مسلسل "رأفت الهجان" مدرسة للإستخبارات
العقيد بن دحو
عند الأمم الحية ، التي لا تؤمن بحظ خط الكف ، انما بالحظ الذي يحالف الذهن
المستعد (باستور).
في علم سوسيولوجية الأداب و الفنون لا يمكن الفصل بين ما يحدث في المجتمع و
سائر الفنون و الاداب الزمكانية. و لهذا عملها يبدا عندما تنتهي الأحداث الدرامية
عبر مخابرها تحليلا و تفكيكا و تركيبا عندما تنتهي عروص الحلقات و المشاهد اليومية
، و ككل رصد و سبر تطلعات المشاهدين و لو عن بعد و عن طريق غير مباشر.
صحيح لا يمكن فصل الخيال و بعض الجماليات الفنية المتممة و المكملة للعرض
الدرامي. الخيال يزيح الخليقة غير أنه
بمنحها أبعادا أخرى لم تكن في الحسبان ، و مع ذلك يعتبر نصف الحقيقة ان لم يكن
الحقيقة ذاتها.
و على الرغم من أن جهاز و ميكانيزم المخابرات يطرح عدة اشكالات و تأويلات
بالعالم و ليس فقط بالعالم العربي ، يضفي على منتسبيه هالة من الغموض و السحر ،
حتى أوشك أن يصير مجنديه يوصفون صفات عجائبية وقع السر في الأنفس ، و مع التراكم و
الأضافات صاروا يقومون مقام و ينزلون منزلة الخرافات و الأساطير..غير ان مسلسلا
مثل مسلسل رأفت الهجان عند الإخوة المصريين ، جسد فعلا ذاك الصراع الملحمي الدرامي
الخالد الكلاسيكي بين الكيان الإسرائيلي و
الشعب المصري العربي ؛ صراع من نوع آخر صراع المعلومة و الأفكار ، تلك الفكرة التي
تغير وجه المحيط بل تغير وجه العالم.
مسلسل رأفت الهجان العربي أختصر على القارئ العربي قراءة العشرات من الكتب
، ووفر الجهد و الوقت و فك شفرة المبهم و اللاوضوح عن هذا الجهاز الأستخباري الذي
ضربت حوله العديد من نسج الأساطير ، و قربه الى المخيال العربي الفردي و الجمعي. و
صار محل اعتزاز و فخر ، و نموذجا و أمثولة للعديد من الشبان الجزائريين و كذا
الأسر.
لم يكن بالسهولة على أي مسلسل أن يخلي الشوارع من المارة ، و يخلي الطرقات
و الازقة وتتوقف ديناميكية المدن ، عندما يدق جرس الانفعال الشرطي ، و تبدأ موسيقى
الجنريك المميز للمسلسل بالصعود على
الشاشات الصغيرة.
صحيح يوم ذاك المواطن العربي من المحيط الى الخليج ، و من الماء الى الماء
، و من طانجا الى جكارته كان كالغريق يريد أن يتعلق بقشة ؛ تعيد له الأمل في
مؤسساته و لا سيما الأمنية العسكرية يريد أن يرى انتصاراتها على عدوها و عدو الوطن
الحقيقي و ليس على المواطن المغلوب على أمره ، المطحون تحت غلاء المعيشة و كدح ضنك
الحياة ، قال كلمة هنا... او كتب حرف هناك...أو حدث الناس عن الحزب الواحد الاوحد
، و عن رئيس أو ملك منزل على الناس أجمعين ، لا يجوز الخروج عن طاعته.
(رأفت الهجان) لأول مرة الساكنة العربية تحب البوليس السري و تخرجه من
دائرة الغموض الى دائرة الشهامة و الكبرياء و الرجولة و كم كانت تتمنى الأسر
العربية أن يكون لها ابناء مشروع بطل رأفت الهجان.
لأول مرة في مجرى التاربخ العربي - بكيفية أو بأخرى - اصطاد عصفورين بحجر ؛
اذ ضمن المخرج فلسفته و تصوراته الذهنية بأتجاه المسلسل كما يجب أن يكون عليه رجل
الإستخبارات العسكرية مواطنا صالحا بالمقام الأول. يعمل بالداخل و الخارج رجل
استشراف مقدرا ذكيا ، مستشرفا لما سيحدث .
مسلسل رأفت الهجان بكل عناصره و كوادره و أطره البشرية اللوجستيكية صارت
مدرسة استخباراتية بإمتياز على وزن حسن منتاز . كان من المفروض أن يصير منهاجا و
برنامجا و درسا يعيد في تنشئة تركيبته داخل الغرفة (البروكستية) و بالكليات و
الجامعات الحربية. تماما كما هو اليوم فيلم معركة الجزائر الذي أنتج سنة 1966 درسا
حربيا يناقش في كل سنة بالجامعات و الكليات العسكرية الأمريكية.
الجميل في المسلسل لقد مضى عدة سنوات و اخراجه للمواطن العربي ؛ و على
الرغم ابطاله الفنيين توفوا ؛ إلا أن أثاره لا تزال تحفر في الذاكرة الوطنية أسمى
معاني أيات الوطنية الخالدة ، محط اعتزاز و فخر و مجد في كل مخيلة عربية ، تذكر
على الرغم من كل الأحباطات السياسية الدبلوماسية الاقتصادية الأجتماعية الثقافية
الأمل لا يزال قائما ، و أن النصر ممكنا ، و أن طائر فنيق النجاح في أي لحظة من
اللحظات بإمكانه أن يقوم من رماده و يحلق مجددا بأجنحة أبعد منه.