عبد الكريم علمي
غفلان و نبهان
قصة قصيرة: غفلان و نبهان.
في غابة كبيرة رحبة متسعة، كثيرة الأدغال كثيفة الأشجار، تعيش أصناف كثيرة
من الحيوانات المختلفة، منها الأليفة المسالمة الموادعة، ومنها الشريرة المفترسة
المخادعة.
وفي هذه الغابة يعيش ثعلبان صديقان
اسم أحدهما: نبهان، والآخر: غفلان، فأما نبهان فنبيه، يقظ، فطن، وأما غفلان فغافل
غبي ساذج، يُرسله دائما صاحبه ويُقدمه للاستكشاف في عملية البحث عن الطعام، ويرسم
له الخطط، ويضع له الكيفيات، وغفلان لا يستخدم عقله، وإنما ينفذ خطط صاحبه فقط،
ولا يعارضه ولا يُناقشه في قول أو خطة، راضٍ بوضعه كتابع غير مؤثر.
وفي أحد الأيام أراد نبهان الاحتيال على الذئب سمعان وافتراس أبنائه، فقال
لصاحبه: أعتقد أن المغارة خاوية، والذئب والذئبة في الصيد، فاذهب أنت وسأبقى أنا
هنا في قمة هذا الجبل مُراقبا، وعندما تصل إلى المغارة وتكون الأمور على ما يُرام
كما قدَّرنا، فلا تلتهم أحدا من الجراء، ولكن اضبح بصوت عال حتى أسمعك فآتيك،
ونقتسم الغنيمة بالسّويّة، وإن سمعتني أضبح فعليك بالحذر، فإنما هي إشارة مني إليك
على وجود خطر يتهددك يجب أن تحذر له.
وذهب صاحبه كعادته دائما دون أن يفكر أو يناقش أو يتردد، ولمّا وصل تفاجأ
بوجود الذئب مرتبعا على باب المغارة يحرس جراءه، بينما كانت زوجته في الصّيد،
فارتبك الثعلب وخاف، وأدرك أنه وقع في ورطة خطيرة، فات الأوان على الفكاك منها
وتجنبها، وحيّ الذئب، فردّ الذئب التحيّة، وفهم سبب مجيئه إلى مغارته، ثم قال له:
نزلت أهلا، وحللت سهلا يا غفلان، لم أرك منذ سنين، أهكذا تكون الأخوّة والصّداقة؟
الثعلب غفلان(متمسكنا ومواربا): أنت تدري مشاغل الدنيا وهمومها يا أبا
الحارث، فكل يوم بحث عن القوت، وكفاح مستمر لأجل ذلك.
الذئب: صدقت يا أبا الحصين، إن الرزق لا يأتيك، وإنما أنت من يسعى لأجله
ويذهب للبحث عنه، ولكن هل تدري يا أخي أنه في بعض الأحيان يأتيك الرزق إلى باب
مغارتك، دون أن تتكلف أو تحتال لذلك، وهذا مُجَرَّبٌ كثيرا ومعروف، ولا أخالك
تُنكر ذلك.
وفهم الثعلب تعريض الذئب به، فأراد الالتفاف عليه في الحديث وقال له: أجل
يا أبا الحارث أُدرك ذلك، ولكن أخبرني عن أخبارك وأحوالك، وكيف هي صحتك؟ فهذه سنين
طويلة لم نلتق، وأنا إنما جئتك زائرا بعد أن عرفت مكان إقامتك.
الذئب(وقد فهم أن الثعلب يُراوغه في الحديث، مُحاولا إيهامه بأنه لم يفهم
تعريضه به): إيـ...ـهٍ يا أخي يا أبا الحصين، أما عن الدنيا فلقد أجبت أنت عنها في
أوّل كلامك، فهي سعي حثيث دون لبث أو تريث، وأما عن الصحة فلا بلاك الله بما
ابْتُلِيتُ به.
الثعلب غفلان: وما ذاك يا أخي سمعان المحترم؟
الذئب سمعان: أنا مريض عاجز عن الصيد، وكما تراني فأنا هنا رابض حبيس
المغارة مع الجراء، وزوجتي هي التي تُعيلني وتُعيلُ أبنائي، مما أحبط نفسي وجعلني
أشعر بالنقص أمامها، واليأس لما آلت إليه أحوالي.
الثعلب غفلان: ولماذا لم تذهب إلى طبيب يشخّص لك داءك ويصف لك دواءك؟
الذئب: لا تحسبنني غافلا عن ذلك أو غير مُبال، لقد ذهبت إلى الطبيب تمساح
شيخ الأطباء وكبيرهم ــ حفظه الله ورعاه
ــ ولكن دوائي عـزَّ إيجاده، وقلّ نظيره يا أخي الودود.
الثعلب: وما هو ذاك يا رفيقي؟
الذئب: لقد أخبرني شيخ الأطباء تمساح أنّ دوائي في أكل مخ ثعلب يا حبيبي،
ويا قرّة عيني يا أبا الحصين الشجاع البطل.
وفهم الثعلب مقصود الذئب، فأطرق برأسه إلى الأرض، وقال بعد تفكير وجيز:
سأصدقك القول يا أبا الحارث ولن ألف أو أدور، لو كان في رأسي مخ ما وجدتني الآن
أمامك متحاورا معك، وأما الذي حقا في رأسه مخ فهو ذاك.
وأومأ إلى قمّة الجبل، حيث يظهر
الثعلب نبهان مُراقبا ومُنتظرا ولكنّه لا يراهما، وفهم الذئب مقصود الثعلب بأنّ
الذي غرّر به هو صاحبه ذاك، لكنّه تباله واستمرّ في تأدية دور الأبله البليد، بعد
أن خطرت على باله فكرة القضاء عليهما معا، وقال للثعلب: ما دام صاحبك هو الذي في
رأسه مخ وأنت لا، فكيف لي به يا أخي الحنون الطيّب؟ وهل يوافق صديقك على هذا
المعروف، وينزل إلى هنا ويُسلّمني مخّه لأتداوى به فأتعافى، وأصير كما كنت في سابق
عهدي نشيطا حماسيّا حازما، ولا أكون عالة على زوجتي؟
الثعلب غفلان: اطمئن يا أبا الحارث، سأُنادي عليه توًّا ليأتي، وعندما يحضر
سأُبلغه وصفة دوائك، وإن رفض أن يعطيك مخّه بإرادته وعن طيب خاطر، تعاونت معك على
سلبه لمخه بالقوّة.
ثم مكملا في سرّه: حسنا يا صديقي النبهان...تدفعني إلى الموت في غفلة من
عقلي، وتجعل من نفسي وحياتي وقاية لنفسك وحياتك، هذه هي الأنانية المقيتة بعينها،
وهذا هو اللّؤم والخسّة في أبشع صورهما، تجعلني طعما هيّنا تختبر وتمتحن به، ومجسّ
اختبار لكشف الأخطار، وتبقى أنت في الانتظار، فإن نجحتُ في المغامرة والمخاطرة
كُنْتَ في الغنيمة شريكا وليَ رفيقا، وسيقت إليك الغنيمة باردة فأكلتَها مُرتاحا
دون أن تُخاطر أو تُغامر، وإن باءت بالفشل خبتُ أنا وبُؤتُ بالخيبة والخُسران،
وصرتُ للذئب صيدا سهلا يسيرا، ولأبنائه غذاءً وفيرا، وفُزتَ أنت بالنّجاة وكنتَ حُرّا
طليقا، ألا بئس الصّحبةُ صحبةَ من يجعلك طعما يقيس بك ويختبر، وتعس وشقى من كان
لغيره مجسّا للاختبار، وأداة لكشف الأخطار، إن من هان قدره عند غيره، صارت حياته
رخيصة دون ذات قيمة أو اعتبار عندهم، ومن هان عند نفسه فلن يرتفع عند غيره، ولكن
إذا لم يكن من موتي بدّ، فوقسما لتموتن يا
نبهان قبلي، ولسوف أرى دمك قبل أن ترى
دمي، احذر يقظة غفلان الغفلان يا نبهان،
فإن فيها موتك المحقق يا أيها النبهان.
وأما الذئب فإنه استحسن فكرة الثعلب غفلان في جلب صاحبه عنده، وقال في
سرّه: ليس بين الأشرار وفاء، وإن كان بينهم صحبة وإخاء، فأنا وعدُوّي على عدُوّ
آخر لي...ثم أنا على الذي منهما قد بقي، ثم مخاطبا الثعلب غفلان: هيا يا أبا
الحصين نادِ على صاحبك، وإلا فإن أخاك أبا الحارث سيقضي من شدّة شوقه إلى الدّواء
الذي أيس منه سنين، ثم هو الآن يراه ولا يطاله، ولكن قبل أن يقضي فلربما صار
مجنونا، وأصبح لا يفرّق بين حبيب ودود وعدو لدود، أو بين نديم وغريم، أو بين أخ
مخلص ومبغض متربص.
فخاف غفلان وقال: في الحين ودون تأخير، يأتيك نبهان في أسرع من ضوء البرق
يا سمعان.
وراح يضبح بصوت مرتفع حسب الخطة المتفق عليها مع صاحبه، فأقبل نبهان يعدو
عَدْوًا شديدا، وقد تحرّكت نفسه الجائعة وسال لعابه، وأنسته آلام الجوع في أمعائه
أيّ شيء آخر عـدا الأكل، وراح يفكر فقط في الوليمة ظنّا منه أن الخطة قد نجحت،
فقال الثعلب غفلان(في سره عندما رأى نبهانا يعدو هكذا) : نعم؛ إن الجوع الشديد
والطمع الذي ماعليه من مزيد، يذهبان بالعقل والذكاء، ويجعلان صاحبهما يفكر فقط
بالأمعاء.
وكان الذئب أيضا يقول في سره: إن الطمع والحرص الشديدين يغلبان صاحبهما،
ويجعلانه لا يُعْمِل فكره، فيتخلى عن التحرّز والاحتراس، فيقع فريسة سهلة
الافتراس، ويصير صيدا لمن كان يُؤمّل أنّه له صائدا، فيكون مصيره في النهاية العطب
والتلف.
إنّه لا أروع ولا ألذّ وقعا في النفس من وُقوع العدوّ فريسة، بعد أن بذل كل
ما عنده واستعمل كل طاقاته في المجابهة والمواجهة، ثم في نهاية الأمر يعود كل ذلك
عليه خُسرانا وخيبة، وتكون عليه ندامة وحسرة، تعال يا نبهان تعال، لترى حبيبك
سمعان، فهو في شوق إليك على أحرّ من جمر النيران.
وما هي إلاّ لحظات قصيرة حتى حضر الثعلب نبهان عند باب المغارة وهو يلهث من
شدّة العَدْو، وما إن رأى الذئب سمعان هناك أمامه وجها لوجه، حتى أُسقط في يديه،
ووقف مبهوتا لا يدري ما يصنع، ولا كيف يتصرّف، ولكنه تدارك أمره واستطاع تجميع
شتات نفسه بعد لحظة من الارتباك والتخبّط، وارتمى على الذئب يعانقه ويُقبّله ويبكي
بُكاءً شديدا وهو يقول: آااهٍ يا أخي سمعان، هذا زمن طويل لم أرك فيه يا رفيق
الدرب، ويا حبيب القلب، إن لفرقة الأحباب لوحشة، وإن للقائهم لدهشة، وما عساني
أقول أو اُعبّر، وظاهري يُنْبِيكَ عن مخبري.
الذئب(في سره): هَهْ أيّها المنافق الوضيع التافه، قُل هذا الكلام
للمغفلين، أما أنا فإني لستُ مُغفلا لتخدعني بمعسول الكلام، وإنني عندما آكلك
سأبكي أنا أيضا بُكاءً شديدا، ليس حُزنا على فراقك، أو ندما على ما فعلته بك، ولكن
من شدّة الفرح، إذ لأوّل مرة في حياتي يأتيني طعامي إلى باب مغارتي، دون كد أو
جهد، وليقيني أن ذلك لن يتكرر في مستقبل أيامي، لأجل ذلك فقط سأبكي بُكاءً مُرًّا
لم أبكِ قبله مثله، ولن أبكي بعده مثله، آااهٍ ما أجمل أن يأتيك الرزق راكضا، وأنت
في مأواك رابض، فيفاجئك بقدومه السريع إليك، ثم يرتمي عليك مُعانقا مُقَبِّلًا،
إنني ما كنت أتوقع أبدا في حياتي أن يأتيني رزقي راكضا بهذه الصورة، ولم أتخيّل
ذلك لا في أحلام النوم ولا في أحلام اليقظة، ولكن تحدث بعض الأمور في الحقيقة
والواقع ما يجعل الواحد يستغرب، ويبقى مشدوها لغرابة وعجب ما يحدث، نعم يحدث في
الحقيقة والواقع أحيانا ما هو أغرب من الخيال، إذ لو تمنى الواحد أن يأتيه رزقه
إلى حيث هو، فإن أمنيته تلك لا تعدو أن تكون أمنية بعيدة المنال، تُثيرالسخرية
والتهكم عند العاقلين، لأن الرزق لا يأتيك راكضا، إنما أنت من يسعى إليه ويركض
خلفه وبالكاد تنل ما تريد، لكن أن يحدث في الواقع ما هو أغرب من الخيال، فتلك
مكرمة إذا تمنيت مثلها فلقد طلبت المحال، وإن تخيّلتها فأنت متمن تتمنى مستحيلا
بعيد المنال، فاهنأ يا أبا الحارث بمكرمة قد حباكها المنعم المفضال، سيقت إليك على
غير سابق منوال أو مثال.
ثم مخاطبا الثعلب نبهان: هوّن عليك يا أخي، هي الدنيا ومشاغلها كما قال
أخونا غفلان، وهل أبقت الدنيا للإخوان مجالا حتى يتذكروا بعضهم بعضا ويتزاورون
فيما بينهم، فنحن في هذه الدنيا نسعى ونجهد ونكد، وبالكاد نُحَصِّلُ أرزاقنا، وكان
من الواجب علينا كما يقول الحكماء، إذا أقبلت الدنيا على أحد أن يأكل منها بقدر
الكفاية، وإن هي أدبرت صبر عنها دون الجزع أو القنوط، فلعلها أن تُعاود وتكر كرة
أخرى، فذاك دأبها وديدنها، والمغرور من اطمأن لإقبالها، والحازم من أعد وتأهب
لإدبارها، ولكن ما علينا من كل هذا فالواحد منا ابن يومه، ويجب على كل واحد منا أن
يأخذ ليومه قبل غده، ويومنا هذا يوم التقاء الأحباب بعد طول فراق وغياب، فلتهنئنا
السعادة بهذا اليوم الجميل الرائع.
وكان غفلان ينظر إليهما وهما على هذا الحال، فراح يقول في سره: ما أبشع وما
أتفه وما أحقر منظر مُنَافِـقَـيْـنِ كَذَّابَيْنِ مُرائِـيَـيْـنِ، يعلم كلاهما
كذب الآخر ونفاقه، ومع ذلك يُمثلان على بعضهما البلادة والبلاهة بكل وقاحة وخسّة،
من المؤكد أنهما يستمتعان بذلك في قرارة نفسيهما، ما أغرب شأن المُنَافِـقِـينَ
وما أحقره! وما أذله وما أخزاه!
الثعلب نبهان(مخاطبا الذئب): أتدري يا أخي سمعان أنني البارحة في منامي
رأيت رُؤيا في شأنك.
الذئب(وهو يصطنع الاهتمام): خيرا رأيت إن شاء الله، فما رأيت يا أخي الصادق
الناصح المخلص؟
نبهان: رأيت أنه أتاني آتٍ وقال
لي: أخوك أبو الحارث سمعان، يُريدك في أمر عاجل ومعروف تقدمه له، ولا يستطيعُ أحد
غيرك فعله بدلا عنك، وهاهي الأقدار تسوقني إليك يا أخي، ولقد عرضتُ رُؤياي على
بعضهم فقالوا: أضغاث أحلام وما نحن بتأويل الأحلام بعالمين، وأما الشيخ المُعَبِّر
الورع التقي ابن آوى ـ رضي الله عنه وحفظه ورعاه ـ فأخبرني أن تأويلها هي أنك إنما
تريدني تعليمك دعاء الزهادة، لأنه على حسب رؤياي عنده أنك صرت زاهدا، وأقلعت عن
عادة أكل اللحم، وصرت مُكتفيا بالعشب والثمار، فجئتك لأخبرك الدعاء، وأنال البركة
منك يا شيخ الزاهدين العابدين، وإنني أنا أيضا قررت التوبة عن أكل اللحم وعزمت أن
أتزهد، وإن في لقاء إخوان الزهد والفضل حياة للقلوب، وسعادة للروح.
الذئب(بخبث، وقد فهم أن الثعلب يحاول بلباقة متناهية في الخبث، التملص من
الموقف الحرج الذي وقع فيه): نعم يا أخي يا أبا الحصين، لقد صدق الشيخ المعبر،
الزاهد العابد، الورع التقي، الذي لا يخشى في الله لومة لائم، ابن آوى المبارك ـ
حفظه الله ورعاه، وأبقاه لأمة الحيوان سندا و ذُخرا وعمادا ـ لقد قال الصواب وما
حاد عنه، ونطق بالحق وما جانبه، وهو دائما كعهدنا به يلتزمُ الحق والصدق، فالأمر
على ما ذكر، وإن قلوب الأحبة عند بعضها لا تتفارق، ولذلك فإنهم يُلهمون الرؤيا
عندما يتعلق الأمر بجسيم لبعضهم، فهذه واحدة، وإنما هما اثنتان: دُعاء، ودواء.
الثعلب نبهان: أما الدعاء فقد علمتُه، ولكن ما هو هذا الدواء؟ وما
الأمر؟
الذئب(باكيا بحرقة): أخوك أبو الحارث يا أبا الحصين، مُعتل من قديم بعلة
ألزمته باب المغارة وألصقته بها، ولا يستطيع أن يمارس مهنته، أو يُؤدي دوره في هذه
الدنيا كباقي الحيوانات، أرى يوميا كل المخلوقات غادية إلى رزقها خماصا، ومُروّحة
بطانا إلا أنا، فإن لم تُغثني زوجتي قضيتُ
جوعا، وإنني أتحسر مرتين، أما إحداهما: فإن لم تكن زوجتي تُعيلني؟ فما الذي كان
يمكن أن يحدث لي؟ وماذا كُنت سأفعل؟ أو حدث مكروه لزوجتي فكيف سأقتات؟ أو مَلَّتْ
زوجتي مني وهجرتني فما السبيل؟ وأما الثانية: فإن إبائي وأنفتي يُقرعانني دائما،
أنّى لأنثى تُعيلني وأنا الذكر لا أُطيق حراكا، وانطلق الذئب يبكي بحرقة أشد من
الأولى ونفسه يكاد يتقطع.
نبهان: هوّن عليك يا أخي سمعان، إنما الإخوة سند ودعامة لبعضهم بعضا، مُرني
بما تشاء فأنا هنا لخدمتك، وسآتيك بدوائك ولو كان في أقصى الأرض، ما هو دواؤك يا
أخي الحبيب؟
الذئب سمعان(بهدوء ورصانة): دوائي ليس في أقصى الأرض يا حبيبي، إنه أقرب
إليّ من جرائي النيام داخل المغارة، ولكنه دواء يتطلب التضحية في سبيله، وإنني لا
أستطيع مجاهرتك به فأنت أخي الذي أحترمه، واُكِنُّ له كل التقدير والاحترام
والمحبة، واُشفق عليه من كل قول أو خبر، يُكدره ويُنغص عليه هدوءه وراحته، أو
يُؤذيه من قريب أو من بعيد، ولكن سيخبرك صديقك غفلان فهو يعلمه، فأنا لا أملك
الجرأة والشجاعة لذلك.
غفلان( بكل برودة أعصاب ورباطة جأش، ودون لف أو دوران أو تصريح بالمعنى):
إن دواءه مخ ثعلب.
نبهان(مصدوما، وقد تجرع ريقه حتى كاد أن يغص به، وشخص ببصره قليلا، ثم
غاضبا على صديقه غفلان و يتلوّمه): ولما كان دواؤه ذاك يا صديقي، فلم لم تُعَجِّل
له بمخك حين عرفت الدواء؟ لم تركته على هذا الحال يتألم ويأسى ويندب حظه، وأنت
واقف لا تُحرك ساكنا؟ أما علمت أن شرف الأخُوَّةِ يُحتم عليك عدم تأخير أو تأجيل
نفع أو مصلحة لأخيك؟!
غفلان(ببرودة أعصاب وثبات جنان): لقد علمتُ هذا يا صاحبي، ولكن أبا الحارث
أدرك وعلم أنه لا مخ لديّ، بدليل أنني أمشي ساهيا ولا أنتبه للأخطار، ولا اُميز
الكلام ولا رأي عندي، ولا أعتقد أنك تُنكر هذا، فأنت تدري هذا الأمر جيدا وتعرفه،
لقد رآني أبو الحارث أمشي وكأنني مجنون غير مُبال ولا مُكترث لشيء، وغير مُنتبه أو
حذر لما قد يحل بي من خطر أو تهديد، وكل هذه دلالات على عدم وجود المخ في الرأس يا
صديقي.
سمعان(مخاطبا نبهان): أتدري يا أخي أنني أنا أيضا رأيت البارحة رُؤيا في
شأنك، لقد رأيت أنه أتاني آتٍ وقال لي: سيجيئك غدا أخوك المخلص البَرُّ الوفي،
التقي النقي الصفي، أبو الحصين نبهان، إلى حيث مغارتك ويقول لك: هل أنت في حاجة
إليّ يا رفيق الدّرب؟ سل تُعطَ، وقل تُصَدَّق، وتَمَنَّ تجد، فأنا كُلّي مُلك لك،
وأمري كله رهن إشارتك، وبمجرد أن تُخبره عن دواء دائك، فإنه سينبطح أمامك ويقول
لك: سمعا وطاعة يا أخي، خُذ مُخِّي لتشفى، فلا عشتُ إن لم تعش، ولا أبقاني الله في
دُنيا لا تكون أنت بها، إن نفسي فداك يا أخي الحبيب، فكُل مخي، وكُلني جميعا إن
شئت.
ففهم نبهان كل شيء، وعلم أن صاحبه أراد تقديمه قبله انتقاما منه، وأدرك أن
الذئب متى قضى على أحدهما فلن يُبقي على الآخر، وراح يُفكر في حيلة للخلاص، ثم
مُخاطبا الذئب: هل تُصدقني يا أبا الحارث
إذا قُلت لك إنه لا مُخ في رأسي أنا أيضا، إنه لا مُخ لمن يُناقش ويُجادل من هو
أقوى منه وأمكر، فصدقني يا أبا الحارث إنه مهما بلغ من ذكاء الضعيف ودهائه، إلا أن
هذا الذكاء والدهاء يحتاجان دائما وفي كل الظروف والأحوال إلى القوة، لتجسيد
الإرادة والطموح وتحقيق المُبتغى، فلو لم تكن داهية وقويا لما غلبت حُجتك حُجتي،
ولَمَا كان لكلامك الأثر القوي والبليغ على كلامي، وأما مُخي فلو كان سيفيدك لكان
قد أفادني قبلك، ودليل عدم إفادته لي، هو أنني الآن في مُقابلتك ومُواجهتك ومُحاورتك
عن قرب.
وفي هذه الأثناء صرخت جراء الذئب مُتضورة من الجوع، فأظهر الذئب التذلل
والأسى والحسرة واصطنع البكاء، واستمر متبالها متغابيا، وقال مُخاطبا نبهان: أرأيت
يا أخي، ليس هناك أشقى من أب يرى صغاره تتضور جوعا وتتألم بشدة، وهو ينظر إليهم
عاجزا عن توفير لقمة لهم، يسدون بها رمقهم، وغير قادر على فعل أيّ شيء لهم، ومن
المُؤكد يا أخي أن الله سبحانه وتعالى يُجازي بعظيم الجزاء، من رحم أَبًا وساعده
لأجل أبنائه، فَعَجِّل يا أخي بالانبطاح أمامي لآكل مخك فأتداوى به لأُشفى،
فتضوُّر الأبناء يُقرّح أكباد الآباء ويُؤرقهم، ويُنغص حياتهم وعيشهم، وأعتقد أنك
من أصحاب الجنة يا أخي، وإن الواحد إذا شهد له الصالحون مثلي فإنه فائز إن شاء
الله، وكيف لا تكون من الفائزين، وقد جئت لفعل الخير راكضًا لا يسبقك الجواد
الأصيل؟! فأبشر بالفوز العظيم يا أخي الحميم في جنان الخلد، حيث النعيم المقيم
الذي لا يحول ولا يزول، فلك البشرى يا أخي الشهيد، وإن في ما تفعل فليتنافس
المتنافسون، وإن الواحد منا يدعو دائما بحسن الخاتمة، وخاتمتك مسك وعنبر يا أيها
الشهيد المفتدي بنفسه من أجل حياة إخوانه، فأكثر الله من أمثالك يا أوحد زمانك، في
إيمانك وفي نيتك وتصرفاتك وأفعالك، فهذه لعمري صفات الصالحين الفائزين بإذن الله
رب العالمين.
الثعلب نبهان: بكل تأكيد يا أخي جُعلتُ فداك، وكل قوم الثعالب في الدنيا
فداك، فلا جزاني الله خيرا إن لـم أكـن عـنـد حـسـن ظـنـك، فـالـصـالحون قليل،
والخلق بما في أيديهم ضنين، ولكن مُخي وحده لا يكفي، يجب أن أهديك مُخي ومعه مُخ
صاحبي غفلان، ومُخَّانَا وحدهما غيرُ نافعين إذا لم يتوفر مُخ ثالث، ولكن ليس مخ
ثعلب.
الذئب(في سره): رائع؛ لم يُسَلِّم بهلاكه وحده حتى أراد إهلاك صديقه معه،
فلا بارك الله ولا قرّب صداقة تُشرك الصديق في الهلاك، إن صداقة الأشرار عاقبتها
الوبال والخسران، ولا تَجُـرُّ إلا الذلة والعار والهوان، ثم مُخاطبا نبهان: وما
هو هذا المخ الثالث يا نبهان العظيم؟ ولمن يكون؟
نبهان: مع مخ الثعلبين، مُخ جَـرْوَيْـنِ من الذئاب.
سمعان(غاضبا): ماذا قلت؟ مع الثعلبين جروان من الذئاب؟
نبهان: أجل يا أخي النبيه، هذا هو دواؤك.
سمعان: ولكن الحكيم تمساح شيخ الأطباء وكبيرهم ــ أبقاه الله لأمة الحيوان
ذخرا ــ أخبرني بغير ذلك.
نبهان: إذا أردت الشفاء فهذا هو الدواء، وأقسم لك أن الحكيم تمساح هو من
أخبرني بهذه الوصفة ودلني عليها.
سمعان(غاضبا وفي سره): أيها الفاجر اللئيم، تكذب وتُقسم، ثم تُريد الاحتيال
على جرائي لتقتل منهم اثنين، نعم إن مُجاراة الثعالب في الذكاء تهوّر وغباء،
وتَكَلُّفٌ لكبير مشقَّةٍ وشديد عناء، وإنني أرى إن هاجمتُ أحدهما نجا الآخر، ولا
آمن أن يتعاونا عليَّ معًا، إن قتال واحد لاثنين تهوّر وغباء كبيرين، قاتلين
مُهلكين معا الاثنين، لقد كان الرأي أن أفتك بالأول بعد أن نادى على صاحبه، ثم
عندما يحضر الثاني أكون قد استفردت به هو الآخر، وأهلكته دونما مُخاطرة أو تعب، إن
مواجهة اثنين معا جنون وخطل وعيّ، لقد ضاع الرأي والحزم عند النداء الأول...، ولكن
لأجل إهلاك ثعلبين خبيثين، سافلين، نذلين، خسيسين، تافهين، سأتظاهر بالموافقة على
التضحية بولدين.
ثم مُخاطبا نبهان: إنه في سبيل شفائي يا أبا الحصين، رضيتُ بأن أضحي
بولدين، وأقدمهما قُربانا لأبيهما، فهما فرع وأنا أصل، والولد مخلوف إن شاء الله،
فهيا يا أخي الشهيد انبطح لأستخرج مُخك، ولا تُناقش ولا تُجادل، فإن من يريد أن
يُقدم نفسه شهيدا في سبيل الله، لا يناقش كثيرا ولا يُجادل في: كيف...، ولماذا...،
ومتى...، وربما...، ولعل...، وسوف...، وهل...، ويجب كذا...، ومن المفروض...، وهب
أنَّ ...، وأشباه ذلك.
نبهان: بكل تأكيد يا أخي، فلنتعاون أوّلا على إخراج مُخي ولديك، ثم أتعاون
معك بعدها على استخراج مخ غفلان صديقي، ثم بعد كل ذلك أبقى لك أنا في الأخير
فتجدني سهلا، أما إن قتلت الأربعة جميعهم لوحدك، فإنك ستتعب في استخراج أمخاخهم
وجمعها، لذلك لا بد لك من مُساعد ومُعين، وإنني لك خير مُعين ومُساعد.
الذئب(في سره): يا لهذا الخسيس الوغد، ويُريد قتل جرواي أوّلا، لا ضير
سأهلكك أولا، أردتُ الاحتيال عليك فأردتَ الاحتيال عليّ، إن من يعتقد نفسه قادرا
على الاحتيال على الثعالب هو مُوسوس، ومريض بالوهم، ومُصاب بعقدة التفوق والتميز،
ولكن إذا فشلت كل الحيل الذكية للقضاء على الأعداء قضاءً مُبرما، والإطاحة بهم دون
عناء، فليس هناك من حيلة ولا حل أو خيار بعدها، سوى أن تنبذ إليهم على سواء، وتشن
عليهم الحرب الشعواء، وإذا تقابلت قُوَّتَان وتكافأتا في القوة والحيل والذكاء،
فإن النصر من نصيب الأمضى شوكة، والأقوى شراسة منهما، وإنني أنا الأمضى شوكة
والأقوى شراسة وفتكا.
ثم بادر بالهجوم، واندفع مُقاتلا ومُهاجما نبهان، فباغته وأسقطه أرضا،
بعدما عضه عضا كثيرا وشديدا، ولما رأى غفلان ما فعل الذئب بصديقه نبهان، كَـرَّ
على الذئب مُهاجما، فالتفت إليه الذئب واشتغل به دون صاحبه، فنهض نبهان واشتبك مع
سمعان، وصار الثعلبان في مُواجهة الذئب إلى أن أثبتاه وأعجزاه ثم هربا، ولما
ابتعدا بقي الذئب وحيدا ضريرا، يأسف ويأسى على الذي فاته من الفتك بالثعلبين، وراح
يندب حظه ويقول في سره: آااهٍ على نفسي وعلى عقلي، يبدو أنني كبرت وشخت وخرفت، وما
عدتُ ذكيا كالسابق، وإلا فمتى انتصر واحد على اثنين مُجتمعين مُتحدين؟ وإن حدث هذا
فأنا لم أسمع به، بل إن كل ما سمعته وعرفته، أن واحدا لا يغلب اثنين، ولو صار
تنينا يقذف اللهب من الفم وينفث الدخان من المنخرين، إن الواحد مهما بلغت قوته،
فلن يتأتّى له النصر على اثنين، إلا بعد أن ينفرد بأحدهما دون الآخر، آااهٍ ما
أمَرَّ وقع الخيبة على النفس، ولكن ليس لمن يتبصر الأمر بعد فواته، إلا تجرُّعُ
مرارة الحسرة والأسى رغم أنفه.
وأما الثعلبان فبعد أن تمكنا من الفرار والنجاة بجلديهما، وبعد ابتعادهما
توقفا للاستراحة، نطق نبهان وقال: الحمد لله على نجاتنا يا أخي، فلولا تعاوننا
لكنا فريسة لذلك اللئيم المفترس قبحه الله.
غفلان: نعم، إن في بعض الحالات، يجدر بك أن تنصر أخاك البغيض، ليس لأن
الواجب يحتم عليك ذلك، ولكن لأن الرأي أن تنصره، فنجاتك من نجاته، وهلاكه سيعجل
بنهايتك نهاية مأساوية.
نبهان: ما هذا الكلام الغامض غير المفهوم، وغير الواضح يا أخي غفلان؟ أنا
لم أفهم ما ترمي إليه وتقصده، تعال لنذهب إلى مكان خفي عن الأعداء، ونضمد جراح
بعضنا بعضا، ونواصل اتحادنا ونواجه الأعداء معا، ففي الإتحاد قوة كما رأيت، وفي
الخصومة والفرقة ضعف وسقوط في هُوّة.
غفلان: إن هذه الأقوال الجميلة، والحكم البليغة الرفيعة، يكون لها مغزاها
وصداها وثمرتها، عندما تكون هناك قناعة بجدوى الاتحاد، ومُراعاة مصالح الطرف
الآخر، والالتقاء على كلمة واحدة باتجاه الهدف الواحد، دون اتخاذ هذا الاتحاد مطية
ومأربا لتحقيق المصالح الذاتية؛ بمعنى خدمة مصلحة الفرد وتفضيلها وتقديمها على
مصلحة الجماعة، فإذا كان الأمر هكذا فهو ليس اتحادا، وإن كان يُقال بأن هناك
اتحاد، لأن الأمور ببواطنها، لا بشكلها وظاهرها، وهذا الاتحاد الذي يجعلك تستفيد
لوحدك فقط، أو تستفيد بما يضر الآخرين، هو استغلال وانتهازية، لا ضير في أن
تستفيد، ولكن ليس على حساب الآخرين واستغلالهم، وبما يضرهم ويُعَرِّضُ مصالحهم
وحياتهم للخطر، فالاتحاد مُشاورة وتفاهم، ومُراعاة للخصوصيات، والخروج بموقف واحد
يُراعَى فيه مصالح الجميع، بما يخدم الجميع، بموافقة الجميع.
نبهان: ما هذا الكلام الكبير يا أخي غفلان؟ أنا إنما أخاطبك وأكلمك عنا نحن
الاثنين، وأنت تتكلم بكلام أجدادنا الحكماء الذين كانوا يملكون الدنيا، وأقاموا
بها ممالك عظيمة.
غفلان: اسمع يا نبهان، إن كثرة الكلام تُورِثُ السَّأم والملال، ولذلك
فاسمع مني مختصر الكلام، إنه لا خير في صحبة تتحمل فيها الوزر وحدك، وتدفع فيها
الغـرم على مرور الأيام، صحيح أنك من قومي ومِلَّتي وعشيرتي، إلا أن الضرورة اقتضت
لأجل سلامتي في عاجل أمري وآجله وعاقبته، أن أنظر لنفسي واُفكر في نفعها، وأحميها
من كل الأخطار، ولا أكون تابعا لأيٍّ كان، ولو كان أخًا من الإخوان، سمعتَ الكلام
وإنني على يقين بأنك تُدرك المرام، فهذا ما لديّ والسلام.
وذهب وترك صاحبه ينظر ولا كلام.
بقلم: عبد
الكريم علمي
الجمهورية الجزائرية