مروشة
العقيد بن دحو
"مروشة" كقيمة مطلقة ، لا اقل و لا اكثر حين نتحدث عن الجنون.
اتساءل في صمت و سمت لماذا فاتت "مروشة" على العديد من الادباء و
الفنانين و المثقفين ، و لا سيما مبدعي الجنوب ساكنة ادرار . يحولون (جنية) ادرار
بحواضرها الثلاث او هم الحواضر الاربع ان شئت : قورارة ، توات ، تديكلت ، و
تنزروفت الى لحظة مسحورة. تلك اللحظة ، التي يختطفها الفنان في مجرى الزمن ، نفي اللحظة
- لفظا ولحظا واشارة- يخطها على الورق شعرا او قصة او رواية او يثبتها على الحجر
نحثا او نقشا او على اللوح رسما لونا و شكلا او على الركح مسرحية ؛ تمثيلة تطهر او
تكفر من ادران انفعالات النفس او مدعاة للتفكير و التغيير من وجه المحيط بل العالم
،او على الشاشتين الصغيرة و الكبيرة مسلسلا تلفزيونيا او فيلما سينمائبا يصنع رايا
ووعيا جمعيا اين يشعر فيه الفرد حاجة الدولة اليه ، تماما كحاجة الدولة الى
الجماعة خرية و مساواة.
اتساءل ما الذي ينتظره اولئك الادباء و الفنانين و المثقفين و المفكرين
المحسوبين على الجهة و الحيز الجغرافي ، اكثر منها الانتماء الى الزمكان الحالة
ابداعا و محاكمة و تفكيرا.
ماذا ينتظرون هؤلاء النيام في بلهنية ، حتى ياتي ذاك (الاخر) من وراء
البحار ، و يحول مروشة الجنية الجزائرية الى جنية غربية تسر الناظرين ، و يبعثها
من العالم الاخر للى عالم البشر ، بل الى عالم الانسان مضافا الى الطبيعة.
اتساءل اين اولئك الغيورون على الصحراء و التصحر ؟! لطالما كسروا رؤوسنا بالانتساب و النسبة و
التناسب الى الجهة و الجهوية و (الجهونة) المريضة.
ما اخشاه ان تتحول مرووووووشة الجنية مؤمنة(مومنة)، حكاية الجدات و الاجداد
، و شيوخ كبار شعراء ملاحم الشعبية المغناة على ايقاع المزمار و القصب و الطبل الى
ابعاد عالمية. و من ثمة لم يعد لنا الا قضم الاظافر نكدا و ندما و غيظا قاتلا !.
ما نخشاه حقا ان تصير جنية ادرار الى انسية غرب ، اذا ما صادفت في سبيلها
فنانا مبدعا غربيا ، كما طارت من ذي قبل (سيدي هدارة) قصة الولد الذي تربى مع
النعام بين منطقتي حمادة تندوف و ادرار الى رواية ادبية عالمية سويدية مع الكاتبة
الصحفية (مونيكا زاك) Monica Zak. بل تحول البحث الادبي الروائي الى بحث علمي
(دليل المعلم) Guide de maitre.
انقذت من خلاله المنظومة التربوية السويدية من ستاتيكية التدريس النمطي.
صحيح بحثت يمينا و شمالا عن
"جنيات" يونانية ولم اعثر و اجد الا الهة شر و الهة قضاء و قدر ، يمثلون
(الاشباح) عند شاعر الانسانية الرومانسي و ليام تشكبير ، كظهور شبح (الوالد) ؛
الاب ، عند قصة هاملت التمثيلية العالمية.
اكتفت القصة الدرامية التراجيدية او الكوميدية بالاشارة الى الجنون ،
بالتلميح دون التصريح ، بالاثر الذي يخلفه الاثر ، كما ينبغي ان يكون و ليس كما هو
كائن.
تحدث الادب اليوناني ، و لا سيما التمثيلي منه عن (الاخذ) !.
يمكن ان نتخذ من البطل (اياس) نموذجا لحالة نوبات جنون. اشارت الى الجنون
كعقوبة البطل من لدن الالهة ، كيما تحقق التراجيدية اهم وحدة التطهير LA Catharsis.
الادب الاغريقي تحدث عن (التحويل) ، عن المسخ ، حينما فاجا اله الشعر و العربدة
(ابولو) "دافني" و هي تغتسل فتحولت الى شجرة.
في حين نجد الجنية واضحا تمام الوضوح في المذهب او المدرسة السيريالية ،
حين عمد الشاعر السيريالي (ملارميه) الى كتابة قصيدة اسطورة شتاءاته الطوال ،
ثلاثون سنة من ابداع "هيرودياد" Herodiade التي تابى
الا ان تتحول الى سمكة قرش ، سواء في حديثها الى مربيتها او حديثها الى المراة او
عودتها الى برجها العاجي ، كيما تحقق اهم الرؤوس الثلاثة في المذهب الباطني :
الملائكية - الكهانة - النرجسية.
فالملائكية : تعني الشاعر بخلق عالمه الخاص و يعيش فيه. اما الكهانة فتتجلى
في محافظة الشاعر على اسرار الشعر و غيرته عليها. اما النرجسية فتتمثل في اساليب
حياتها الشعائرية.
كما نجد في "ميلوزين" للشاعر السيريالي (رامبو) خير مثال اعظم
على المراة الطفلة. انها المثال الانثوي على (السنطور) الرجل ، تماما كما هي
(اليكترا) المثال الانثوي عند (اوديب ملكا) في عقدة اوديب عند المراة ، عند العالم
النمسوي السيكولوجي سيقموند فريود.
كونها امراة افعى ، لحظة كان القسم الاسفل من جسدها يتحول الى ذيل افعى في
ليالي السبت المشؤومة ، تقابل هذه الحالة لحظة تحول ذراعي "دافني" الى
غصني شجرة ، وساقيها الى جذور الشجرة .
تعود لحظة التحول هذه الى ثنائية الطبيعة في الرجل و المراة وعلاقتهما
بالعالم المادي.
ان "ميلوزين" لحظة عرفت ليلة الماساة ان زوجها قد راها و هي
تتحول الى افعى .نظرت من النافدة الى الليل ، الذي صار بالنسبة اليها ليل سحر و
اسر تطير من خلاله لرجاء الفضاء المطلق.
بعد ان كانت المراة كائنا بريئا اغرته الافعى ، صارت المراة الافعى المجنحة ، جنية
الفضاء تخلق الليل و تنشر عليه
السحر، ثم تتحول قبل بزوغ الفجر الى نجمة
الصباح او الى نجمة البحر Stella Maris.
معنى هذا ان المراة تشكلت عبر العديد من الازمنة ، بينما الرجل هو في سعي
دائم ليتشكل و يجد نفسه او حتى يعرف نفسه عند اي معبد من المعابد (دلفي) او غيره .
المراة منبع المدهش في الكون و الرجل الشاعر و حسب او مشاهد يتامل هذا
المدهش دون ان بتفهمه.
وللعبور من عالم مادي و محسوس الى عالم مجرد مرئيا يبقى (الحب) وطن الحلول
، المعادل اللامرئي ليقرب الشاعر من عالم الجنون.
حتى قال افلاطون الشاعر هو جنون سماوي ، و عن الجنون يقول ثانية : هو الملح
الذي يحمي العقل من الفساد.
لذا نجد في المخيال الشعبي الجمعي للعديد من الجدات من يمنعن ابنائهم و
بناتهن ، احفادهم و حفيداتهن من الرؤية بالمراة ليلا ، كون المراة احظة وسيلة عبور
(...) !
كما نجدهن عندما تحضر مائدة الطعام ترمي قليلا من الطعام ذات اليمين و ذات
الشمال و يرددن : اللهم اجعل خوتنا مومنات ومومنين !.
او كان ينثرن الملح على دماء الدباح و الاضاحي.
اذن الجنون هم اخوة لنا ، ليس كل
الجنون طبعا. فبعض الجنون اشرار كالهة الشر عن اليونان ، كاشرار البشر ، كجنون
التاريخ (الحرب) ، من يدقون اجراس و ينقرون دفوف الحرب.
خشيتنا ان تهرب عنا مملكة ادبنا وفنوننا و من جمهورية افكارنا و ثقافتنا
جنيتنا "مروشة" دون ان نقلدها وسام اعتراف ، دون ان نمكنها من جنسيتنا .
اخيرا دعنا نقول : "فلنكن مجانين ونطلب المحال" (شعار الثورة
الفرنسية) الوطن وطننا جميعا انس وجان ، عقلاء ومجانين ، و انصافا ايضا.
لن نسمح لجنيتنا مروشة ان تسرق منا ، و تجسد عند الاخر (.. ) لوحة فنية او
قطعة موسيقية سيمفونية او رواية او منحوثة او على الركح مسرحية او على البلاطو
مسهدا سينمائية كانقاذ و خلاص.
كانت المرحومة امي تحفظ عن ظهر قلب ملحمة "مروشة" للشاعر الشلالي
، من حين الى اخر تردد مقاطع :
لله يا زرق اجناح
نغديك العاشقين
سال على مروشة
جبالها دارقين
***
سال على مروشة
القلب ليها مشى
زادت قلبي شوشة
اقديت ياسامعين
***
مروشة تبكي
على مكاتب مولانا
شيرة زينة ياريم
متباعدين
***
سال على مروشة
جبالها دارقين.
خشيتنا ان تعود مونيكا زاك و تعود بمشروع عالمي لتحويل جنية الجزائر الى
جنية السويد.
قد تبدو الفكرة عجائبية غير انها شبيهة بالتاريخ ؛ لبناء خضارة يلزمنا
تاربخ و شبيه للتاريخ (مالرو). و التاربخ لا يرحم. التفريط في زمن البدر.
هم يصحك وهم يبكي ؛ لكنه ضحك كالبكاء !.
وكم ذا بمصر من المصحكات *** لكنه ضحك كالبكا.
او كما انشده المتنبي على احد اعياد مصر منذ الف سنة و نيف .