عبد الكريم علمي
مأساة الغزال
قصة قصيرة: مأساة الغزال.
يقول فرويد: << يستمد الأنا
طاقاته من الهو، وقيوده من الأنا الأعلى، وعقباته من العالم الخارجي، فهو يخدم
ثلاثة سادة طغاة>>.
حدث بين الأسد والنمر والدب حزازة وطال أمدها، وبسبب هذه العداوة المستمرة
تعكَّر صفو الحياة في الغابة، إذ لا تطول الأيام حتى يكيد أحد المتخاصمين لأحد
منهم، وتنشب المعركة الحامية الدامية الطاحنة الضروس، التي إذا لم يتدخل أفراد
الغابة لفضها والفصل بين المتقاتلين لقتل أحدهما الآخر.
فكَّر الغزال في إنهاء هذا الصراع الدموي المتواصل الذي لا يتوقف، وقرر في
نفسه أن يقوم بمبادرة من عنده، يُؤاخي من خلالها بين الإخوة الأعداء، ويُنهي بها
هذا الصراع المرير، ليعود النقاء والصفاء والهدوء للغابة الخضراء، التي تعكر صفو جوها
بفعل هذا الصراع البغيض المقيت، الذي طال أمده، ولم تُعرف نهايته، ولم يعمل أحد
على بذل أيّ جهد لوقفه وإنهائه.
ذهب الغزال إلى الأسد، وأخبره أنه يُريده على انفراد عند مكان كذا...، في
الساعة كذا...، من يوم كذا...، وكذلك فعل مع النمر والدب، وأراد الغزال أن يجمع
بين الثلاثة في مكان واحد، ويكون ذلك اللقاء مفاجأة لهم الثلاثة، ويضعهم أمام
الأمر الواقع، ويعمل هو بكل ما أوتي من حكمة وحجة وبيان، الصلح والإخاء بينهم، وإنهاء الصراع
الطويل المرير، مُستغلا سمعته الحسنة بين الحيوانات وشخصه المحبوب والمقبول من طرف
الجميع، فالحيوانات تعتمده سفيرا للنِّيَّات الحسنة بينها.
لما أخبر الغزال الأسد عن الموعد، بقي الأسد متفكرا وقال في سره: غزال
يُريدني على انفراد، بعيدا عن السواد! فياله من عجب عُجاب! ولِمَ لا؟! الدنيا
تتغير...، ومن الواجب علينا التأقلم مع هكذا تطورات وتغيرات، ثم إنه لا يتخلف عن
موعد الغزال، إلا من أصيب عقله بالخبال والهزال، وعرّض نفسه للخسران والوبال، وصار
أمره إلى سوء الحال.
ولما تلقى الدب الدعوة قال في سره: عجيب هذا الأمر! إن مثل هذا لم يحدث من
قبل، ولا فكرت فيه، ولا منّيت نفسي بمثله، موعد بين الدب والغزال في مكان سري،
منعزل عن الأصحاب والأحباب، وعن الأعداء والخصوم والأنداد؟!
وحتى النمر فإنه هو أيضا لما تلقى دعوة الغزال، استغرب ذلك وقال في سره:
تُرى ما الذي يُريده مني هذا الغزال؟! وأيّ أمر مُهِمّ قد جدّ حتى يدعوني في مكان
مُحدد ووقت معلوم؟ يبدو أن هذا الغزال غبي، لا يُدرك حجم خطورة الأمر الذي أقدم
عليه، وإلا لما تهوَّر وأقدم على مثل هذا وهو يجهل العواقب، إن من جهل العواقب وقع
في المعاطب، وأتته البلايا والمصائب...، إنني مُندهش حقا كيف خطر ببال الغزال أن
يفعل ذلك، وهو معروف عنه الذكاء والفطنة ؟... ولكن قد يُعمِلُ الواحد ذكاءه في
أمر، ويعتقد نفسه قد أصاب وأجاد وأحسن التدبير، ثم لا يلبث أن يكتشف بأنه أساء
التصرف، وأخطأ الخطأ الفادح الكبير، ووقع في ورطة وأمر خطير .
وذهب الثلاثة في اليوم المعلوم والوقت المحدد، والتقوا على حين فجأة في
المكان المقرر، وقد سبقهم الغزال إليه، اجتمع ثلاثتهم وفوجئوا بالأمر، وغضبوا للذي
استجد عندهم من الغيظ جراء الأحقاد التي بينهم، لكن الغزال لم يُمهلهم، ولم يترك
لهم الفرصة لقول أو فعل أيّ شيء، وبدأ يُحدثهم عن الأخلاق والأخوة والتراحم
والتواد، ويُحذرهم من مخاطر الفرقة والتشرذم والعداوة والخصام، وأطال الغزال قليلا
خطبته العصماء فيهم، كان الغزال يتحدث بلغة فصيحة راقية، مطرزة بحكم بليغة،
ومُوشاة بمواعظ جليلة، كان يخطب والأسد والنمر والدب يستمعون، وينظرون إليه
ولعابهم يسيل، وينظرون إلى بعضهم بعضا بغيظ وغضب وحقد، وما أمهلوا الغزال لإنهاء كلامه
أو أجابوه، إنما شدّ ثلاثتهم ووثبوا عليه وفتكوا به ومزقوه وأهلكوه، فمات الغزال
من فوره، وبعدها استدار الثلاثة لبعضهم مكشرين مزمجرين، يتوعَّد بعضهم بعضا،
ويُحذر كل واحد منهم الآخر، ويُهدده بضرورة الابتعاد، وإلا حدث القتال والنزال،
وكل واحد يُريد الاستئثار لنفسه بالغزال، ويحظى به وليمة دون صاحبيه، ودخلوا في
مُصادمة عنيفة قاتلة، فما إن يضع أحدهم أنيابه في الغزال ناهشا، حتى يضع فيه
الآخران أنيابهما مُبعدانه عنه.
الأسد: إن الغزال غزالي، ومن يدنو منه أهلكته ولا أبالي.
النمر: بل إنه غزالي أنا، ومن منه
دنا، فقد جلب لنفسه الويل والبلاء.
الدب: بل إنه لي دون سواي، هو في نفسي دائما هَوَايَ ومُناي، سألتهمه وحدي،
فإياكما من منعي، وإن التهديد معي لا ينفع ولا يُجدي، فأنا لا أقدر على البعاد،
وإني أحذركما بضرورة الابتعاد،
فالأمر حقًّا جاد.
ولم يُسَلِّم أيّ منهم لأحدهم، وفي أثناء ذلك نظر الأسد في عيني النمر،
وتبادلا النظرات، وتكلما بلغة غير مفهومة لم يفهمها الدب، واستدارا إليه وتعاونا
عليه وفتكا به، ولم يُفلتاه حتى أردياه قتيلا، وحظي الأسد بالغزال، وحظي النمر
بالدب.
الأسد: من أين أبدؤك يا غزالي؟ يا أيها العزيز الغالي، لقد احترتُ وما
الحيرة من خصالي، على كُلّ، فكل ما فيك شهي مُثير، وأنت ممتلئ وفير.
النمر: من أين أبدؤك يا أيها الدب القذر الحقير، يا أيها السمج الوغد
البغيض الشرير، الذي قلّ له نظير، فكل ما فيك منفر ومقزز إلى حد كبير، وإن لحمك
وفير كثير، ولكنه نجس وعلى الهضم عصي وعسير.
ثم إن النمر ترك الدب وانعطف ناحية الأسد، فرمقه الأسد بنظرة غضب، وقال له:
ألم نتفق؟ أم تُريدنا أن نتقاتل؟
النمر: بلى اتفقنا، ولكن أنت تعلم أن الدب لا يصلح وليمة، ثم إن ما يجمعنا
أكثر مما يُفرقنا، فلِمَ لا نقتسم، ثم بعد ذلك نتحد؟ ولن يستطيع أحد بعد ذلك في
هذه الغابة أن يعترض طريقنا، أو أن يقف في وجهينا.
الأسد: بلى ...، كلام صواب، ما في ذلك شك ولا ارتياب، الضرورة تقتضي بأن
نتحد نحن الاثنان ضد كل دب أو أيّ حيوان...، ولكن على أن تكون الكلمة الأخيرة
لي...، وعلى أن يكون نصيبي من هذا الغزال
ضعف نصيبك...، فإن أنت رضيت التزمتُ بعهدي معك، ولن أخلفه أبدا ما حييت، وإن أنت
رفضت، فنحن من قد علمت.
النمر: تُريد أن تتزعم؟
الأسد: لا يكون الأسد إلا زعيما... .
النمر : حسنا، لا ضير؛ إذ مصلحتي محفوظة...، فليكن لك ذلك... .
وتقاسما الغزال بالطريقة التي اتفقا عليها، وافترساه وما أبقيا منه شيئا،
ثم ذهبا من ذلك المكان، ومنذ ذلك اليوم وهُمَا صديقان متحالفان، حسب الاتفاق
المُبرم بينهما.
بقلم: عبد
الكريم علمي
الجمهورية
الجزائرية