عودة يحيى -٣٧-
(لن تشرق الشمس أبدا )
قصة متسلسلة
بقلم :تيسيرالمغاصبه
٢٠٢٤
الفصل الرابع
------------------------
--------------------------------
-٣٧-
عودة يحيى
يبلغ صهيب ابن زكي الثانية عشرة من عمره ويكون ترتيبه الثالث بين إخوته
الذكور.
وكان يمضي معظم وقته في منزل خاله عيسى يلهو مع ابنه "هاني "بحكم
تقارب أعمارهما وميولهما.
فيخرج هاني الخرطوش "بارودة "أبوه المخصصة لصيد العصافير من
مخبأها ويأخذ بعض الذخيرة المتوفرة ويخرجون معا للهو بها.
فيمضي هاني وقته مقلدا أبوه في أفعاله الشريرة بأطلاق النار على القطط
والكلاب وقتلها.
وكان في تلك البارودة بعض الأعطال ،حيث كانت تتعطل كثيرا ،وفي ذلك اليوم
تشاء الأقدار أن تتعطل البارودة، وبينما كان هاني يحاول إصلاحها وكان موجه فوهتها
نحو صدر صهيب تخرج طلقة الخرطوش وتخترق قلبه وتقتله على الفور.
تحضر الشرطة الجنائية وتقبض على هاني ويصادرون البارودة وسط نشيج الأم .
فيذهب زكي إلى مركز الشرطة ويتنازل عن حقه مخبرهم أن ماحدث هو قضاء وقدر وأنه
مجرد لهو اولاد وأن البارودة كان فيها أعطال.
فيعود هاني إلى منزله
ويقام في القرية عزاء كبير لتشييع
ابن الشيخ الجليل زكي .
فيظهر زكي وهو يحمل جثمان ابنه بين أحضانه ويضعه أمام الحشد الكبير ويقول
لهم بثبات ودون أن يذرف دمعة واحدة متقنا دوره ببراعة حتى وهو في أشد اللحظات
قسوة:
-ياجماعه هذا ابن الله مو ابني..الله أعطى والله أخذ وأما أنا فما لي غير
الصبر ..الولد إنتهى عمره وأنا أبوه متنازل ومابدي أي إشي من نسيبي عيسى ..خلينا
إنروح ندفنه لأنه إكرام الميت دفنه.
* * * * * * * * *
يمضي يحيى أيام من العمر في باريس بصحبة جواهر يأكل مالذ وطاب من الطعام
والشراب ،وينام على ريش نعام ..ويجلس على أرائك قماشها من حرير.
فرأى عالم لم يصدق بأنه حقيقة ..فتذكر أيامه في المعتقل وفي المصحة ،بل وفي
حفر قرية أم الملح ومستنقعاتها،
والدخان المنبعث من برك قرية أم الدخان.
والقني والذباب والبعوض ورائحة تبغ العجائز والشيوخ..وأصوات نباح الكلاب
ونهيق الحمير.
وحرارة الجو الأقرب إلى نار جهنم.
ومايراه أمامه اليوم من جمال ونظافة ووجوه جميلة تسر الناظر .
وإيتكيت في التعامل ..ورقي وأناقة وذوق في التحدث.
فتساءل في نفسه :"إن كانت هذه هي باريس فيكف عساها أن تكون
الجنة؟"
وكان يرى الفرق بين الجنة والنار أشبه بالفرق بين باريس وقرية أم الملح.
أيام لاتنسى أمضاها يحيى في فندق من أرقى فنادق الدرجة الأولى في باريس
وأغلاها أجرا ،وحبيبة أشبه بنساء الحور العين.
نظر يحيى من نافذة الطائرة متأملا
الغيوم بينما كان يحدث نفسه :"لكن العهد الذي قطعته مع صحبتي ..وواجبي تجاه قريتي ..هل أبقى في جنتي أم أخرج
إلى ناري ..هي حقا معادلة صعبة".
* * * * * * * * *
يقام عزاء كبير ويدفن صهيب الصغير ومتى ماعاد زكي إلى منزله حتى ينفجر
بالبكاء ،بعد أن منع دموعه من الانهمار أمام الناس .
أما في المجالس فتستمر الأحاديث والمديح للشيخ زكي وإعلاء شأنه أكثر
وأكثر،فيقول أحد الحضور :
-سبحان الله..والله ياجماعه مانزلت إله دمعه ؟
-فعلا هاظا هو الشيخ الحقيقي ؟
-هذا رجل مبارك ياجماعه بعثه الله رحمة للقريه؟
-والله إنو مابكى بالمره لأنه عارف إنو البكاء بضر الميت ؟
-وين صارت ياجماعه إنو واحد يموت ابنه ومايبكي عليه ؟
وفي الحقيقة أن زكي يعلم بأن حتى بعض الأنبياء بكوا على فقدان اولادهم،لكن
تلك الحيلة إنجلت على أهل قريته.
* * * * * * * * *
وككل رحلة لابد لها من نهاية ..تنتهي أيام النقاهة الجميلة التي أمضاها
يحيى بصحبة جواهر في مدينة الضباب .
فيصعد يحيى سلم الطائرة من جديد للإنطلاق في رحلة العودة إلى البلد الذي لم
ير فيه سوى العذاب والذل والأذى ،يتخذ مقعده إلى جانب حبيبته جواهر التي أمسكت
بيده وأحتضنتها بكفيها وكأنها خائفة بأن تفقده ثانية ،وقالت له:
‐أيوه كيف كانت
الرحله حبيبي..إن شاء الله أعجبتك؟
-شو أعجبتني ..أنا لساتني لهسى مش مصدق حالي ..والله يمكن إني لساتني
بحلم..أرجوكي أقرصيني حتى أصدق؟
-ههههههههه هادي مو رح تكون آخر رحله يايحيى..إنتي حبيبي لسى شفت إشي ..أنا
إن شاء الله رايحه أعوضك عن كل إشي مو منيح شفته بحياتك لما كنت بعيد عني؟
-الله يخليكي إلي حبيبتي.
وهكذا تمنح المرأة عندما تحب بصدق ..تمنح كل شيء ..وأي شيء ..تمنح كل
ماتستطيع أن تمنحه..بل وأحيانا تمنح ماهو فوق إستطاعتها.
* * * * * * * * *
أما عيسى ذلك الإنسان الذي يمتلك كل قذارات ورذائل القرية مجتمعة. والذي
يفخر بقذارته ويجهر بها ،فلا بد له من القيام بخطوة يرفع بها من شأنه أمام أهل
القرية.
لكن يجب أن تكون تلك الخطوة مدروسة بشكل جيد.
فقام بشد وثاق ابنه هاني وجره إلى
الساحة أمام جمع غفير من أهل القرية فينادي من خلال نشيجه المرتفع كصوت المرأة
والذي لاينقطع أبدا :
-نادولي على زكي وأختي تماره خليهم يشوفوني كيف بدي أذبح ولدي هاني قدامهم
..يله ولدي هاني بولدكو صهيب..هو مو أحسن من ولدكو ؟
يظهر سليمان ابن عمه فيقول من خلال دموعه
الغزيرة ونحيبه الذي لاينقطع :
-لا..لا ..مو مكفينا إنو راح صهيب حبيب الجميع ..بدك إتعذبنا أكثر..لويش
..لويش ياعيسى؟
فيسقط على الأرض بعد أن عاودته نوبة الصرع.
فيظهر بعده زكي ويحتضن عيسى ويقول له:
-خلي إيمانك بالله كبير ياعيسى ..هاظا كفر وقنوط من رحمة الله ؟
لحظات وتنتهي المسرحية ويعودون إلى مجلس زكي.
* * * * * * * * *
بعد الوصول إلى أرض الوطن يمكث يحيى أسبوعا آخر في قصر جواهر ،وأخيرا وكما
يقال في أمثال قرية أم الملح :"الأرض طلبت أهلها".
يقول يحيى لجواهر:
-هسى حبيبتي لازم إني أرجع لقريتي ..أنا عاهدت إخوتي على إني أستمر في
إصلاح القرية بدون تراجع؟
كانت جواهر تعلم بل ومتيقنة بأن ابن القرية لابد له من العودة إليها..فماذا
عندما يكون ذلك الابن هو يحيى الشاب الأصيل ..الشهم.
فقالت ممازحة:
-شو خلص ..زهقت مني بهاذي السرعه حبيبي؟
فقال يحيى محرجا:
-أف.. ؟
ثم ينهض من مقعده ويقترب منها ويضمها إلى صدره ويلثم وجنتها بالقبل .وقال
لها:
-أنا أزهق منكي حبيبي..إنتي هيك بتظلميني حبيبي؟
-فقالت وهي تكاد أن تبكي:
-أنا ..أنا بمزح معك حبيبي..بس أنا مش مصدقه إنك خلص بدك ترجع على قريتك
..الوقت..مر بسرعة ؟
وإعتدل يحيى في جلسته مصدرا تنهيدة
عميقة وقال بصدق من كل قلبه :
- حبيبتي جواهر..أنا لساتني عند طلبي ..وبتمنى إنكي إتوافقي على زواجنا
..أنا بظلني ملكي ..وبرضاي هاذي المره ..إنتي حبيبتي أنا مش رايح إني أكون مع وحده
غيركي لغاية هاذي اللحظه ..وين ماكنت ..إنتي حبيبتي وبس ..والقريه مش رايحه توخذني
منكي ..لكن مثل ماإنتي إنسانه عظيمه وعملتي الكثير مشان الوطن ..أنا لازم إني أعمل
مشان قريتي وإني أكمل الإشي إلي بلشت بيه وأكمله؟
ثم إعتدلت جواهر أيضا في جلستها وقالت :
-حبيبي يحيى..زي ماحكيت إلك الزواج مو مناسب إلنا بالمره لأسباب كتيره حكيت
بعضها إلك قبل هيك ..لكن أنا كمان رايحه
اظلني إلك وقريبه منك دائما..هيك زي ما إحنا رح إنظلنا إنحب بعضنا أكثر ونشتاق
لبعضنا أكثر ؟
-متل مابدك حبيبتي.
ثم تأمل يحيى السقف فنهض ومشى بأتجاه النافذة ..فتحها ووقف متأملا الأفق البعيد.
ثم لحقت به جواهر ووقفت إلى جانبه وإلتصقت به وأمالت رأسها على كتفه الأيمن
وهي واقفة لاصقة به..مد ذراعه إلى خاصرتها وضمها إلى خاصرته وقال برقة :
-حبيبتي جواهر ؟
-أيوه ياحياة جواهر وروحها ونبضها.
-لما تكوني لحالكي بدي إياكي إتوقفي هون وتتأملي كل إشي من حولكي ..وتطلعي
كمان فوق للسما ؟
لم ترد جواهر وقد شرد ذهنها بعيدا جدا متأملة فعلا الأفق البعيد ،تمر دقائق
فيخرجها بعدها من تأملها للسماء بقبلة على رأسها مستنشقا رائحة شعرها الأصفر
المسترسل فتبتسم جواهر وتقول هامسة :
-مش عارفه شو عملت في يايحيى بهاي اللحظة.
بعد أن جلسا مجددا قالت جواهر كما وأنها تذكرت شيئا:
-على فكره يايحيى؟
-شو حبيبتي؟
-في إلك مفاجأة كنت مخبيتها عنك على بين مانرجع؟
-طيب هينا رجعنا شو هي المفاجأة.
-اسمها مفاجأة يايحيى مابصير إنك تعرفها إلا بوكتها..هسى استعد وإلبس
أواعيك حتى نروح مع بعض ؟
-ليش هي المفاجأة برى القصر.
-أيوه برى القصر ..هي مقابله ؟
-مقابله..مقابله مع مين؟
-ههههههههه ليش بدك إجرجرني بالحكي ..مش قلتلك إن المقابله مفاجأة ؟
-بس أنا مابحب هاظا النوع من المفاجآت؟
-لاهاي المفاجأة رح تعجبك كثير؟
-طيب ماشي.
* * * * * * * * *
تولج عربة جواهر بوابة
كبيرة..تصفها في المكان المناسب بحسب
تأشيرات الحرس ..يخرجا من العربة..
يسيرا معا في ساحة واسعة خضراء مليئة بالأشجار وحدائق الأزهار المتنوعة.
شعر يحيى بالرهبة من كثرة الحرس المدججين بالسلاح، فيدخلا معا من باب زجاجي
إلى جانبيه حرس آخرين غريبي الشكل والثياب.
سارا معا بأتجاه الصالة ..جلسا على كنبات الصالة الكبيرة ..المريحة ..همس
يحيى إلى جواهر :
-وين إحنا ؟
أشارت إليه جواهر بأن يلزم الهدوء والصمت ، دقائق ودخل إليهما رجل في ثياب
المضيف..يقدم إليهما القهوة العربية السادة ومن ثم خرج.
لحظات ودخل إليهما في بدلته الرسمية ..فشعر يحيى بالرهبة الحقيقية عند رؤيته وقد عرفه على الفور
وهو يمشي مشيته المهيبة والابتسامة لاتفارق محياه ،وقفت جواهر ووقف يحيى بعدها
مباشرة.
فنظر إلى يحيى وإبتسم وهو يمد يده مصافحا كلاهما.
* * * * * * * * * *
بعد مقتل صهيب يصاب زكي بعدة أمراض منها القلب ،وتجلط في الدم، وضغط الدم
وداء السكر ليعيش عليلا .
ويعود عيسى لممارسة قسوته على زوجته فريدة أخت زكي وكأن شيئا لم يكن ،وكأنه
لم يكن هو ما سبب الأحزان لهما.
وأخيرا يخبر زكي بأنه قد تورط بواقعة زنا مع إحدى بنات القرية الفاسدات وقد
حملت بثمرة تلك الخطيئة وأنه مجبر على الزواج منها تداركا للفضيحة، فقام زكي
وزوجته تمارة بأقناع فريدة بالعيش معها لأجل أولادها.
فيقام فرح لهما ..فتتمرد تلك المرأة
لتصبح فريدة خادمة لها.
من جهة ثانية تتزوج زبيدة من شهاب وتنجب منه ولد وبنت فيصاب بعد ذلك بمرض نادر يفقده فحولته وصحته وقوته.
فيلجأ إلى معاقرة الخمر وتعاطي المخدرات.
* * * * * * * * *
مع الإبتسامة الجميلة الحانية يتخلص يحيى من توتره ،يقول له:
-أهلا وسهلا بالشاب الذي يغار على بلده والمحافظ.. على سمعة بنات قريته؟
ويشدد على كلمة المحافظ.
-تشرفت سيدي.
-إنتي والله من خيرة الشباب ..وصلتني أخبارك كلها ومنها مقاومتك للعدو في
الجبال يابطل..والله ابليت بلاء حسنا يايحيى؟
-أنا فداء للوطن سيدي..وأكيد الوطن مليان شرفاء بدافعو عن عزة وطنهم
وكرامته.
-ههههههه بس إنتي تطاولت على شرطة ..وإنتي بتعرف إيش يعني هاظا التصرف..وشو
بكونو الشرطة في البلد ..هظول بمثلو السلطة؟
-أ..أكيد تصرف متهور ومتسرع وغير مسؤول وأنا مستعد من جديد لأي عقاب ..بس
هظول سيدي ...؟
-نعم ..نعم عرفت شو عملو ..بس كان
لازم إنك تعرفهم وإتبلغ عنهم حتى يتعاقبوا ..أنا مابسمح بالظلم مين ماكانو ؟
-................ .
-إنتي نشمي يايحيى؟
-العفو سيدي.
-هههههه يحيى..المحافظ.. على كرامة وسمعة بنات قريته موجود هون ؟
-هاظا واجب كل إنسان شريف سيدي..وأنا حصل لي الشرف إني هون .
ثم نهض وربت على كتف يحيى وقال والإبتسامة لاتفارقه :
-يحيى ..المحافظ ههههههه خير محافظ على سمعة بلده ..وكرامتها ..بدنا همتك
يايحيى؟
ثم ودعهم وإستدار ذاهبا إلى الداخل .
وخرجا إلى العربة ..صعدا إليها ..مسح يحيى عرقه المتساقط بغزارة ..خرجت
العربة من الجاراج وإنطلقت بهما ،فقال يحيى بلوم:
-الله يسامحكي ليش ماحكيتيلي من
الأول ياجواهر ؟
-هههههه ماحكيتلك حبيبي إنها مفاجأة؟
-هي مفاجأة بعقل .
-هههههههه بس بتعجبني يايحيى؟
-بس أنا مافهمت إشي بالمره ياجواهر .
-عن جد بتحكي يايحيى ..مافهمت إشي؟
-والله عن جد بحكي مافهمت إشي ..بالمره.
-طيب ..مبروك يايحيى؟
-مبروك على إيش؟
-إنتي يايحيى هسى صرت مسؤول..و في منصب محافظ.
(يتبع...)
تيسيرالمغاصبه
٧-٧-٢٠٢٤