جاري تحميل ... ألف ياء

إعلان الرئيسية

إعلان

عاجل

إعلان في أعلي التدوينة

جديد علَّم نفسك

 

نهاية المسرح

العقيد بن دحو



لطالما بكت الأغريق المدينة (بوليس)/Polis - أحسن معلم - و من خلالها سائر الأغارقة مسرحهم التليد البكاء المر. هذا المسرح الذي دفعوا من اجله القرابين تلو القرابين ، طقس ديني و دنيوي يقربهم من ذكرى أجدادهم و أباءهم ، حيث كانت صورة مَنزلة الجد او الأب بمثابة الإله أو نصف الإله أو البطل. لهذا جاءت ادابهم و فنونهم بهذه الروعة البديعة الخلاّقة ، حين حلّ الإنسان في الإله و حلّ الإله في الإنسان (الحلولية) . و رغم ازدهار فن المسرح في عهد الحكيم القانوني "صولون" و في عهد الحاكم "بيزستراتوس ق:-514 ق.م" أين تحرر الجميع عبيدا و فلاحين وبولتاريين ، و صارت ديانة ديونيسيوس ديانة رسمية للفن و للاتسان معا . اين تقام الأفراح و الأماسي الملاح ، و أين يتبارى المسرحيون و يتنافس على أرقى و أنبل الجوائز و افضل التكريمات.

لكن هذه سنن الحضارة ؛ بما أن لكل بداية نهاية شَهِدَ المسرح أول انتكاسة له خاصة بعد وفاة الحاكم بيزيتراتوس و خلفه ابنه "هيبياس" Hipias  ليتولى مقاليد الحكم . سار في البدء على درب نهج سياسة أبيه ، لكنه سرعان ما تحول و اتقلب الى طاغية دكتاتور مستبد ، ضجرت الجماهير من حكمه و ثارت خاصة عندما استعان بحاكم أجنبي أسبارطي. مما أدخل "أثينا" عصر ظلمات الإنقلابات السياسية تبعه عصر الضعف الفني الأدبي الثقافي الفكري..انكفأت الخلائق على نفسها و عادت المدينة الى سالف عهدها ، عهد الظلمات و الجهل و السفسطة و الدجل.

هذه اللحظة الفارقة بالذات يصفها النقاد و فلاسفة الألمان و على رأسهم (جوته) Goethe بفترة نهاية المسرح.

بل الأغارقة انفسهم يشهدون على بؤس هذه المرحلة ، حين بدأ بعض شعراء الدراما يشككون في مقدرة آلهتهم ، بل ذهب بعضهم الى حد التهكم و السخرية كالشاعر "مناندر"  ، "فرينكوس" ، "يوريوبيدز" ، و "ارستوفانز".....

كانت هذه الإشارات و التلميحات ايذانا بنهاية المسرح ، عندما ادرك الأغارقة بفعل التراكم أن آلهتهم التي كان يتكئ عليه المسرح ما هي الأ احلام وردية اليافعين و صغار المراهقين ، يجب التخلي عنها عندما يبلغ المرء سن الرشد.

لقد جسّد هذه النهاية الأليمة المدوية للمسرح الشاعر الدرامي الكوميدي الملهاتي "ارستوفانز" في ملهاته (الضفادع)  Frogs

اذ ينص بنص العبارة : " حين ذهب الإله ديونسيوس الى العالم الآخر ليسترد واحدا من الشعراء الثلاث (صوفوكليس - اسخيلوس- يوريوبيدز) لم يكن قد بقي منهم  أحدا منهم ؛ ذاك أن المأساة اليونانية انتهت بموت الشعراء الثلاث".

كان هذا اعتراف الاغارقة انفسهم مهد الحضارة المسرحية ؛ يقرون بموت المسرح.

و مع التقدم الحضاري و الثقافي للأمم و الشعوب هاهو المفكر ذو الأصول الأسيوية (فوكوياما) يقر بنهاية الفنون جميعها أي نهاية القيم أي نهاية الشعر و التاريخ و الفلسفة معا.

و عليه و بالقياس عندنا ابان فترة الإرهاب تسعينيات القرن الماضي ، حين ضربت آلية التطرف خيرة أبناء المسرح الجزائري عبد القادر علولة عن مسرح وهران و عز الدين مجوبي عن النسرح الوطني ووفاة المسرحي عبد الرحمان كاكي عن مسرح مستغانم.

سقوط هؤلاء الرؤوس الثلاثة هو سقوط المسرح الجزائري..ربما يقول قائل ميكيافلي مسرح لا يزول بزوال الرجال !

يوجد رجال من رجال ، رجال الفن و المسرح و الفكر لا يتكررون ، و لا يخطون في النهر مرتين و لا يعوضون.

لهذا يقول لسان الحكمة الزنجية الافريقية (إميه سيزاري) : " كلما توفي شيخ افريقي تحترق وراءه مكتبة".

لذا كم يؤلمني و أنا أتفرج على هواة يتدربون تدريبات أولية على مسرحية من المسرحيات المحلية ام من البيريتوار العالمي وهم لا يدرون أن المسرح مات و شبع موتا ليس فقيد اليوم انما مما قبل التاريخ و عند اناسه الأصليين.

و مما يؤكد هذه النظرية "الضفدعية" أو سميها "الارستوفانزية" و ما تعانيه مسارح العالم من ازمات عديدة متعددة. و مما زاد الوضع ابهاما وغموضا تلك التجارب ما بعد الحداثة التي يراد من خلالها مريديها ودعاتها بعث الأنفاس في الرميم. حتى انك كملاحظ من بعيد تشعر أهل المسرح أنفسهم يشعرون بهذه الميتة ، لكنهم هم ممثلون يتخيلون لعبة الحياة مع مسرح لم يبق منه الا صورة اللحم و الدم.

دعنا نقر أولا ان المسرح كلعبة عميقة الجذور ، القصد من جراها اعادة التوازن ما بين الإنسان و المحيط انتهى. و لا شك انكم ترون يوميا ذاك الشرخ الكبير الذي يحدث بالعالم حروب و مآسي أخرى طبيعية و بشرية.

لم يبق امام الهواة و المحترفين الا أن يفكروا في لعبة أخرى تقربهم من ذكرى المرحوم و الانطلاقة في ما يشبه المسرح او ما بعد المسرح ، بعد ان يتأكد للجميع أن المسرح الحقيقي مات ، في سفر (هديزي) لايؤوب منه مسافر !

ومن ثمة لا بأس التفكير في فن آخر على أرض محايدة يمكن أن تحرث من جديد.

المسرح و ما بقي الا الأثر يذكرنا به بأن الأبطال و الفرسان و الكومبارس ، العبيد ، و الاحرار جميهم مروا على هذا الركح ، لكنه عبورا قبل أن يرتد طرفك و أنتهى.

 


***********************


***********************

إعلان في أسفل التدوينة

اتصل بنا

نموذج الاتصال

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *