلاّ القليل، والذي يكتب ويفوز بجوائز تلوَ
الجوائز، ترمقه العيون بشتّى أنواع الغيرة والحسد، ثمّ هم مع ذلك لا يملكون إلاّ
أن يصرّحوا له بأنّ أدبه متميّز.
وشاء القَدَر أن أتواصل معه ونحن في مغتربنا التركيّ الذي فرضتْهُ علينا
الحرب القذرة الظالمة التي تجري في سورية، وأطلعني على بعض ما يكتب من جديد، من
شعر نثريّ حديث، وتذرّعَ بأنّ هموم الغربة، ومعاناته من المرض، قد فرضتا عليه أن
يتحوّل إلى القصيدة.
قرأتُ قصائدَه، وهالني ما وجدتُ من مستوى، سواءٌ أكان على مستوى المضمون،
أم في الصياغة الفنية وتضمين الصور الجديدة والمبتكرة بل المتألّقة.
وطلبتُ منه المزيد، فزوّدني ولم يبخل عليّ بها، وهو ينتظر رأيي على أحرّ من
الجمر، وأنا أتباطأ في الإجابة وبيان الرأي والمناقشة، إلى أن جاء الوقت الذي
صارحتُهُ بأنّه شاعر، بل شاعر ماجد، شاعر قضيّة وشاعر فنّ جميل.
ولم أكن أجامله على أيّةِ حال، بل كنتُ أقول كلمتي لوجه الحقيقة الأدبيّة
أوّلاً وأخيراً. وتناقشنا في شكل كثير من القصائد ومضامينها، ولم أكن أتحرّجُ في
أن أطلقَ عليه لقب «العقّاد الثاني» بكلّ جدارة. وإن كان قد جاء هذا الإطلاق
متأخّراً، فكم كان سيفرحه هذا اللقب لو كان أُطلِقَ عليه وهو في الثلاثينيّات من
عمره.
ومع ذلك، شعرتُ به وقد انتابته حالة من الخجل من لقبي هذا، فقلتُ له: بكلّ
صراحة أنتَ تستحقّه، وتستحقّه منذ مدّة، وسامحني إن جاءَ متأخّراً.
أربعةُ أسفار شعريّة، هي دواوينه التي صدرت له في إسطنبول حتّى الآن، وقد
صارت بين يديَّ في وقتٍ عزَّ الكتاب الورقيّ عليّ وندر وأنا في ديار الغربة.
وهناك مفارقتان لا بدّ من ذكرهما في هذا التقديم، ونحن نتحدّث عن
العقّادَين:
الأولى: أنّ عبّاس محمود العقّاد قد كتبَ الشعرَ في صِباه، ثمّ عكفَ عن
كتابته بعدَ أن أصدرَ، مع عبد القادر المازني، كتابه النقديّ اللاذع «الديوان»،
الذي لم يعجبه فيه شعر أيٍّ من المُحدَثين، وتوجّهَ إلى كتابة البحوث والمؤلفات
الضخمة في مجالات شتّى؛ ولكنّ العقّاد الثاني، مصطفى الحاج حسين، قد اتّجهَ إلى
كتابة الشعر متأخّراً.
والثانية: أنّ العقّاد الأوّل قد تعاطى السياسة، وانخرطَ في الأحزاب التي
كانت في عصره، وقد أفاده عمله هذا كثيراً في شهرتِهِ الأدبيّة. بينما لم يدخل
العقّاد الثاني في معترك السياسة والأحزاب، وقد أضرّ به بُعدُهُ عن العمل السياسي
في شهرته الأدبيّة، إلى أن وفّرتْ له ظروف اللجوء، نتيجة الحرب الإجرامية التي
حصلت في سورية، فسحةً من الحريّة في التعبير، فانطلق من جديد، ولو متأخّراً.
ولو جمعنا قصائده التي قالها في حلب، مدينتي ومدينته التي نشأنا فيها،
لصارت ملحمة لا تقلّ عن الملاحم الشعرية الكبرى في الأدب العالمي عبر العصور. ولكن
لا أدري هل من حُسْنِ طالعنا أم من سوئه، أنّنا من أمّةٍ لا تعير بالاً لمفكّريها
وأدبائها وحكمائها وشعرائها… بل هي تدمّرهم كما دمّرتْ آثار الأقدمين في أعرق
المدن العربية: حلب والموصل، وغيرها من الحواضر القديمة والحديثة، ولم تسلم منهم
المدينة التاريخية الحيّة «تدمر».
لن أطيلَ عليكم، سأدعُ قصائدهُ تتحدّث، لتغوصَ في وجدانِ كلّ قارئ يمتلك
الصدق مع نفسه ويحبّ أمّته.
هذا هو العقّأد الثاني، مصطفى الحاج حسين، فتحيّةً له، وأشدّ على يده وأقول
له: انتبهْ لنفسِكَ فأنتَ عملاق أدبيّ من عمالقة الأدب العربي والعالمي
، وستشكف الدراسات عن هذا عاجلاً أم آجلاً إن شاء الله.
هذا هو الديوان الرابع الذي ينشره العقّاد الثاني، مصطفى الحاج حسين، وقد
ضمّنه مشاعره المرهفة، التي نجد تأثير الحرب الفظيعة عليها، بل على كلّ حرف قد
كبته، فهو قد عاش في ظروف الحرب سنوات، ثمّ عاشَ ألم الاغتراب، ولا سيّما بُعده
على الأهل وعن حبيبته الآسرة «حلب»، تلكَ المدينة التي تسكنه، يقول في قصيدة
عنوانها: (وهج السراب):
مهما اقتربْتُ منكِ
وضممتُكِ إليَّ بقوّةٍ
تبقينَ عنّي بعيدةً !!
حتىٰ لو سكبْتُ قلبي
في دمِكِ
ومزجْتُ روحي
بأنفاسِكِ
وأطعمْتُ يديكِ
من حنيني
وانصهرَتْ لهفتي
علىٰ عنقِكِ
وذابَتْ هواجسي
وانفطرَتْ شهقتي
وَبَكَتْ كلماتي
وارتعشَتْ همستي
وخارَتْ نظراتي
وارتمَتْ شجوني
وتساقطَتْ شجاعتي
وانتحرَتْ رغبتي
أحسُّ أنّكِ بعيدةٌ
تبدينَ غائبةً
وعنّي شاردةً
قلبُكِ لا يدقُّ بضراوةٍ
وروحُكِ ناعسةٌ
قبلتُكِ بلا رائحة
وحضنُكِ يتثاءَبُ كالخريفِ
لا صوتَ لأصابعِكِ
لا شغفَ في شفتيكِ
وشَعرُكِ
يتهرَّبُ من ملامستي
لماذا هٰذا الموتُ
ينثالُ من صمتِكِ ؟!
لماذا هٰذا الخوفُ
يطلُّ من عينيكِ ؟!
هل كانَ حبُّنا وهماً ؟!
وهل كانَتْ قصائدُنا
عجافاً؟!.
هذا الخطاب في القصيدة ليس موجّهاً لحبيبة بعينها، سوى الوطن وحلب، وتبدو
معالم حلب واضحةً أكثر في القصيدة الأخرى التي عنوانها «العصيّة»:
في قلبي وجعٌ وبكاءٌ
وفي روحي دهشةُ الأبرياءِ
وأسئلةٌ تنمو في داخلي
في كلِّ صبحٍ ومساءِ
وحيرةٌ تعصف بي
وارتباكٌ وخوفٌ
وصوتٌ يصرخُ في فضائي
وماذا بعدَ كلِّ هٰذه الدّماء؟!
بعدَ هٰذا الدّمار
يا أخوتي يا أصدقاء !!!
تتسابقونَ إلينا وعلينا
تسوقونَ بمحبّةٍ لبلدِنا
الموتَ والفناء !!!
يا لَكُمْ مِنْ أوغادٍ جبناء
هيهاتَ لكم
أنْ تطفؤوا نورَ اللهِ
فنورُ الخالقِ يتجلّىٰ
في حلبَ الشّهباء
لا تظنّوا أنّكم ستنتصرونَ
مُحالٌ لكم هٰذا
يا أغبياء
ستبقىٰ سورية عصيّةً
علىٰ الأعداء
هكذا قال السلطان وهنانو
وصالح وكلّ الشّهداءِ.
فرغم كلّ ما حلّ في هذه المدينة من ويلات يبقى نور الخالق يتجلّى فيها،
ويزيدها تألّقاً، ويزداد عشقه لها. بل نراه يسكب قهره ووجعه في قصيدة وهو يتألّم
كما تتألّم حبيبته «حلب»، فيقول في قصيدة (ندىٰ عمري):
في لغتي أسمُكِ أوَّلُ الكلماتْ
وما أنتِ كلمةٌ أو نجمةٌ
أسمُكِ في روحي آياتْ
موجودٌ في دمي منذُ خُلِقْتُ
وإلىٰ آخرِ اللّحظاتْ
لا أعرفُ إلّا أنتِ
ولا أهوىٰ سوىٰ عينيكِ
مهما عشتُ وطالَتْ بي الحياةْ
سأبقىٰ أحبُّكِ وأعشقُ طيبَكِ
وأقبِّل ذكراكِ بعدَ المماتْ
حبيبتي أنتِ غَصْبَ غربتي
فاتنتي ومهجةُ أحلامي
مهما توسّعَتْ وامتدّتْ بيننا المسافاتْ
لَمْ أجدْ غيرَكِ لأعشقَها
لا بديلَ عنكِ
بينَكِ وبينَ قلبي ذكرياتْ
سأظلُّ أناديكِ وأكتبُ عنكِ
أغنّي أشواقي دمعاً وآهاتْ
أنتِ للضّائعِ منارةٌ
وللمتيَّمِ اليائسِ الحائرِ صلاةْ
أحكي عنكِ للضَّوْءِ إنْ أظلمَ
وللبحرِ لو تيبَّسَ موجُهُ
وللّيل لو ضاقَتْ عليهِ السّاعاتْ
جلُّ وقتي وكلُّ نبضي
ومعظمُ صمتي وسائرُ بَوْحي
عَنْ موعدٍ من صوبِكِ آتْ
هيهاتَ أنسىٰ وجهَكِ
قريباً ألقاكِ وأغمرُكِ بالقبلاتْ
حلبٌ أنتِ
مدينةُ السّحرِ والأمنياتْ
أَسْمِعي روحي صوتَكِ
عطشَ قلبي أحييهِ بالأغنياتْ
أنتِ ندىٰ عمري وأوجاعي
مهما حالَتْ بينَنا السّنواتْ.
وينساب الديوان شعراً صافياً عذباً يحمل الشجن والألم، ممزوجاً بعبق
الحضارة والأمل، مع الصور البديعة الطريفة الجديدة المتجدّدة التي كان يبثّها في
كل جملة شعرية يصوغها.
إنّه ديوان يستحقّ مع بقيّة الدواوين التي أصدرها دراسات متعمّقة في فنّه
الشعريّ وشخصيّته الأدبيّة الناضجة والمتميّزة، بل يستحقّ من القرّاء أن ينهالوا
عليه، لأنّه قد سكبَ فيه معانيَ العطاءِ والألم والأمل، فتحسُّ أنّه نابضٌ
بالحياة، رغم كثرة ذكره للموتِ، الذي يختطف كلّ يوم بفعل جرائم الحرب الوحشيّة
عدداً كبيراً من أهل وطنه، دونَ وجهِ حقّ.
محمد بن يوسف كرزون
نيسان/أفريل 2017
(بورصة – تركيا).