أحمد فاروق بيضون
قراءة في نص القصة القصيرة: نهايات مطروقة
للكاتب:
حسن أجبوه
النص:
------
--
نهايات مطروقة
للموت رائحة شبقة و نتنة، تعجل بتكويري كندف ثلجية تتضخم أحجامها نزولا
لقعر الغربة، أفتش مسارعة دقات عقارب الساعة، عمّا أدثر به عري جسدي المشتعل..
مخافة الفضيحة.. الطرقات المتتالية على الباب، تحاصر شرودي و تتغلغل داخل دماغي،
الذي يكاد ينفجر باحثة عن منفذ بين الأصوات لأدفن عاري البريء...
- إنه الزلزال ! عجلي بالهروب قبل أن تتهدم الحيطان..
- ياجماعة، دعونا نكسر الباب .
أصوات النسوة المنافقات تخدر أحاسيسي، فيتصاعد تدفق الأدرينالين بعروقي،
ليغدي بدني الكسيح و يحوله غيلة تزدرد كل الأجسام المتواطئة أمامها...
- يالهذا القدر العنيد! لمَ لمْ يمهلني هنيهات لأكمل صولاتي، وأجفف مستنقع
الآثام المحيط بذاكرتي!!
هؤلاء النسوة المتواريات خلف الباب بجلابيبهن السوداء أراهن وقد كتمن
تشفيهن بهلاكي، فأنا بالنسبة لهن مجرد دمية ممسوخة دخيلة على البلدة، فتنت أعين
شبابهن وأسالت لعاب شيوخهن، لتُقطع خيوط المودة وتنكشف أقنعة الرتابة..
أحاول بكل ما أوتيت من طاقة أن أزيح هذا الجلمود عن ساقي منازعة الألم و
الفضيحة.. تتمازج قطرات العرق مع تدفقات السائل الأحمر و اهتزازات ماتبقى من
الحيطان.. تتلاشى الأصوات المقززة ومعها تتوالى همهمات حشرجة تئنّ بجانبي.. هل
أكتمها ؟ لا بد من وأدها لتكمل تعداد الجثث التي دفنتها خلسة تحت سطح القبو.. هذا
الفقيه الزاني الذي طالما ادعى العفة والكفاف، باتت روحه الٱثمة بين يدي.. لابد من
التخلص منه و إخراس هاته الحشرجة و لنقل أن الزلزال فعل فعلته وذهب معه لخالقه ! باليد اليمنى حملت رفات بعض الحجر
المتساقط من السقف و طفقت أدق على هذا الوجه الزائف الذي يذكرني بالرجال.. كل
الرجال الذين رغبوا في انتهاك لحمي كان مصيرهم مثله..
لكن ماذا أنا فاعلة بعد انتهاء الأمر؟ سيفتضح أمري وتدرك تلك النسوة مصير
أزواجهن وأبنائهن الذين تصطف هياكلهم بالقبو ! (وقد ظننن) أنهم هاجروا للمدينة !
لابد من الهرب قبل فوات الأوان وأن... أحاول لملمة جسدي العاري و إبعاد
الصخرة الجاثمة فوق ركبتي... فلا أستطيع لذلك سبيلا.. تتوالى الهزات ومعها تتقاذف
النبضات وتتسارع والمصير المحتوم يدنو...
أدير وجهي ناحيته، فتشمئز نفسي من منظره الملطخ.. أتحسس الركام بجانبي
،الغبار والأتربة وقطع الزجاج ... بخفة ورشاقة أزرع القطعة بجيدي فتتطاير شرارات
الدماء لتغطي الضوضاء المستشرية بالمكان و يحل معها سكون لم أنعم به مُذ وطأت
رجلاي هذه البلدة.
تمت
____________________
✍️ القراءة:
هذا النص منذ مُستهل مشهديته السوداوية تشدُ أذهان كلُّ قارئ يقرأ النصّ؛
الفكرة من خلال المتن بتصاعد الأحداث لتبلغ ذروتها (الخشية المثخنة بالاستثارةTheme of apprehension)
نجدُ العُنوان العبقري (نهاياتٌ مطروقة) بالطبع (مطروق اسم للمفعول لفعل
(يُطرَق) تنبيها على وجود سندانٍ من نوازل متتالية تدكُّ الخطائين لتطهير آثامهم Catharsis.
ها هوذا النص تتعدد فيه ذورة أحداث مشوّقة - لينصب الأقداح حول (رمزيَّة
المرأة) ؛ ناهيك عن كل القص والرؤى بأنها مكمن الشر وينطلي أي خرابٍ أو دمار في
بوتقة وجودية جنس أنثوي وراء الأحداث، في إشارة منه لمك (زُليخَة) مع سيدنا يوسف
عليه السلام لم مكرت له وأيضا حضور (نسوَة)، نجد المرأة تشكل فكرة أخرى) theme of allurement and seduction) وهو الإغراء؛ لمَّا كانت تُغوي هؤلاء
الشيوخ بالبلدة الآثمة؛ حتى زوجاتهم) المنافقات( كما أكد لمدلولية الخداع في حبهم
الصادق لأزواجهن، أو حتى وجود بصيص من الرحماء في جعبتهن لإنقاذها؛ بل —إنهم جميعا
يشاهدون هلاكها في ماخور يشمل بعولتهن الزناة، وهنا نجد (الليدي ماكبِث)
الشكسبيرية تظهر بخنجرها لما آثرت الدماء الملكية ليصعَّدَ زوجها كرسيّ العرش؛ نجد
استخدام (الفعل المضارع) ( أدثر - تحاصر -
تصاعد- ينفجر - تكشف-تتوالى.. إلخ) في دلالة على سيرورة المشهد في تصوير
سنيماتوغرافيٍ مُتقن لتتواتر الأحداث، هكذا— نجد ذاك الطرق ومشلهد الانهيار تتماهى
مع قصيدة وليام ييتس (الظهور الثاني) the second coming
لما صور العالم ينهار جرَّاء الفوضى العارمة فمن القناص The falconerومن الصقر الطريد الفريسة The falcon!
السوداوية الطاغية في المشهد في بُقعة مدلهمّة من العالم كنمط من the black out أو التجهُّم والدجنة بلون يمكن أن يرمز إلى(اللاشيء) Spiritual vacuity، حيث الخواء الرَّوحي للنفس التي انغمست في الذنوب والآثام، حتى
المنافقات اللائي يتخفين وراء حجاب أسود يستر عوارهم الأخلاقي وهو مفهوم فكرة theme of appearance and reality، وحتى رجالهم الذين خدعوهم بشأن هجرتهم.
النهاية التي آثرتها بطلة الأحداث هي— الانتحار بقطع وريد جيدها بعدما
تقطعت السُبل بها وهي ترى أهوال القيامة تنزل بالجمع.. بل إنها انتقمت من ذاك الذي
يحتضر فأسكتته للأبد؛ جرائمٌ شتى ارتكبتها تلك الخاطئة، فليكن مصيرها المحتوم
(بيدي لا بيدِ عمرو)!
أهنئ الرائع على هذا النص الرائع المتقن؛ الذي قد يقتادنا للابتعاد عن
إتمام الأحداث القاتمة منذ البداية، لكنَّ جمال الأسلوب طوَّقنا في الولوج في
تصاعد الأحداث؛ حتى أني رأيتُ أن تستمر البطلة في البقاء على قيد الحياة لتطالها
يد العدالة الناجزة وكذلك إيضاح صور العوار الأخلاقي بجتمعها ليكون درساً قاسياً
وعبرة لنتدبر.
بقلمي🔖 أحمد فاروق بيضون - مصر /15 شباط 2024
تحياتي والورد 🌹🌼🌹